{ وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا } أي : لا بد من هذا أو هذا ، لأنهم رأوا الأمر تغير عليهم تغيرا أنكروه ، فعرفوا بفطنتهم أن هذا الأمر يريده الله ، ويحدثه في الأرض ، وفي هذا بيان لأدبهم ، إذ أضافوا الخير إلى الله تعالى ، والشر حذفوا فاعله تأدبا مع الله .
وقوله : وأنّا لا نَدْرِي أشَرّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْض أمْ أرَادَ بِهِمْ رَبّهُمْ رَشَدا يقول عزّ وجلّ مخبرا عن قيل هؤلاء النفر من الجنّ : وأنا لا ندري أعذابا أراد الله أن ينزله بأهل الأرض ، بمنعه إيانا السمع من السماء ورجمه من استمع منا فيها بالشهب أمْ أرَادَ بِهِمْ رَبّهُمْ رَشَدا يقول : أم أراد بهم ربهم الهدى بأن يبعث منهم رسولاً مرشدا يرشدهم إلى الحقّ . وهذا التأويل على التأويل الذي ذكرناه عن ابن زيد قبل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، عن الكلبي في قوله : وأنّا لا نَدْرِي أشَرّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْض أمْ أرَادَ بِهِمْ رَبّهُمْ رَشَدا أن يطيعوا هذا الرسول فيرشدهم أو يعصوه فيهلكهم .
وإنما قلنا القول الأوّل لأن قوله : وأنّا لا نَدْرِي أشَرّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْض عقيب قوله : وأنّا كُنّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ للسّمْعِ . . . الاَية ، فكان ذلك بأن يكون من تمام قصة ما وليه وقرب منه أولى بأن يكون من تمام خبر ما بعد عنه .
قرأه الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة وهو ظاهر المعنى ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها عطفاً على المجرور بالباء كما تقدم فيكون المعنى : وآمنا بأنا انتفى علمنا بما يراد بالذين في الأرض ، أي الناس ، أي لأنهم كانوا يسترقون علم ذلك فلما حرست السماء انقطع علمهم بذلك . هذا توجيه القراءة بفتح همزة { أنا } ومحاولة غير هذا تكلف .
وهذه نتيجة ناتجة عن قولهم : { وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع } [ الجن : 9 ] الخ لأن ذلك السمع كان لمعرفة ما يجري به الأمر من الله للملائكة ومما يُخْبِرُهُمْ به مما يريد إعلامهم به فكانوا على علم من بعض ما يتلقفونه فلما منعوا السمع صاروا لا يعلمون شيئاً من ذلك فأخبروا إخوانهم بهذا عساهم أن يعتبروا بأسباب هذا التغير فيؤمنوا بالوحي الذي حرسه الله من أن يطلع عليه أحد قبل الذي يوحَى به إليه والذي يحمله إليه .
فحاصل المعنى : إنا الآن لا ندري ماذا أريد بأهل الأرض من شر أو خير بعد أن كنا نتجسس الخبر في السماء .
وهذا تمهيد لما سيقولونه من قوله : { وإنا منا الصالحون } [ الجن : 11 ] ثم قولهم : { وإنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض } [ الجن : 12 ] ثم قولهم : { وإنا لما سمعنا الهدى آمنا به } إلى قوله : { فكانوا لجهنم حَطباً } [ الجن : 13 15 ] .
ومفعول { ندري } هو ما دل عليه الاستفهام بعده من قوله : { أشرّ أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً } وهو الذي علَّق فعل { ندري } عن العمل ، والاستفهام حقيقي وعادة المعربين لمثله أن يقدروا مفعولاً يستخلص من الاستفهام تقديره : لا ندري جواب هذا الاستفهام ، وذلك تقديرُ معنًى لا تقديرُ إعراب . هذا هو تفسير الآية على المعنى الأكمل وهي من قبيل قوله تعالى : { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } [ الأحقاف : 9 ] .
وليس المراد منها فيما نرى أنهم ينفون أن يعلموا ماذا أراد الله بهذه الشهب ، فإن ذلك لا يناسب ما تقدم من أنهم آمنوا بالقرآن إذ قالوا : { إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به } [ الجن : 1 ، 2 ] وقولهم : { فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً } [ الجن : 9 ] فذلك صريح في أنهم يدرون أن الله أراد بمن في الأرض خيراً بهذا الدّين وبصرف الجن عن استراق السمع .
وتكرير ( إنّ ) واسمها للتأكيد لكون هذا الخبر معرضاً لشك السامعين من الجن الذين لم يختبروا حراسة السماء .
والرشَد : إصابة المقصود النافع وهو وسيلة للخير ، فلهذا الاعتبار جعل مقابلاً للشر وأسند فعل إرادة الشر إلى المجهول ولم يسند إلى الله تعالى مع أن مقابله أسند إليه بقوله : { أم أراد بهم ربهم رشداً ، } جرياً على واجب الأدب مع الله تعالى في تحاشي إسناد الشر إليه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"وأنّا لا نَدْرِي أشَرّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْض أمْ أرَادَ بِهِمْ رَبّهُمْ رَشَدا "يقول عزّ وجلّ مخبرا عن قيل هؤلاء النفر من الجنّ: وأنا لا ندري أعذابا أراد الله أن ينزله بأهل الأرض، بمنعه إيانا السمع من السماء ورجمه من استمع منا فيها بالشهب "أمْ أرَادَ بِهِمْ رَبّهُمْ رَشَدا" يقول: أم أراد بهم ربهم الهدى بأن يبعث منهم رسولاً مرشدا يرشدهم إلى الحقّ. وهذا التأويل على التأويل الذي ذكرناه عن ابن زيد قبل.
وذُكر عن الكلبي... في قوله: "وأنّا لا نَدْرِي أشَرّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْض أمْ أرَادَ بِهِمْ رَبّهُمْ رَشَدا" أن يطيعوا هذا الرسول فيرشدهم أو يعصوه فيهلكهم.
وإنما قلنا القول الأوّل لأن قوله: "وأنّا لا نَدْرِي أشَرّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْض" عقيب قوله: "وأنّا كُنّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ للسّمْعِ..."، فكان ذلك بأن يكون من تمام قصة ما وليه وقرب منه أولى بأن يكون من تمام خبر ما بعد عنه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
يقولون: لما حدث هذا الحادث من كثرة الرجم ومنع الاستراق، قلنا: ما هذا إلا لأمر أراده الله بأهل الأرض، ولا يخلو من أن يكون شراً أو رشداً، أي: خيراً، من عذاب أو رحمة، أو من خذلان أو توفيق.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وهذا من أدبهم في العبارة، حيث أسندوا الشر إلى غير فاعل، والخير أضافوه إلى الله عز وجل. وقد ورد في الصحيح: "والشر ليس إليك".
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويمضي الجن في حكاية ما لقوه وما عرفوه من شأن هذه الرسالة في جنبات الكون، وفي أرجاء الوجود، وفي أحوال السماء والأرض، لينفضوا أيديهم من كل محاولة لا تتفق مع إرادة الله بهذه الرسالة، ومن كل إدعاء بمعرفة الغيب، ومن كل قدرة على شيء من هذا الأمر.
وهذا النفر من الجن يقول: إن استراق السمع لم يعد ممكنا، وإنهم حين حاولوه الآن -وهو ما يعبرون عنه بلمس السماء- وجدوا الطريق إليه محروسا بحرس شديد، يرجمهم بالشهب، فتنقض عليهم وتقتل من توجه إليه منهم. ويعلنون أنهم لا يدرون شيئا عن الغيب المقدر للبشر: (وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا).. فهذا الغيب موكول لعلم الله لا يعلمه سواه. فأما نحن فلا نعلم ماذا قدر الله لعباده في الأرض: قدر أن ينزل بهم الشر. فهم متروكون للضلال، أم قدر لهم الرشد -وهو الهداية- وقد جعلوها مقابلة للشر. فهي الخير، وعاقبتها هي الخير. وإذا كان المصدر الذي يزعم الكهان أنهم يستقون منه معلوماتهم عن الغيب، يقرر أنه هو لا يدري عن ذلك شيئا، فقد انقطع كل قول، وبطل كل زعم، وانتهى أمر الكهانة والعرافة. وتمحض الغيب لله، لا يجترئ أحد على القول بمعرفته، ولا على التنبؤ به. وأعلن القرآن تحرير العقل البشري من كل وهم وكل زعم من هذا القبيل! وأعلن رشد البشرية منذ ذلك اليوم وتحررها من الخرافات والأساطير! وهذا النفر من الجن يقول: إن استراق السمع لم يعد ممكنا، وإنهم حين حاولوه الآن -وهو ما يعبرون عنه بلمس السماء- وجدوا الطريق إليه محروسا بحرس شديد، يرجمهم بالشهب، فتنقض عليهم وتقتل من توجه إليه منهم. ويعلنون أنهم لا يدرون شيئا عن الغيب المقدر للبشر: (وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا).. فهذا الغيب موكول لعلم الله لا يعلمه سواه. فأما نحن فلا نعلم ماذا قدر الله لعباده في الأرض: قدر أن ينزل بهم الشر. فهم متروكون للضلال، أم قدر لهم الرشد -وهو الهداية- وقد جعلوها مقابلة للشر. فهي الخير، وعاقبتها هي الخير. وإذا كان المصدر الذي يزعم الكهان أنهم يستقون منه معلوماتهم عن الغيب، يقرر أنه هو لا يدري عن ذلك شيئا، فقد انقطع كل قول، وبطل كل زعم، وانتهى أمر الكهانة والعرافة. وتمحض الغيب لله، لا يجترئ أحد على القول بمعرفته، ولا على التنبؤ به. وأعلن القرآن تحرير العقل البشري من كل وهم وكل زعم من هذا القبيل! وأعلن رشد البشرية منذ ذلك اليوم وتحررها من الخرافات والأساطير!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وهذه نتيجة ناتجة عن قولهم: {وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع} [الجن: 9]... لأن ذلك السمع كان لمعرفة ما يجري به الأمر من الله للملائكة، ومما يُخْبِرُهُمْ به مما يريد إعلامهم به، فكانوا على علم من بعض ما يتلقفونه. فلما منعوا السمع صاروا لا يعلمون شيئاً من ذلك، فأخبروا إخوانهم بهذا عساهم أن يعتبروا بأسباب هذا التغير فيؤمنوا بالوحي الذي حرسه الله من أن يطلع عليه أحد قبل الذي يوحَى به إليه والذي يحمله إليه.
فحاصل المعنى: إنا الآن لا ندري ماذا أريد بأهل الأرض من شر أو خير بعد أن كنا نتجسس الخبر في السماء.