{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ }
يخبر تعالى أن من كفر بعد إيمانه ، ثم ازداد كفرا إلى كفره بتماديه في الغي والضلال ، واستمراره على ترك الرشد والهدى ، أنه لا تقبل توبتهم ، أي : لا يوفقون لتوبة تقبل بل يمدهم الله في طغيانهم يعمهون ، قال تعالى { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة } { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } فالسيئات ينتج بعضها بعضا ، وخصوصا لمن أقدم على الكفر العظيم وترك الصراط المستقيم ، وقد قامت عليه الحجة ووضح الله له الآيات والبراهين ، فهذا هو الذي سعى في قطع أسباب رحمة ربه عنه ، وهو الذي سد على نفسه باب التوبة ، ولهذا حصر الضلال في هذا الصنف ، فقال { وأولئك هم الضالون } وأي : ضلال أعظم من ضلال من ترك الطريق عن بصيرة ، وهؤلاء الكفرة إذا استمروا على كفرهم إلى الممات تعين هلاكهم وشقاؤهم الأبدي ، ولم ينفعهم شيء ، فلو أنفق أحدهم ملء الأرض ذهبا ليفتدي به من عذاب الله ما نفعه ذلك ، بل لا يزالون في العذاب الأليم ، لا شافع لهم ولا ناصر ولا مغيث ولا مجير ينقذهم من عذاب الله فأيسوا من كل خير ، وجزموا على الخلود الدائم في العقاب والسخط ، فعياذا بالله من حالهم .
أما الذين لا يتوبون ولا يستغفرون ولا يتوبون إلى رشدهم ، بل يصرون على الكفر فيزدادون كفراً . والذين يرتكسون فى كفرهم وضلالهم حتى تفلت منهم الفرصة ، وينتهى أمد الاختبار ، ويأتي دور الجزاء ، فهؤلاء لا توبة لهم ولا نجاة ، فقد قال - تعالى - بعد هذه الآيات : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ . . . } .
قوله - تعالى - { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً } .
قال قتادة وعطاء : نزلت فى اليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم . بموسى والتوراة . ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن .
وقال أبو العالية والحسن : نزلت فى أهل الكتاب جميعا ، آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه ثم كفروا به بعد مبعثه ، ثم ازدادوا كفرا بإصرارهم على ذلك ، وطعنهم فى نبوته فى كل وقت ، وعداوتهم له ، ونقضهم لعهودهم وصدهم الناس عن طريق الحق ، وسخريتهم بآيات الله .
ويمكن أن يقال : إن الآية الكريمة على عمومها فهى تتناول كل من آمن ثم ارتد عن الإيمان إلى الكفر ، وزداد كفرا بمقاومته للحق ، وإيذائه لأتباعه ، وإصراره على كفره وعناده وجحوده .
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبتهم فقال : { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وأولئك هُمُ الضآلون } .
أى أن هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا وعنادا وجحودا للحق { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } أى لن تتوقع منهم توبة حتى تقبل ، لأنهم بإصرارهم على كفرهم ، ورسوخهم فيه ، وتلاعبهم بالإيمان ، قد صاروا غير أهل للتوفيق لها ، ولأنهم حتى لو تابوا فتوبتهم إنما هى بألسنتهم فحسب ، أما قلوبهم فمليئة بالكفر والنفاق ولذا تعتبر توبتهم كلا توبة .
وبعضهم حمل عدم قبول توبتهم على أنهم تابوا عند حضور الموت ، والتوبة في هذا الوقت لا قيمة لها .
قال القرطبى : وهذا قول حسن كما قال - تعالى - : { وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن } وبعضهم حمل عدم قبول توبتهم على أنهم ماتوا على الكفر ، وإلى هذا المعنى اتجه صاحب الكشاف فقد قال . فإن قلت : قد علم أن المرتد كيفما ازداد كفرا فإنه مقبول التوبة إذا تاب فما معنى { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } ؟ قلت : جعلت عبارة عن الموت على الكفر ، لأن الذى لا تقبل توبته من الكفار هو الذى يموت على الكفر . كأنه قيل إن اليهود أو المرتدين الذين فعلوا ما فعلوا مائتون على الكفر ، داخلون فى جملة من لا تقبل توبتهم .
فإن قلت : فأى فائدة فى هذه الكناية ؟ أعنى أن كنى الموت على الكفر بامتناع قبول التوبة ؟ .
قلت : الفائدة فيها جليلة وهى التغليظ فى شأن أولئك الفريق من الكفار ، وإبراز حالهم فى صورة حالة الآيسين من الرحمى التى هى أغلظ الأحوال وأشدها ألا ترى أن الموت على الكفر إنما يخاف من أجل اليأس من الرحمة " .
والذى يبدو لنا أن الآية الكريمة أشد ما تكون انطباقا على أولئك الذين تتكرر منهم الردة من الإيمان إلى الكفر فهم لفساد قلوبهم ، وانطماس بصيرتهم واستيلاء الأهواء والمطامع على نفوسهم أصبح الإيمان لا استقرار له في قلوبهم بل يتلاعبون به ، ويبيعونه نظير عرض قليل من أعراض الدنيا ، وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - فى سورة النساء
{ إِنَّ الذين آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً لَّمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً } وقوله { وأولئك هُمُ الضآلون } أى الكاملون في الضلال ، البعيدون عن طريق الحق ، المستحقون لسخط الله وعذابه .
{ إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا } كاليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد الإيمان بموسى والتوراة ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد والقرآن ، أو كفروا بمحمد بعد ما آمنوا به قبل مبعثه ثم ازدادوا كفرا بالإصرار والعناد والطعن فيه والصد عن الإيمان ونقض الميثاق ، أو كقوم ارتدوا ولحقوا بمكة ثم ازدادوا كفرا بقولهم نتربص بمحمد ريب المنون أو نرجع إليه وننافقه بإظهاره . { لن تقبل توبتهم } لأنهم لا يتوبون ، أو لا يتوبون ، إلا إذا أشرفوا على الهلاك فكني عن عدم توبتهم بعدم قبولها تغليظا في شأنهم وإبرازا لحالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة ، أو لأن توبتهم لا تكون إلا نفاقا لارتدادهم وزيادة كفرهم ، ولذلك لم تدخل الفاء فيه . { وأولئك هم الضالون } الثابتون على الضلال .
قال قتادة ، وعطاء ، والحسن : نزلت هذه الآية في اليهود ، وعليه فالموصول بمعنى لام العهد ، فاليهود بعد أن آمنوا بموسى كفروا بعيسى وازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليه وسلم
وقيل أريد به اليهود والنصارى : فاليهود كما علمتَ ، والنصارى آمنوا بعيسى ثم كفروا فعبدوه وألهوه ثم ازدادوا كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم
وتأويل { لن تقبل توبتهم } إما أنه كناية عن أنهم لا يتوبون فتقبَل توبتهم كقوله تعالى : { ولا يقبل منها شفاعة } [ البقرة : 48 ] أي لا شفاعة لها فتقبل وهذا كقول امرىء القيس
* على لاَ حب لا يُهتدَى بمناره *
أي لا منار له ، إذ قد علم من الأدلة أنّ التوبة مقبولة ودليله الحصر المقصود به المبالغة في قوله : { وأولئك هم الضالون } . وإمَّا أنّ الله نهى نبيه عن الاغترَار بما يظهرونه من الإسلام نفاقاً ، فالمراد بعدم القبول عدم تصديقهم في إيمانهم ، وإما الإخبار بأنّ الكفر قد رسخ في قلوبهم فصار لهم سجية لا يحولون عنها ، فإذا أظهروا التوبة فهم كاذبون ، فيكون عدم القبول بمعنى عدم الاطمئنان لهم ، وأسرارُهم موكولة إلى الله تعالى . وقد أسلم بعض اليهود قبل نزول الآية : مثل عبد الله بن سلام ، فلا إشكال فيه ، وأسلم بعضهم بعد نزول الآية .
وقيل المراد الذين ارتدّوا من المسلمين وماتوا على الكفر ، فالمراد بالازدياد الاستمرار وعدم الإقلاع . والقول في معنى لن تقبل توبتهم كما تقدم . وعليه يكون قوله : { إن الذين كفروا وماتوا } توكيداً لفظياً بالمرادف ، ولِيُبْنى عليه التفريع بقوله : { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً } وأياماً كان فتأويل الآية مُتعين : لأنّ ظاهرها تعارضه الأدلة القاطعة على أنّ إسلام الكافر مقبول ، ولو تكرّر منه الكفر ، وأنّ توبة العُصاة مقبولة ، ولو وقع نقضها على أصح الأقوال وسيجيء مثل هذه الآية في سورة النساء ( 137 ) وهو قوله : { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن اللَّه ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً . }