وقوله : { وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ } قال ابن جرير : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن عُلَية ، عن داود ، عن سعيد بن المسيب قال : قال علي ، رضي الله عنه ، لرجل من اليهود : أين جهنم ؟ قال : البحر . فقال : ما أراه إلا صادقا . { وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ } [ الطور : 6 ] ، { وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ } [ مخففة ] {[29750]} {[29751]} .
وقال ابن عباس وغير واحد : يرسل الله عليها الدّبور فتسعرها ، وتصير نارًا تأجج ، وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله : { وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ }
وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد ، حدثنا أبو طاهر ، حدثني عبد الجبار بن سليمان أبو سليمان النفاط - شيخٌ صَالِح يُشبهُ مالكَ بن أنس - عن معاوية بن سعيد قال : إن هذا البحر بركة - يعني بحر الرُّوم - وسط الأرض ، والأنهار كلها تصب فيه ، والبحر الكبير يصب فيه ، وأسفله آبار مطبقة بالنحاس ، فإذا كان يوم القيامة أسجر .
وهذا أثر غريب عجيب . وفي سنن أبي داود : " لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز ، فإن تحت البحر نارا ، وتحت النار بحرا " الحديث ، وقد تقدم الكلام عليه في سورة " فاطر " {[29752]} .
وقال مجاهد ، والحسن بن مسلم : { سُجِّرَت } أوقدت . وقال الحسن : يبست . وقال الضحاك ، وقتادة : غاض ماؤها فذهب ولم يبق فيها قطرة . وقال الضحاك أيضا : { سُجِّرَتْ } فجرت . وقال السدي : فتحت وسيرت . وقال الربيع بن خُثَيم{[29753]} { سُجِّرَتْ } فاضت .
و «تسجير البحار » ، قال قتادة والضحاك معناه : فرغت من مائهاه وذهب حيث شاء الله وقال الحسن : يبست ، وقال الربيع بن خيثم معناه : ملئت ، وفاضت وفجرت من أعاليها ، وقال أبي بن كعب وابن عباس وسفيان ووهب وابن زيد : معناه : أضرمت ناراً كما يسجر التنور{[11647]} ، وقال ابن عباس : جهنم في البحر الأخضر ، ويحتمل أن يكون المعنى ملكت ، وقيد اضطرابها حتى لا تخرج على الأرض بسبب الهول فتكون اللفظة مأخوذة من ساجور الكلب{[11648]} ، وقيل : هذه مجاز في جهنم ، تسجر يوم القيامة وقد تقدم تظير هذه الأقوال منصوصة لأهل العلم في تفسير قوله تعالى : { والبحر المسجور }{[11649]} [ الطور : 6 ] وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «سجِرت » بتخفيف الجيم ، وقرأ الباقون : بشدها ، وهي مترجحة بكون البحار جميعاً كما قال : { كتاباً يلقاه منشوراً }{[11650]} [ الإسراء : 13 ] ، وكما قال : { صحفاً منشرة }{[11651]} [ المدثر : 52 ] ، ومثله { قصر مشيد }{[11652]} [ الحج : 45 ] و { بروج مشيدة }{[11653]} [ النساء : 78 ] ، لأنها جماعة ، وذهب قوم من الملحدين إلى أن هذه الأشياء المذكورة استعارات في كل ابن آدم وأحواله عند موته{[11654]} ، والشمس نفسه والنجوم عيناه وحواسه ، والعشار ساقاه ، وهذا قول سوء وخيم غث ذاهب إلى إثبات الرموز في كتاب الله تعالى
وتسجير البحار : فيضانها قال تعالى : { والبحر المسجور } في سورة الطور ( 6 ) . والمراد تجاوز مياهها معدل سطوحها واختلاط بعضها ببعض وذلك من آثار اختلال قوة كرة الهواء التي كانت ضاغطة عليها ، وقد وقع في آية سورة الانفطار ( 3 ) : { وإذا البحار فجرت } وإذا حدث ذلك اختلط ماؤها برملها فتغير لونه .
يقال : سَجّر مضاعفاً وسَجَر مخففاً . وَقُرِىء بهما فقرأه الجمهور مشدداً . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب مخففاً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فجرت بعضها في جوف بعض العذب والمالح، ملئت في البحر المسجور، يعني الممتلئ، فصارت البحور كلها بحرا واحدا مثل طشت فيه ماء.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَإذَا الْبِحارُ سُجّرَتْ "اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛
فقال بعضهم: معنى ذلك: وإذا البحار اشتعلت نارا وحَمِيت...
وقال آخرون: بل عني بذلك أنه ذهب ماؤها...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: قول من قال: معنى ذلك: مُلئت حتى فاضت، فانفجرت وسالت كما وصفها الله به في الموضع الآخر، فقال: "وإذا البحار فجّرت" والعرب تقول للنهر أو للرّكيّ المملوء: ماء مسجور...
[سجرت] أصل الكلمة من سجرت التنور إذا أوقدتها، والشيء إذا وقد فيه نشف ما فيه من الرطوبة، فحينئذ لا يبقى في البحار شيء من المياه البتة، ثم إن الجبال قد سيرت على ما قال: {وسيرت الجبال} وحينئذ تصير البحار والأرض شيئا واحدا في غاية الحرارة والإحراق، ويحتمل أن تكون الأرض لما نشفت مياه البحار ربت فارتفعت فاستوت برؤوس الجبال، ويحتمل أن الجبال لما اندكت وتفرقت أجزاؤها وصارت كالتراب وقع ذلك التراب في أسفل الجبال، فصار وجه الأرض مستويا مع البحار، ويصير الكل بحرا مسجورا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أفهم هذا الحشر، ذكر ما يدل على ما ينال أهل الموقف من الشدائد من شدة الحر فقال: {وإذا البحار} أي على كثرتها {سجرت} أي فجر بعضها إلى بعض حتى صارت بحراً واحداً، وملئت حتى كان ما فيها أكثر منها وأحمئت حتى كان كالتنور التهاباً وتسعراً فكانت شراباً لأهل النار وعذاباً عليهم، ولا يكون هذا إلا وقد حصل من الحر ما يذيب الأكباد...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وأما تسجير البحار فقد يكون معناه ملؤها بالمياه. وإما أن تجيئها هذه المياه من فيضانات كالتي يقال إنها صاحبت مولد الأرض وبرودتها التي تحدثنا عنها في سورة النازعات، وإما بالزلازل والبراكين التي تزيل الحواجز بين البحار فيتدفق بعضها في بعض.. وإما أن يكون معناه التهابها وانفجارها كما قال في موضع آخر: (وإذا البحار فجرت).. فتفجير عناصرها... أو تفجير ذراتها على نحو ما يقع في تفجير الذرة، وهو أشد هولا. أو على أي نحو آخر. وحين يقع هذا فإن نيرانا هائلة لا يتصور مداها تنطلق من البحار. فإن تفجير قدر محدود من الذرات في القنبلة الذرية أو الأيدروجينية يحدث هذا الهول الذي عرفته الدنيا؛ فإذا انفجرت ذرات البحار على هذا النحو أو نحو آخر، فإن الإدراك البشري يعجز عن تصور هذا الهول؛ وتصور جهنم الهائلة التي تنطلق من هذه البحار الواسعة!...
{وإذا البحار سجّرت} بمعنى: اتقدت، وصارت ناراً، و {سجّرت} بمعنى: امتلأت، و {سجرّت} بمعنى: حفظت من أن تهيج وتضطرب، ثلاثة معانٍ في اللغة، فأي معنى من هذه المعاني يقصده سبحانه وتعالى؟!
إن إطلاق اللفظ يشتمل على كل هذه المعاني، وهذا يعطينا الفائدة، وهي زوايا متعددة من المعاني.
فستكون البحار كلها ناراً، فهو يقرب لنا الصورة، وسجرت التنور أي: ملأته بالحطب، وسجرت بمعنى: منعت من أن تضطرب وتهيج، فيكون أي معنى من هذه المعاني يمكن أن يذهب إليه الذهن، والمراد أنها ستخرج عما ألفتم واعتدتم إلى أمر لم تعتادوه ولم تألفوه، أمر مهول مفزع، وهذا هو المعنى النهائي المراد.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وإذا خالج القدماء التعجب والاستغراب لهذا الوصف القرآني، فقد بات اليوم من البديهيات الكسبية، لما يتركب منه الماء من عنصري الأوكسجين والهيدروجين، القابلات للاشتعال بسرعة، ولا يستبعد أن يوضع الماء في إرهاصات يوم القيامة تحت ضغط شديد ممّا يؤدي إلى تجزئة وتفكيك عناصره، وعندما سيتحول إلى كتلة ملتهبة من النّار. وقيل: «سجّرت»: بمعنى (امتلأت)، كما يقال للتنور الممتلئ بالنّار (مسجّر)، وعلى ضوء هذا المعنى، يمكننا أنْ نتصور امتلاء البحار ممّا سيتسبب من الزلازل الحادثة وتدمير الجبال في إرهاصات يوم القيامة، أو ستمتلئ بما يتساقط من أحجار وصخور سماوية، فيفيض ماؤها على اليابسة ليغرق كلّ شيء...