{ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ ْ } أي : شكا ، وريبا ماكثا في قلوبهم ، { إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ْ } بأن يندموا غاية الندم ويتوبوا إلى ربهم ، ويخافوه غاية الخوف ، فبذلك يعفو اللّه عنهم ، وإلا فبنيانهم لا يزيدهم إلا ريبا إلى ريبهم ، ونفاقا إلى نفاقهم .
{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ ْ } بجميع الأشياء ، ظاهرها ، وباطنها ، خفيها وجليها ، وبما أسره العباد ، وأعلنوه .
{ حَكِيمٌ ْ } لا يفعل ولا يخلق ولا يأمر ولا ينهى إلا ما اقتضته الحكمة وأمر به فللّه الحمد{[385]} .
منها : أن اتخاذ المسجد الذي يقصد به الضرار لمسجد آخر بقربه ، أنه محرم ، وأنه يجب هدم مسجد الضرار ، الذي اطلع على مقصود أصحابه .
ومنها : أن العمل وإن كان فاضلا تغيره النية ، فينقلب منهيا عنه ، كما قلبت نية أصحاب مسجد الضرار عملهم إلى ما ترى . ومنها : أن كل حالة يحصل بها التفريق بين المؤمنين ، فإنها من المعاصي التي يتعين تركها وإزالتها .
كما أن كل حالة يحصل بها جمع المؤمنين وائتلافهم ، يتعين اتباعها والأمر بها والحث عليها ، لأن اللّه علل اتخاذهم لمسجد الضرار بهذا المقصد الموجب للنهي عنه ، كما يوجب ذلك الكفر والمحاربة للّه ورسوله .
ومنها : النهي عن الصلاة في أماكن المعصية ، والبعد عنها ، وعن قربها .
ومنها : أن المعصية تؤثر في البقاع ، كما أثرت معصية المنافقين في مسجد الضرار ، ونهي عن القيام فيه ، وكذلك الطاعة تؤثر في الأماكن كما أثرت في مسجد " قباء " حتى قال اللّه فيه :
{ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ْ } .
ولهذا كان لمسجد قباء من الفضل ما ليس لغيره ، حتى كان صلى الله عليه وسلم يزور قباء كل سبت يصلي فيه ، وحث على الصلاة فيه .
ومنها : أنه يستفاد من هذه التعاليل المذكورة في الآية ، أربع قواعد مهمة ، وهي :
كل عمل فيه مضارة لمسلم ، أو فيه معصية للّه ، فإن المعاصي من فروع الكفر ، أو فيه تفريق بين المؤمنين ، أو فيه معاونة لمن عادى اللّه ورسوله ، فإنه محرم ممنوع منه ، وعكسه بعكسه .
ومنها : أن الأعمال الحسية الناشئة عن معصية الله لا تزال مبعدة لفاعلها عن الله بمنزلة الإصرار على المعصية حتى يزيلها ويتوب منها توبة تامة بحيث يتقطع قلبه من الندم والحسرات .
ومنها : أنه إذا كان مسجد قباء مسجدا أسس على التقوى ، فمسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي أسسه بيده المباركة وعمل فيه واختاره اللّه له من باب أولى وأحرى .
ومنها : أن العمل المبني على الإخلاص والمتابعة ، هو العمل المؤسس على التقوى ، الموصل لعامله إلى جنات النعيم .
والعمل المبني على سوء القصد وعلى البدع والضلال ، هو العمل المؤسس على شفا جرف هار ، فانهار به في نار جهنم ، واللّه لا يهدي القوم الظالمين .
بين - سبحانه - الآثار التي ترتبت على هدم مسجد الضرار ، في نفوس هؤلاء المنافقين الأشرار فقال - تعالى - : { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
الريبة : اسم من الريب بمعنى الشك والقلب والحيرة ، وتقطع - بفتح التاء - أصلها تتقطع فحذفت إحدى التاءين ، من التقطع بمعنى التمزق . وقرأ بعضهم . " تقطع " - بضم التاء - من التقطيع بمعنى التفريق والتمزيق .
والاستثناء مفرغ من أعم الأوقات والأحوال ، والمستثنى منه محذوف ، والتقدير : لا يزال ما بناه هؤلاء المنافقون موضع ريبة وقلق في نفسهم في كل وقت حال إلا في وقت واحد وهو وقت أن تتمزق قلوبهم بالموت والهلاك أى : أنهم لا يزالون في قلق وحيرة ما داموا أحياء ، أما بعد موتهم فستتكشف لهم الحقائق ، ويجدون مصيرهم الأليم .
والسبب في أن هذا البناء كان مثار يبتهم وقلقهم حتى بعد هدمه ، أنهم بنوه نبية سيئة ، ولتلك المقاصد الأربعة الخبيثة التي بينتها الآية الأولى . فكانوا يخشون أن يطلع الله نبيهم على مقاصدهم الذميمة ، فهذه الخشية أورثتهم القلبق والريبة ، فلما أطاع الله - تعالى - نبيه على أغراضهم ، وتم هدم مسجد الضرار ، وانهار الجرف المتداعى المتساقط ، استمر قلقهم وريبهم ؛ لأنهم لا يدرون بعد ذلك ماذا سيفعل المؤمنون بهم .
وهكذا شأن الماكرين في كل زمان ومكان ، إنهم يعيشون طول حياتهم في فزع وقلق وخوف من أن ينكشف مكرهم ، ويظهر خداعهم .
وقوله : { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } تذييل قصد به تهديهم وزجرهم .
أى : والله - تعالى - عليم بكل شئ في هذا الكون ، وبكل ما يقوله ويفعله هؤلاء المنافقون سرا وجهرا : حكيم في كل تصرفاته وأفعاله وفى صنعه بهم ، وسيجازيهم يوم القيامة بما يستحقونه من عقاب .
وقوله : { لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ } أي : شكا ونفاقا بسبب إقدامهم على هذا الصنيع الشنيع ، أورثهم نفاقا في قلوبهم ، كما أشرب عابدو العجل حبه .
وقوله : { إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } أي : بموتهم . قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، والسدي ، وحبيب بن أبي ثابت ، والضحاك ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغير واحد من علماء السلف .
{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ } أي : بأعمال خلقه ، { حَكِيمٌ } في مجازاتهم عنها ، من خير وشر . {[13876]}
جملة : { لا يزال بنيانهم } يجوز أن تكون مستأنفة لتعدَاد مساوي مسجد الضرار بذكر سوءِ عواقبه بعد أن ذكرَ سوء الباعثِ عليه وبعد أن ذكر سوء وقعه في الإسلام بأن نهى الله رسوله عن الصلاة فيه وأمرَه بهدمه ، لأنه لما نهاه عن الصلاة فيه فقد صار المسلمون كلهم منهيين عن الصلاة فيه ، فسلب عنه حكم المساجد ، ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدمه . ويرجح هذا الوجه أنه لم يؤت بضمير المسجد أو البنيان بل جيء باسمه الظاهر .
ويجوز أن تكون خبراً ثانياً عن { الذين اتخذوا مسجداً ضراراً } [ التوبة : 107 ] كأنه قيل : لا تقم فيه ولا يزال ريبةً في قلوبهم ، ويكون إظهار لفظ { بنيانهم } لزيادة إيضاحه . والرابط هو ضمير { قلوبهم } .
والمعنى أن ذلك المسجد لما بنوه لغرض فاسد فقد جعلهُ اللّهُ سبباً لبقاء النفاق في قلوبهم ما دامت قلوبهم في أجسادهم .
وجَعل البنيان ريبةً مبالغة كالوصف بالمصدر . والمعنى أنه سبب للريبة في قلوبهم . والريبة : الشك ، فإن النفاق شك في الدين ، لأن أصحابه يترددون بين موالاة المسلمين والإخلاص للكافرين .
وقوله : { إلا أن تقطع قلوبهم } استثناء تهكمي . وهو من قبيل تأكيد الشيء بما يشبه ضده كقوله تعالى : { ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سَم الخياط } [ الأعراف : 40 ] ، أي يبقى ريبة أبداً إلا أن تقطع قلوبهم منهم وما هي بمُقطعة .
وجملة : { والله عليم حكيم } تذييل مناسب لهذا الجعل العجيب والإحكام الرشيق . وهو أن يكون ذلك البناء سببَ حسرة عليهم في الدنيا والآخرة .
وقرأ الجمهور { تُقطع } بضم التاء . وقرأه ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب { تَقطَّعَ } بفتح التاء على أن أصله تتقطع . وقرأ يعقوب { إلى أن تقطع } بحرف ( إلى ) التي للانتهاء .