{ 120 - 123 } { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } .
يخبر تعالى عما فضل به خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، وخصه به من الفضائل العالية والمناقب الكاملة فقال : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } ، أي : إماما جامعا لخصال الخير هاديا مهتديا . { قَانِتًا لِلَّهِ } ، أي : مديما لطاعة ربه مخلصا له الدين ، { حَنِيفًا } ، مقبلا على الله بالمحبة ، والإنابة والعبودية معرضا عمن سواه . { وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ، في قوله وعمله ، وجميع أحواله ؛ لأنه إمام الموحدين الحنفاء .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف خليله ابراهيم - عليه السلام - بجملة من الصفات الفاضلة . والمناقب الحميدة .
وصفه أولا - بأنه { كان أمة } .
ولفظ { أمة } يطلق فى اللغة بإطلاقات متعددة ، منها : الجماعة ، كما فى قوله - تعالى - : { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ } أى : جماعة من الناس . . .
ومنها : الدين والملة ، كما فى قوله - تعالى - { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ . . } أى : على دين وملة .
ومنها : الحين والزمان كما فى قوله - سبحانه - : { وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } أى : إلى زمان معين .
والمراد بقوله - سبحانه - : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً . . } أى : كان عنده من الخير ما كان عند أمة ، أى جماعة كثيرة من الناس ، وهذا التفسير مروى عن ابن عباس .
وقال مجاهد : سمى - عليه السلام - أمة لانفراده بالإِيمان فى وقته مدة ما .
وفى صحيح البخارى أنه قال لزوجته سارة : ليس على الأرض اليوم مؤمن غيرى وغيرك .
ويصح أن يكون المراد بقوله - تعالى - : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً . . } أى : كان إماما يقتدى به فى وجوه الطاعات . وفى ألوان الخيرات ، وفى الأعمال الصالحات ، وفى إرشاد الناس إلى أنواع البر ، قال - تعالى - : { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً . . } ووصفه ثانيا - بأنه كان { قانتا لله } أى مطيعا لله ، خاضعا لأوامره ونواهيه ، من القنوت وهو الطاعة مع الخضوع .
ووصفه - ثالثا - بأنه كان ، حنيفا ، أى : مائلا عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق . من الحنف بمعنى الميل والاعوجاج ، يقال : فلان برجله حنف أى اعوجاج وميل .
ومنه قول أم الأحنف بن قيس وهى تداعبه :
والله لولا حنف برجله . . . ما كان فى فتيانكم من مثله
ووصفه - رابعا - بأنه منزه عن الإِشراك بالله - تعالى - فقال : { وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين } .
أى : ولم يكن ابراهيم - عليه السلام - من الذين أشركوا مع الله - تعالى - آلهة أخرى فى العبادة أو الطاعة ، أو فى أى من الأمور ، بل أخلص عبادته لخالقه - عز وجل - .
وقال - كما حكى القرآن عنه - : { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين }
يمدح [ تبارك و ]{[16733]} تعالى عبده ورسوله وخليله إبراهيم ، إمام الحنفاء ووالد الأنبياء ، ويبرئه من المشركين ، ومن اليهودية والنصرانية فقال : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا } ، فأما " الأمة " ، فهو الإمام الذي يقتدى به . والقانت : هو الخاشع المطيع . والحنيف : المنحرف قصدًا عن الشرك إلى التوحيد ؛ ولهذا قال : { وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
قال سفيان الثوري ، عن سلمة بن كُهَيْل ، عن مسلم البَطِين ، عن أبي العبيدين : أنه سأل عبد الله بن مسعود عن الأمة القانت ، فقال : الأمة : معلم الخير ، والقانت : المطيع لله ورسوله .
وعن مالك قال : قال ابن عمر : الأمة الذي يعلم الناس دينهم .
وقال الأعمش ، [ عن الحكم ]{[16734]} عن يحيى بن الجزار ، عن أبي العُبَيدين ؛ أنه جاء إلى عبد الله فقال : مَنْ نسأل إذا لم نسألك ؟ فكأن ابن مسعود رقَّ له ، فقال : أخبرني عن الأمة{[16735]} فقال : الذي يعلم الناس الخير .
وقال الشعبي : حدثني فروَة بن نوفل الأشجعي قال : قال ابن مسعود : إن معاذًا كان أمة قانتا لله حنيفا ، فقلت في نفسي : غلط أبو عبد الرحمن ، إنما قال الله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } ، فقال : أتدري ما الأمة وما القانت ؟ قلت : الله [ ورسوله ]{[16736]} أعلم . قال : الأمة الذي يعلم [ الناس ]{[16737]} الخير . والقانت : المطيع لله ورسوله . وكذلك كان معاذ معلم الخير . وكان مطيعا لله ورسوله .
وقد روي من غير وجه ، عن ابن مسعود ؛ حرره ابن جرير{[16738]} .
وقال مجاهد : { أُمَّةً } ، أي : أمة وحده ، والقانت : المطيع . وقال مجاهد أيضًا : كان إبراهيم أمة ، أي : مؤمنا وحده ، والناس كلهم إذ ذاك كفار .
{ إن إبراهيم كان أمّةً } لكماله واستجماعه فضائل لا تكاد توجد إلا مفرقة في أشخاص كثيرة كقوله :
ليس من الله بمُستنكرٍ *** أن يجمع العالم في واحدِ
وهو رئيس الموحدين وقدوة المحققين الذي جادل فرق المشركين ، وأبطل مذاهبهم الزائغة بالحجج الدامغة ، ولذلك عقب ذكره بتزييف مذاهب المشركين من الشرك والطعن في النبوة وتحريم ما أحله ، أو لأنه كان وحده مؤمنا وكان سائر الناس كفارا . وقيل : هي فعلة بمعنى مفعول ، كالرحلة والنخبة من أمه إذا قصده ، أو اقتدى به فإن الناس كانوا يؤمونه للاستفادة ، ويقتدون بسيرته كقوله : { إني جاعلك للناس إماما } ، { قانتاً لله } ، مطيعا له قائما بأوامره . { حنيفا } ، مائلا عن الباطل . { ولم يكُ من المشركين } ، كما زعموا فإن قريشا كانوا يزعمون أنهم على ملة إبراهيم .
استئناف ابتدائي للانتقال إلى غرض التّنويه بدين الإسلام بمناسبة قوله : { ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا } [ سورة النحل : 119 ] المقصودِ به أنّهم كانوا في الجاهلية ثم اتّبعوا الإسلام ، فبعد أن بشرهم بأنه غفر لهم ما عملوه من قبل زادهم فضلاً ببيان فضل الدين الذي اتّبعوه .
وجُعل الثناء على إبراهيم عليه السلام مقدّمة لذلك لِبيان أن فضل الإسلام فضْل زائد على جميع الأديان بأن مبدأه برسول ومنتهاه برسول . وهذا فضل لم يحظ به دين آخر .
فالمقصود بعد هذا التمهيد وهاته المقدّمة هو الإفضاء إلى قوله : { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً } [ سورة النحل : 123 ] ، وقد قال تعالى في الآية الأخرى : { ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل } [ سورة الحج : 78 ] .
والأصل الأصيل الذي تفرّع عنه وعن فروعه هذا الانتقالُ ما ذكر في الآية قبلها من تحريم أهل الجاهلية على أنفسهم كثيراً مما أنعم الله به على الناس .
ونظّرهم باليهود إذ حرّم الله عليهم أشياء ، تشديداً عليهم ، فجاء بهذا الانتقال لإفادة أن كلا الفريقين قد حادوا عن الحنيفية التي يزعمون أنهم متابعوها ، وأن الحنيفية هي ما جاء به الإسلام من إباحة ما في الأرض جميعاً من الطيّبات ، إلا ما بيّن الله تحريمه في آية { قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً } [ سورة الأنعام : 145 ] الآية .
وقد وُصف إبراهيم عليه السلام بأنه كان أمّة . والأمّة : الطائفة العظيمة من الناس التي تجمعها جهة جامعة . وتقدم في قوله تعالى { كان الناس أمّة واحدة } في سورة البقرة ( 213 ) . ووصفُ إبراهيم عليه السلام بذلك وصفٌ بديع جامع لمعنيين :
أحدهما : أنه كان في الفضل والفتوة والكمال بمنزلة أمّة كاملة . وهذا كقولهم : أنت الرجل كل الرجل ، وقول البحْتري :
ولم أر أمثال الرجال تفاوتاً *** لدى الفضل حتى عُدّ ألفٌ بواحد
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " مَعاذٌ أمّة قانتٌ لله " . والثاني : أنه كان أمّة وحده في الدين لأنه لم يكن في وقت بعثته ، موحّدٌ لله غيره . فهو الذي أحيا الله به التوحيد ، وبثّه في الأمم والأقطار ، وبنَى له معلماً عظيماً ، وهو الكعبة ، ودعا الناس إلى حجّه لإشاعة ذكره بين الأمم ، ولم يزل باقياً على العصور . وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم في خَطر بن مالك الكاهن : " وأنه يبعث يوم القيامة أمّةً وحدَه " رواه السهيلي في « الروض الأنف » . ورأيت رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذه المقالة في زيد بن عَمرو بن نُفيل .
والقانت : المطيع . وقد تقدم في قوله تعالى { وقوموا لله قانتين } في سورة البقرة ( 238 ) .
واللام لام التقوية لأن العامل فرع في العمل .
والحنيف : المجانب للباطل . وقد تقدم عند قوله : { قل بل ملّة إبراهيم حنيفاً } في سورة البقرة ( 135 ) ، والأسماء الثلاثة أخبار { كان } وهي فضائل .
{ ولم يك من المشركين } اعتراض لإبطال مزاعم المشركين أن ما هم عليه هو دين إبراهيم عليه السلام . وقد صوّروا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يستقسمان بالأزلام ووضعوا الصورة في جوف الكعبة ، كما جاء في حديث غزوة الفتح ، فليس قوله : { ولم يك من المشركين } مسوقاً مساق الثناء على إبراهيم ولكنه تنزيه له عمّا اختلقه عليه المبطلون . فوزانه وزان قوله : { وما صاحبكم بمجنون } [ سورة التكوير : 22 ] . وهو كالتأكيد لوصف الحنيف بنفي ضدّه مثل { وأضلّ فرعون قومه وما هدى } [ سورة طه : 79 ] .
ونُفي كونه من المشركين بحرف لم } لأن { لم } تقلب زمن الفعل المضارع إلى الماضي ، فتفيد انتفاء مادة الفعل في الزمن الماضي ، وتفيد تجدّد ذلك المنفي الذي هو من خصائص الفعل المضارع فيحصل معنيان : انتفاءُ مدلول الفعل بمادته ، وتجدّد الانتفاء بصيغته ، فيفيد أن إبراهيم عليه السلام لم يتلبّس بالإشراك قط ، فإن إبراهيم عليه السلام لم يشرك بالله منذ صار مميّزاً ، وأنه لا يتلبّس بالإشراك أبداً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن إبراهيم كان أمة}، يعني: معلما، يعني: إماما يقتدى به في الخير،
{قانتا}: مطيعا، {لله حنيفا}، يعني: مخلصا،
ابن العربي: قال ابن وهب، وابن القاسم كلاهما عن مالك، قال: بلغني أن عبد الله بن مسعود قال: يرحم الله معاذ بن جبل، كان أمة قانتا لله، فقيل: يا أبا عبد الرحمن، إنما ذكر الله بهذا إبراهيم! فقال ابن مسعود: إن الأمة الذي يعلم الإنسان الخير، وإن القانت هو المطيع...
ابن كثير: عن مالك: قال: قال ابن عمر: الأمة: الذي يعلم الناس دينهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إن إبراهيم خليل الله كان مُعَلِّم خَيْر، يأتمّ به أهل الهدى "قانتا"، يقول: مطيعًا لله "حنيفا": يقول: مستقيما على دين الإسلام. "وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ"، يقول: ولم يك يُشرك بالله شيئا، فيكون من أولياء أهل الشرك به، وهذا إعلام من الله تعالى أهل الشرك به من قريش أن إبراهيم منهم بريء، وأنهم منه برآء. "شَاكِرًا لأنْعُمِهِ"، يقول: كان يخلص الشكر لله فيما أنعم عليه، ولا يجعل معه في شكره في نعمه عليه شريكا من الآلهة والأنداد وغير ذلك، كما يفعل مشركو قريش. "اجْتَبَاهُ"، يقول: اصطفاه واختاره لخُلته. "وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"، يقول: وأرشده إلى الطريق المستقيم، وذلك دين الإسلام لا اليهودية ولا النصرانية...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقال بعضهم: {أمة قانتا}، أي: مؤمنا وحده، والناس كلهم كفار...
ويحتمل أن يكون سماه أمة لما كان كالأمة والجماعة من القيام على الأعداء؛ لأنه وإن كان منفردا وحده كان قيامه على الأعداء والأكابر منهم كالجماعة والعدد...
ويحتمل قوله: {كان أمة}، أي: مجمع كل خير وكل طاعة لما عمل هو من الخير عمل الجماعة، واجتمع فيه كل خير، فسماه أمة لهذا الذي ذكرنا...
والقنوت كما ذكر أنه سئل (رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) عن أفضل الصلاة، فقال: (طول القنوت) (مسلم 756 / 164)، أي: طول القيام. فعلى هذا المعنى: هو القائم لله في كل ما تعبده، وأمره به...
"حنيفا "وأصل الحَنف الميل، أي: كان مائلا إلى أمر الله وما تعبده به، والله أعلم...
وقوله تعالى: {ولم يك من المشركين}، لا شك أنه لم يكن من المشركين، لكنه ذكر هذا لوجهين:
أحدهما: لما ادعى كل أهل الأديان أنهم على دينه، وانتسبت كل فرقة إليه، فبرأه الله من ذلك، وأخبر أنه ليس على ما هم عليه من الدين. وهو ما قال: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا} الآية (آل عمران: 67)...
والثاني: ذكر أنه لم يكن من المشركين بقوله: {قال هذا ربي} (الأنعام: 76 و 77 و: 78)؛ لأنه هو قال ذلك عنه على ظاهر ما نطق، وكان ذلك في الظاهر إشراكا، ففيه شبهة في ظاهره، فبرأه الله عن ذلك، وأخبر أن ذلك منه لم يكن إشراكا، ولكن على المحاجة، خرج ذلك منه محاجة لقومه كقوله: {وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه} (الأنعام: 83)، والله أعلم...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{قانتاً لله}... كثير الدعاء لله عز وجل...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... أي: كان إماماً في الدين؛ لأنّ الأئمة معلمو الخير... والحنيف: المائل إلى ملة الإسلام غير الزائل عنه. ونفى عنه الشرك تكذيباً لكفار قريش في زعمهم أنهم على ملة أبيهم إبراهيم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
لما كشف الله تعالى فعل اليهود وتحكمهم في شرعهم بذكر ما حرم عليهم، أراد أن يبين بُعدهم عن شرع إبراهيم، والدعوى فيه أن يصف حال إبراهيم ليبين الفرق بين حاله وحال قريش أيضاً... و {أمة} لفظة مشتركة تقع للعين والقامة والجمع الكثير من الناس، ثم يشبه الرجل العالم أو الملك أو المنفرد بطريقة وحده بالناس الكثير فيسمى {أمة}، وعلى هذا الوجه سمي إبراهيم عليه السلام {أمة}... وفي البخاري أنه قال لسارة: ليس على الأرض اليوم مؤمن غيري وغيرك... الأخفش: «الأمة» فعلة، من أم يؤم، فهو كالهُزْأة والضحكة، أي: يؤتم به...
وقوله: {من المشركين}، يشير إلى تبرؤ حال إبراهيم عليه السلام من حال مشركي العرب ومشركي اليهود؛ إذ كلهم ادعاه، ويلزم الإشراك اليهود من جهة تجسيمهم...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْحَنِيفُ: الْمُخْلِصُ، وَكَانَ إبْرَاهِيمُ قَائِمًا لِلَّهِ بِحَقِّهِ صَغِيرًا وَكَبِيرًا، آتَاهُ اللَّهُ رُشْدَهُ، كَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ، فَنَصَحَ لَهُ، وَكَسَّرَ الْأَصْنَامَ، وَبَايَنَ قَوْمَهُ بِالْعَدَاوَةِ، وَدَعَا إلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَلَمْ تَأْخُذْهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ؛ فَأَعْطَاهُ اللَّهُ أَلَّا يَبْعَثَ نَبِيًّا بَعْدَهُ إلَّا من ذُرِّيَّتِهِ، وَأَعْطَاهُ اللَّهُ أَلَّا يُسَافِرَ فِي الْأَرْضِ، فَتَخْطُرُ سَارَةُ بِقَلْبِهِ إلَّا هَتَكَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا الْحِجَابَ، فَيَرَاهَا، وَكَانَ أَوَّلَ من اخْتَتَنَ، وَأَقَامَ مَنَاسِكَ الْحَجِّ، وَضَحَّى، وَعَمِلَ بِالسُّنَنِ نَحْوَ قَصِّ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفِ الْإِبِطِ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ، وَأَعْطَاهُ اللَّهُ الذِّكْرَ الْجَمِيلَ فِي الدُّنْيَا، فَاتَّفَقَتْ الْأُمَمُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَنْقُصْ مَا أُعْطِيَ فِي الدُّنْيَا من حَظِّهِ فِي الْآخِرَةِ، وَأُوحِيَ إلَى مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ، فَإِنَّهُ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا، وَمَا كَانَ من الْمُشْرِكِينَ. فَعَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ، وَيُعَلِّمَ الْأُمَّةَ، فَيَكُونَ فِي دِينِ إبْرَاهِيمَ عَلَى الْمِلَّةِ...
اعلم أنه تعالى لما زيف في هذه السورة مذاهب المشركين في أشياء، منها قولهم بإثبات الشركاء والأنداد لله تعالى، ومنها طعنهم في نبوة الأنبياء والرسل عليهم السلام، وقولهم لو أرسل الله رسولا لكان ذلك الرسول من الملائكة. ومنها قولهم بتحليل أشياء حرمها الله، وتحريم أشياء أباحها الله تعالى، فلما بالغ في إبطال مذاهبهم في هذه الأقوال، وكان إبراهيم عليه السلام رئيس الموحدين وقدوة الأصوليين، وهو الذي دعا الناس إلى التوحيد وإبطال الشرك وإلى الشرائع. والمشركون كانوا مفتخرين به معترفين بحسن طريقته مقرين بوجوب الاقتداء به، لا جرم ذكره الله تعالى في آخر هذه السورة، وحكى عنه طريقته في التوحيد ليصير ذلك حاملا لهؤلاء المشركين على الإقرار بالتوحيد والرجوع عن الشرك...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
والقانت: هو الخاشع المطيع. والحنيف: المنحرف قصدًا عن الشرك إلى التوحيد؛ ولهذا قال: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما دعاهم إلى مكارم الأخلاق ونهاهم عن مساوئها بقبوله لمن أقبل إليه وإن عظم جرمه، إجابة لدعوة أبيهم إبراهيم عليه السلام في قوله:
{فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم} [إبراهيم: 36]، أتبع ذلك ذكره ترغيباً في اتباعه في التوحيد، والميل مع الأمر والنهي إقداماً وإحجاماً إن كانوا ممن يتبع الحق أو يقلد الآباء، فقال على سبيل التعليل لما قبله: {إن إبراهيم}، أي: أباكم الأعظم إمام الموحدين، {كان أمة}، فيه من المنافع الدنيوية والأخروية ما يوجب أن يؤمه ويقصده كل أحد يمكن انتفاعه به، {قانتاً}، أي: مخلصاً، {لله}، أي: الملك الذي له الأمر كله ليس فيه شيء من الهوى، {حنيفاً}، ميالاً مع الأمر والنهي بنسخ أو بغيره، فكونوا حنفاء أتباعاً للحق، لما قام عليه من الأدلة، واستناناً بأعظم آبائكم.
ولما كان السياق لإثبات الكمال لإبراهيم عليه السلام، وكانت الأوصاف الثبوتية قريبة المأخذ سريعة الوصول إلى الفهم، وأتى بعدها وصف سلبي بجملة، حذف نون {يكن} منها؛ إيجازاً وتقريباً للفهم تخفيفاً عليه وحفظاً له من أن يذهب قبل تمامها إلى غير المراد، وإعلاماً بأن الفعل منفي عنه عليه السلام على أبلغ وجوه النفي لا ينسب إليه شيء منه ولو قل، فقيل: {ولم يك}، ولما كانوا مشركين هم وكثير من أسلافهم، قبح عليهم ذلك بأن أعظم من يعتقدون عظمته من آبائهم ليس من ذلك القبيل، فقال تعالى: {من المشركين}، الواقفين مع الهوى، فلا تكونوا منهم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{حَنِيفًا}، مقبلا على الله بالمحبة، والإنابة والعبودية معرضا عمن سواه...
{وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، في قوله وعمله، وجميع أحواله؛ لأنه إمام الموحدين الحنفاء...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبمناسبة ما حرم على اليهود خاصة، ومناسبة ادعاء مشركي قريش أنهم على ملة إبراهيم فيما يحرمونه على أنفسهم ويجعلونه للآلهة، يعرج السياق على إبراهيم -عليه السلام- يجلو حقيقة ديانته، ويربط بينها وبين الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ويبين ما اختص به اليهود من المحظورات التي لم تكن على عهد إبراهيم...
والقرآن الكريم يرسم إبراهيم -عليه السلام- نموذجا للهداية والطاعة والشكر والإنابة لله. ويقول عنه هنا: إنه كان أمة. واللفظ يحتمل أنه يعدل أمة كاملة بما فيها من خير وطاعة وبركة. ويحتمل أنه كان إماما يقتدى به في الخير. وورد في التفسير المأثور هذا المعنى وذاك. وهما قريبان فالإمام الذي يهدي إلى الخير هو قائد أمة وله أجره وأجر من عمل بهدايته فكأنه أمة من الناس في خيره وثوابه لا فرد واحد (قانتا لله) طائعا خاشعا عابدا (حنيفا) متجها إلى الحق مائلا إليه (ولم يك من المشركين) فلا يتعلق به ولا يتمسح فيه المشركون!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فبعد أن بشرهم بأنه غفر لهم ما عملوه من قبل زادهم فضلاً ببيان فضل الدين الذي اتّبعوه. وجُعل الثناء على إبراهيم عليه السلام مقدّمة لذلك لِبيان أن فضل الإسلام فضْل زائد على جميع الأديان بأن مبدأه برسول ومنتهاه برسول. وهذا فضل لم يحظ به دين آخر...
فالمقصود بعد هذا التمهيد وهاته المقدّمة هو الإفضاء إلى قوله: {ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً} [سورة النحل: 123]، وقد قال تعالى في الآية الأخرى: {ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل} [سورة الحج: 78]. والأصل الأصيل الذي تفرّع عنه وعن فروعه هذا الانتقالُ ما ذكر في الآية قبلها من تحريم أهل الجاهلية على أنفسهم كثيراً مما أنعم الله به على الناس...
ونظّرهم باليهود إذ حرّم الله عليهم أشياء، تشديداً عليهم، فجاء بهذا الانتقال لإفادة أن كلا الفريقين قد حادوا عن الحنيفية التي يزعمون أنهم متابعوها، وأن الحنيفية هي ما جاء به الإسلام من إباحة ما في الأرض جميعاً من الطيّبات، إلا ما بيّن الله تحريمه في آية {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً} [سورة الأنعام: 145] الآية...
وقد وُصف إبراهيم عليه السلام بأنه كان أمّة. والأمّة: الطائفة العظيمة من الناس التي تجمعها جهة جامعة. وتقدم في قوله تعالى {كان الناس أمّة واحدة} في سورة البقرة (213). ووصفُ إبراهيم عليه السلام بذلك وصفٌ بديع جامع لمعنيين:
أحدهما: أنه كان في الفضل والفتوة والكمال بمنزلة أمّة كاملة...
والثاني: أنه كان أمّة وحده في الدين لأنه لم يكن في وقت بعثته، موحّدٌ لله غيره. فهو الذي أحيا الله به التوحيد، وبثّه في الأمم والأقطار، وبنَى له معلماً عظيماً، وهو الكعبة، ودعا الناس إلى حجّه لإشاعة ذكره بين الأمم، ولم يزل باقياً على العصور. وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم في خَطر بن مالك الكاهن:"وأنه يبعث يوم القيامة أمّةً وحدَه" رواه السهيلي في « الروض الأنف»...
ونُفي كونه من المشركين بحرف لم} لأن {لم} تقلب زمن الفعل المضارع إلى الماضي، فتفيد انتفاء مادة الفعل في الزمن الماضي، وتفيد تجدّد ذلك المنفي الذي هو من خصائص الفعل المضارع فيحصل معنيان: انتفاءُ مدلول الفعل بمادته، وتجدّد الانتفاء بصيغته، فيفيد أن إبراهيم عليه السلام لم يتلبّس بالإشراك قط، فإن إبراهيم عليه السلام لم يشرك بالله منذ صار مميّزاً، وأنه لا يتلبّس بالإشراك أبداً...
والسؤال: لماذا إبراهيم بالذات دون سائر الأنبياء؟. ذلك لأنه أبو الأنبياء... والجميع يتمحكون فيه، حتى المشركون يقولون: نحن على دين إبراهيم، والنصارى قالوا عنه: إنه نصراني. واليهود قالوا: إنه يهودي. فجاءت الآية الكريمة تحلل شخصية إبراهيم عليه السلام، وتوضح مواصفاتها، وترد وتبطل مزاعمهم في إبراهيم عليه السلام، وهاكم مواصفاته:... إبراهيم عليه السلام يقوم مقام أمة كاملة؛ لأن الكمالات المطلقة لله وحده، والكمالات الموهوبة من الله لخلقه في الرسل تسمى كمالات بشرية موهوبة من الله...
فإذا نظرت إلى إبراهيم عليه السلام وجدت فيه من المواهب ما لا يوجد إلا في أمة كاملة. كذلك رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم حينما حدد موقعه بين رسالات الله في الأرض يقول: الخير في وهذا هو الكمال البشري الذي أعطاه الله إياه وفي أمتي". أي: أن كل واحد منهم أخذ جزءاً من هذا الكمال، فكأن كماله صلى الله عليه وسلم مبعثر في أمته كلها. لذلك حين تتبع تاريخ إبراهيم عليه السلام في كتاب الله تعالى تجد كل موقف من مواقفه يعطيك خصلة من خصال الخير، وصفة من صفات الكمال، فإذا جمعت هذه الصفات وجدتها لا توجد إلا في أمة بأسرها، فهو إمام وقدوة جامعة لكل خصال الخير...
ومن معاني: أمة: أنه عليه السلام يقوم مقام أمة في عبادة الله وطاعته.
{قانتا لله}، أي: خاشعاً خاضعاً لله تعالى في عبادته...
{حنيفاً} الحنف في الأصل: الميل، وقد جاء إبراهيم عليه السلام والكون على فساد واعوجاج في تكوين القيم، فمال إبراهيم عن هذا الاعوجاج، وحاد عن هذا الفساد...
{ولم يك من المشركين}، أي: الشرك الخفي، فالأوصاف السابقة نفت عنه الشرك الأكبر، فأراد سبحانه أن ينفي عنه شرك الأسباب أيضاً، وهو دقيق خفي. ولذلك عندما ألقى عليه السلام في النار لم يلتفت إلى الأسباب وإن جاءت على يد جبريل عليه السلام، فقال له حينما عرض عليه المساعدة: أما إليك فلا. فأين الشرك الخفي إذن والأسباب عنده معدومة من البداية؟...