وثانيها : قوله : { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي } أى : أبلغكم ما أوحاه الله إلى من الأوامر والنواهى ، والمواعظ والزواجر ، والبشائر والنذائر ، والعبادات والمعاملات .
قال الآلوسى : وجمع الرسالات مع أن رسالة كل نبى واحدة ، رعاية لاختلاف أوقاتها أو تنوع معانى ما أرسل - عليه السلام - به من العبادات والمعاملات - أو أنه أراد رسالته ورسالة غيره ممن قبله من الأنبياء كإدريس - عليه السلام - والجملة الكريمة مستأنفة لتقرير رسالته وتقرير أحكامها .
وثالثها : قوله : { وَأَنصَحُ لَكُمْ } أى : أبلغكم جميع تكاليف الله وأتحرى ما فيه صلاحكم وخيركم فأرشدكم إليه وآخذكم نحوه .
وأنصح : مأخوذ من النصح - وهو كما قال القرطبى - إخلاص النية من شوائب الفساد ، يقال : نصحته ونصحت له نصيحة ونصاحة - أى أرشدته إلى ما فيه صلاحه - ويقال : رجل ناصح الجيب ، أى : نقى القلب . والناصح الخالص من العسل وغيره ، مثل الناصع . وكل شىء خلص فقد نصح .
والفرق بين تبليغ الرسالة وبين النصح ، هو أن تبليغ الرسالة معناه أن يعرفهم جميع أوامر الله ونواهيه وجميع أنواع التكاليف التي كلفهم الله بها ، وأما النصح فمعناه أن يرغبهم في قبول تلك الأوامر والنواهى والعبادات ويحذرهم من عذاب الله إن عصوه .
وأما الصفة الرابعة فهى قوله : { وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أى : أبلغكم رسالات ربى وأنصح لكم عن إخلاص ، وأعلم في الوقت نفسه من الأمور الغيبية التي لا تعلم إلا عن طريق الوحى أشياء لا علم لكم بها ، لأن الله قد خصنى بها .
أو المعنى : وأعلم من قدرة الله الباهرة ، وشدة بطشه على أعدائه ، ما لا تعلمونه فأنا أحذركم عن علم ، وأنذركم عن بينة { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } قال ابن كثير : وهذا شأن الرسول أن يكون مبلغا نصيحاً عالماً بالله لا يدركه أحد من خلق الله في هذه الصفات كما جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم عرفة وهم أوفر ما كانوا وأكثر جمعاً : " أيها الناس ، إنكم مسئولون عنى ، فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت . فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكسها عليهم ، ويقول : اللهم اشهد ، اللهم اشهد " .
{ ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } .
إفاضة الماء : صبه ، ومادة الفيض فيها معنى الكثرة .
والمعنى : أن أهل النار - بعد أن أحاط بهم العذاب المهين - أخذوا يستجدون أهل الجنة بذلة وانكسار فيقولون لهم : أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله من طعام ، لكى نستعين بهما على ما نحن فيه من سموم وحميم .
وهنا يرد عليهم أهل الجنة بما يقطع آمالهم بسبب أعمالهم فيقولون لهم : إن الله منع كلا منهما على الكافرين ، الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، أى الذين اتخذوا دينهم - الذي أمرهم الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه - مادة للسخرية والتلهى ، وصرف الوقت فيما لا يفد ، فأصبح الدين - في زعمهم - صورة ورسوما لا تزكى نفساً ، ولا تطهر قلباً ، ولا تهذب خلقا وهم فوق ذلك قد غرتهم الحياة الدنيا - أى شغلتهم بمتعها ولذائذها وزينتها عن كل ما يقربهم إلى الله ، ويهديهم إلى طريقه القويم .
وقوله - تعالى - : { فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا } معناه فاليوم نفعل بهم فعل الناسى بالمنسى من عدم الاعتناء بهم وتركهم في النار تركا كليا بسبب تركهم الاستعداد لهذا اليوم ، وبسبب جحودهم لآياتنا التي جاءتهم بها أنبياؤهم .
فالنسيان في حق الله - تعالى - مستعمل في لازمه ، بمعنى أن الله لا يجيب دعاءهم ، ولا يرحم ضعفهم وذلهم ، بل يتركهم في النار كما تركوا الإيمان والعمل الصالح في الدنيا .
وهكذا تسوق لنا السورة الكريمة مشاهد متنوعة لأهوال يوم القيامة ، فتحكى لنا أحوال الكافرين ، كما تصور لنا ما أعده الله للمؤمنين . كما تسوق لنا ما يدور بين الفريقين من محاورات ومناقشات فيها العبر والعظات { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيد }
{ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : ما أنا ضال ، ولكن أنا رسول{[11850]} من رب كل شيء ومليكه ،
{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } وهذا شأن الرسول ، أن يكون بليغا فصيحا ناصحا بالله ، لا يدركهم أحد من خلق الله في هذه الصفات ، كما جاء في صحيح مسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم عرفة ، وهم أوفر ما كانوا وأكثر جمعا : " أيها الناس ، إنكم مسئولون عني ، فما أنتم قائلون ؟ " قالوا : نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت ، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكتُها عليهم ويقول : " اللهم اشهد ، اللهم اشهد{[11851]} {[11852]}
جملة : { أبلغكم رسالات ربي } صفة لرسول ، أو مستأنفة ، والمقصود منها إفادة التّجدّد ، وأنّه غير تاركٍ التّبليغَ من أجل تكذيبهم تأييساً لهم من متابعته إياهم ، ولولا هذا المقصد لكان معنى هذه الجملة حاصلاً من معنى قوله : { ولكني رسول } ، ولذلك جمع الرّسالات لأنّ كلّ تبليغ يتضمّن رسالة بما بلَّغَه ، ثمّ إن اعتُبرت جملة : { أبلغكم } صفة ، يكُن العدول عن ضمير الغيبة إلى ضمير التّكلّم في قوله : { أبلغكم } وقولِه : { ربي } التفاتاً ، باعتبار كون الموصوف خبراً عن ضمير المتكلّم ، وإن اعتُبرت استينافاً ، فلا التفات .
والتّبليغ والإبلاغ : جعل الشّيء بالغاً ، أي واصلاً إلى المكان المقصود ، وهو هنا استعارة للإعلام بالأمر المقصود علمُه ، فكأنّه ينقله من مكان إلى مكان .
وقرأ الجمهور : { أُبَلِّغكم } بفتح الموحّدة وتشديد اللاّم وقرأه أبو عَمرو ، ويعقوب : بسكون الموحدة وتخفيف اللاّم من الإبلاغ والمعنى واحد .
ووجه العدول عن الإضمار إلى الإظهار في قوله : { رسالات ربي } هو ما تؤذن به إضافة الرّب إلى ضمير المتكلّم من لزوم طاعته ، وأنّه لا يسعه إلاّ تبليغُ ما أمره بتبليغه ، وإن كَرِه قومه .
والنّصح والنّصيحة كلمة جامعة ، يعبّر بها عن حسن النّيّة وإرادة الخير من قولٍ أو عملٍ ، وفي الحديث : « الدّين النّصحية » وأن تُناصحوا من ولاّه الله أمركم . ويكثر إطلاق النّصح على القول الذي فيه تنبيه للمخاطب إلى ما ينفعه ويدفع عنه الضّر .
وضدّه الغشّ . وأصل معناه أن يتعدّى إلى المفعول بنفسه ، ويكثر أن يُعدّى إلى المفعول بلام زائدة دالة على معنى الاختصاص للدّلالة على أنّ النّاصح أراد من نصحه ذات المنصوح ، لا جلب خير لنفس النّاصح ، ففي ذلك مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة ، وأنّها وقعت خالصة للمنصوح ، مقصوداً بها جانبه لا غير ، فربّ نصيحة ينتَفع بها النّاصح فيقصد النّفعين جميعاً ، وربّما يقع تفاوت بين النّفعين فيكون ترجيح نفع النّاصح تقصيراً أو إجحافاً بنفع المنصوح .
وفي الإتيان بالمضارع دلالة على تجديد النّصح لهم ، وإنّه غير تاركه من أجل كراهيتهم أو بذاءتهم .
وعقب ذلك بقوله : { وأعلم من الله ما لا تعلمون } جمعاً لمعان كثيرة ممّا تتضمّنه الرّسالة وتأييداً لثباته على دوام التّبليغ والنّصح لهم ، والاستخفاف بكراهيتهم وأذاهم ، لأنّه يعلم ما لا يعلمونه ممّا يحمله على الاسترسال في عمله ذلك ، فجاء بهذا الكلام الجامع ، ويتضمّن هذا الإجمالُ البديعُ تهديداً لهم بحلول عذاب بهم في العاجل والآجل ، وتنبيهاً للتّأمّل فيما أتاهم به ، وفتحاً لبصائرهم أن تتطلب العلم بما لم يكونوا يعلمونه ، وكل ذلك شأنه أن يبعثهم على تصديقه وقبوللِ ما جاءهم به .
و { من } ابتدائية أي : صار لي علم وارد من الله تعالى ، وهذه المعاني التي تضمّنها هذا الاستدراك هي ما يُسلِّم كلّ عاقل أنّها من الهدى والصّلاح ، وتلك هي أحواله ، وهم وصفوا حاله بأنّه في ضلال مبين ، ففي هذا الاستدراك نعي على كمال سفاهة عقولهم .
وانتقَل إلى كشف الخطأ في شبهتهم فعطف على كلامه قولَه : { أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم } مفتتحاً الجملةَ بالاستفهام الإنكاري بعد واو العطف ، وهذا مشعر بأنّهم أحالوا أن يكون رسولاً ، مستدلّين بأنّه بشر مثلهم ، كما وقعت حكايته في آية أخرى { ما هذا إلاّ بشر مثلكم يريد أن يتفضّل عليكم } [ المؤمنون : 24 ] .
واختير الاستفهام دون أن يقول : لا عَجب ، إشارة إلى أنّ احتمال وقوع ذلك منهم ممّا يتردّد فيه ظن العاقل بالعقلاء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أبلغكم رسالات ربي} في نزول العذاب بكم في الدنيا، {وأنصح لكم} فيها وأحذركم من عذابه في الدنيا، {وأعلم من الله} في نزول العذاب بكم، {ما لا تعلمون} أنتم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن نبيه نوح عليه السلام أنه قال لقومه الذين كفروا بالله وكذّبوه: ولكني رسول من ربّ العالمين أرسلني إليكم، فأنا أبلغكم رسالات ربي، وأنصح لكم في تحذيري إياكم عقاب الله على كفركم به وتكذيبكم إياي وردّكم نصيحتي. "وأعْلَمُ مِنَ اللّهِ ما لا تَعْلمُونَ": من أن عقابه لا يردّ عن القوم المجرمين...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أبلغكم رسالات ربي} التي أمرني بتبليغها إليكم؛ قبلتم، أو رددتم. ثم لأني أبلّغها على أي حال استقبلتموني، أو يقول: {أبلّغكم رسالات ربي} رسالة ربي التي أرسلها إلي...
{وأنصح لكم} [يحتمل قوله: {وأنصح لكم}] أي أدعوكم، وآمركم إلى ما فيه صلاحكم، وأنهاكم عما فيه فسادكم. والنصيحة هي الدعاء إلى ما فيه الصلاح والنهي عما فيه الفساد. وتكون النصيحة لهم ولجميع المؤمنين...
قال أبو القاسم الحكيم، رحمة الله عليه: النصيحة هي النهاية من صدق العناية. ثم أخبر أنه يبلّغهم {رسالات ربي} ولم يبيّن في ماذا؟ في كتاب أنزله عليه، أو يوحي [إليه في غير كتاب]، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة سوى التصديق له في ما يبلّغ إليهم...
{وأعلم من الله ما لا تعلمون} قد أتاه من الله العلم بأشياء ما لم يأت أولئك مثله، وهو كقول إبراهيم، صلوات الله عليه، لأبيه {يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتّبعني} [مريم: 43]...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الإبلاغ: إيصال ما فيه بيان وإفهام، ومنه البلاغة... والرسالات جمع رسالة، وهي جملة من البيان يحملها القائم بها ليؤديها إلى غيره. وإنما جمع -ههنا- (رسالات) وفي موضع آخر "رسالة "على التوحيد، لأنه يشعر تارة بالجملة وتارة بالتفصيل، فلما دعا الى عبادة الله وطاعته واجتناب محارمه والعمل بشريعته، كان هذا تفصيل رسالات الله تعالى. ورسالات الله حكم: من ترغيب، وتحذير، ووعد، ووعيد، ومواعظ، ومزاجر، وحجج، وبراهين وأحكام يعمل بها، وحدود ينتهى اليها...
"وأنصح لكم" فالنصيحة: إخلاص النية من شائب الفساد في المعاملة. والنصح خلاف الغش في العمل، ولا يكون الغش إلا بسوء النية...
"وأعلم من الله مالا تعلمون" فيه حث لهم على طلب العلم من جهته، وتحذير من مخالفته، لما يعلم من العاقبة،... ويجوز أن يريد "وأعلم من" توحيد الله وصفاته وحكمته ما لا تعلمونه.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
النصح: هو أن يريد لغيره من الخير مثل ما يريد لنفسه، ومعناه: أرشدكم أني أريد لنفسي ما أريد لكم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{رسالات رَبّي} ما أوحي إليّ في الأوقات المتطاولة، أو في المعاني المختلفة من الأوامر والنواهي والمواعظ والزواجر والبشائر والنذائر. ويجوز أن يريد رسالاته إليه وإلى الأنبياء قبله. {وَأَنصَحُ لَكُمْ} يقال نصحته ونصحت له. وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة وأنها وقعت خالصة للمنصوح له مقصوداً بها جانبه لا غير، فرب نصيحة ينتفع بها الناصح فيقصد النفعين جميعاً ولا نصحية أمحض من نصيحة الله تعالى ورسله عليهم السلام. {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي من صفات الله وأحواله، يعني قدرته الباهرة وشدّة بطشه على أعدائه، وأن بأسه لا يردّ عن القوم المجرمين. وقيل: لم يسمعوا بقوم حلّ بهم العذاب قبلهم فكانوا آمنين لا يعلمون ما علمه نوح بوحي الله إليه، أو أراد: وأعلم من جهة الله أشياء لا علم لكم بها قد أوحى إليّ بها.
ثم إنه عليه السلام لما نفى عن نفسه العيب الذي وصفوه به، ووصف نفسه بأشرف الصفات وأجلها، وهو كونه رسولا إلى الخلق من رب العالمين. ذكر ما هو المقصود من الرسالة، وهو أمران: الأول: تبليغ الرسالة. والثاني: تقرير النصيحة. فقال: {أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم} وفيه مسائل:
المسألة الثانية: الفرق بين تبليغ الرسالة وبين النصيحة هو أن تبليغ الرسالة معناه: أن يعرفهم أنواع تكاليف الله وأقسام أوامره ونواهيه، وأما النصيحة: فهو أنه يرغبه في الطاعة، ويحذره عن المعصية، ويسعى في تقرير ذلك الترغيب والترهيب لأبلغ وجوه، وقوله: {رسالات ربي} يدل على أنه تعالى حمله أنواعا كثيرة من الرسالة. وهي أقسام التكاليف من الأوامر والنواهي، وشرح مقادير الثواب والعقاب في الآخرة، ومقادير الحدود والزواجر في الدنيا.
لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :
{وأنصح لكم}: النصح تحري قول أو فعل فيه صلاح للغير.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَأَنصَحُ لَكُمْ}: وصيغةُ المضارعِ للدِلالة على تجدد نصيحتِه لهم.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
قال الأصمعي: الناصح: الخالص من الغلّ، وكل شيء خلص فقد نصح...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{وَأَنصَحُ لَكُمْ} أي أتحرى ما فيه صلاحكم بناءً على أن النصح تحري ذلك قولاً أو فعلاً، وقيل: هو تعريف وجه المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه، والمعنى هنا أبلغكم أوامر الله تعالى ونواهيه وأرغبكم في قبولها وأحذركم عقابه إن عصيتموه، وأصل النصح في اللغة الخلوص يقال: نصحت العسل إذا خلصته من الشمع، ويقال: هو مأخوذ من نصح الرجل ثوبه إذا خاطه شبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح له بفعل الخياط فيما يسد من خلل الثوب، وقد يستعمل لخلوص المحبة للمنصوح له والتحري فيما يستدعيه حقه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة: {أبلغكم رسالات ربي} صفة لرسول، أو مستأنفة، والمقصود منها إفادة التّجدّد، وأنّه غير تاركٍ التّبليغَ من أجل تكذيبهم تأييساً لهم من متابعته إياهم، ولولا هذا المقصد لكان معنى هذه الجملة حاصلاً من معنى قوله: {ولكني رسول}، ولذلك جمع الرّسالات لأنّ كلّ تبليغ يتضمّن رسالة بما بلَّغَه...
والتّبليغ والإبلاغ: جعل الشّيء بالغاً، أي واصلاً إلى المكان المقصود، وهو هنا استعارة للإعلام بالأمر المقصود علمُه، فكأنّه ينقله من مكان إلى مكان. ووجه العدول عن الإضمار إلى الإظهار في قوله: {رسالات ربي} هو ما تؤذن به إضافة الرّب إلى ضمير المتكلّم من لزوم طاعته، وأنّه لا يسعه إلاّ تبليغُ ما أمره بتبليغه، وإن كَرِه قومه. والنّصح والنّصيحة كلمة جامعة، يعبّر بها عن حسن النّيّة وإرادة الخير من قولٍ أو عملٍ، ويكثر إطلاق النّصح على القول الذي فيه تنبيه للمخاطب إلى ما ينفعه ويدفع عنه الضّر. وضدّه الغشّ... وفي الإتيان بالمضارع دلالة على تجديد النّصح لهم، وإنّه غير تاركه من أجل كراهيتهم أو بذاءتهم. وعقب ذلك بقوله: {وأعلم من الله ما لا تعلمون} جمعاً لمعان كثيرة ممّا تتضمّنه الرّسالة وتأييداً لثباته على دوام التّبليغ والنّصح لهم، والاستخفاف بكراهيتهم وأذاهم، لأنّه يعلم ما لا يعلمونه ممّا يحمله على الاسترسال في عمله ذلك، فجاء بهذا الكلام الجامع، ويتضمّن هذا الإجمالُ البديعُ تهديداً لهم بحلول عذاب بهم في العاجل والآجل، وتنبيهاً للتّأمّل فيما أتاهم به، وفتحاً لبصائرهم أن تتطلب العلم بما لم يكونوا يعلمونه، وكل ذلك شأنه أن يبعثهم على تصديقه وقبول ما جاءهم به. و {من} ابتدائية أي: صار لي علم وارد من الله تعالى، وهذه المعاني التي تضمّنها هذا الاستدراك هي ما يُسلِّم كلّ عاقل أنّها من الهدى والصّلاح، وتلك هي أحواله، وهم وصفوا حاله بأنّه في ضلال مبين، ففي هذا الاستدراك نعي على كمال سفاهة عقولهم.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ثم بين الرسول الأمين واجبه وهو التبليغ والنصيحة، والدعوة إلى الهداية فقال الله تعالى عنه: {أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون (62)}.
{أبلغكم رسالات ربي} وعبر عنها بصيغة الجمع للدلالة على أنها متعددة النواحي، فهي للتوحيد، وهو رأسها، وعمادها. وإصلاح الجماعة، ونشر الفضيلة، وتكوين الأسرة، وتنظيم المعاملات الإنسانية على أساس العدل ومنع البغي ولتعميم الإحسان، وإصلاح الأرض ومنع الفساد...
وأضاف الرسالات إلى ربه – سبحانه وتعالى – لأنه منزلها، ولأنه القائم على الوجود، والمربي له، والعالم بكل ما يصلحه، وذكر أمرين يقوم بهما بعد تبليغ رسالات ربه، وإعلانها لهم:
أوالهما – أنه ينصح لهم، بمحض الحق مخلصا لهم، لا يأتي إلا بما فيه نفعهم، والخير العميم لهم، والنصيحة والنصح إخلاص النية من الغرض وقصد الفساد، نصحته ونصحت له، أي أخلصتها له.
ثانيهما – الإشارة إلى أنه عنده علم من الله لا يعلمونه؛ لأنه يخاطبه الله تعالى وحيا أو برسول من الملائكة أرسله إليه؛ ولذا قال في تأكيد نصحه، وبيان صدقه، وانه مرشد: {وأعلم من الله ما لا تعلمون} فاقبلوا نصحي وإرشادي، فإنه ليس مني، ولكن من الله ربكم ورب العالمين.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي} بكل أمانة، من غير زيادة ولا نقصان، فذلك هو دوري معكم، دور المبلّغ الأمين... ولكن دور الرسول ليس دور المبلّغ الحيادي الذي يكتفي بإيصال الرسالة دون أن يتبناها، بل دور من يحملها بقناعة وقوة وإيمان، وهذا ما توحي به الكلمة التالية: {وَأَنصَحُ لَكُمْ} باتِّباعها والسير على منهجها في الفكر والعلم لتحصلوا على سعادة الدنيا والآخرة. وقد يستوحي المتأمل من كلمة «النصح» الجوّ النفسي الحميم الذي كان يعيشه نوح تجاه قومه؛ فهو الإنسان الذي يتألم لانحرافهم وضلالهم، ويفكر في أفضل الطرق لإخراجهم من ذلك الضياع، فيقدم لهم النصيحة من كل روحه وقلبه؛ وتلك هي روحية الداعية في مواجهته للناس الذين يدعوهم إلى الله...