{ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ } أي : وما هو على ما أوحاه الله إليه بمتهم يزيد فيه أو ينقص أو يكتم بعضه ، بل هو صلى الله عليه وسلم أمين أهل السماء وأهل الأرض ، الذي بلغ رسالات ربه البلاغ المبين ، فلم يشح بشيء منه ، عن غني ولا فقير ، ولا رئيس ولا مرءوس ، ولا ذكر ولا أنثى ، ولا حضري ولا بدوي ، ولذلك بعثه الله في أمة أمية ، جاهلة جهلاء ، فلم يمت صلى الله عليه وسلم حتى كانوا علماء ربانيين ، وأحبارا متفرسين ، إليهم الغاية في العلوم ، وإليهم المنتهى في استخراج الدقائق والفهوم ، وهم الأساتذة ، وغيرهم قصاراه أن يكون من تلاميذهم .
والضمير فى قوله - تعالى - : { وَمَا هُوَ عَلَى الغيب بِضَنِينٍ } يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم المعبر عنه قبل ذلك { بصاحبكم } .
والغيب : ما غاب عن مدارك الناس وحواسهم ، لأن الله - تعالى - قد استأثر بعلمه .
والضنين : هو البخيل بالشئ ، مأخوذ من الضن - بالكسر والفتح - بمعنى البخل .
قال الآلوسى : " وما هو " أى : رسول الله صلى الله عليه وسلم " على الغيب " أى : على ما يخبر به من الوحى إليه وغيره من الغيوب " بضنين " من الضن - بكسر الضاد وفتحها - بمعنى البخل ، أى : ببخيل ، أى : لا يبخل بالوحى ، ولا يقصر فى التعليم والتبليغ ، ومنح كل ما هو مستعد له من العلوم ، على خلاف الكهنة فإنهم لا يطلعون غيرهم على ما يزعمون معرفته إلا بإعطائهم حلوانا .
وقرأ ابن كثير والكسائى وأبو عمر { بِضَنِينٍ } - بالظاء - أى : وما هو على الغيب بمتهم ، من الظنة - بالكسر - بمعنى التهمة .
ثم قال : ورجحت هذه القراءة ، لأنها أنسب بالمقام ، لاتهام الكفرة له صلى الله عليه وسلم بذلك ، ونفى التهمة ، أولى من نفى البخل .
وهذا القول لا نوافق الآلوسى - رحمه الله - عليه ، لأن القراءة متى ثبتت عن النبى صلى الله عليه وسلم لا يجوز التفاضل بينهما . والمعنى عليها واضح ولا تعارض فيه .
أى : وما محمد صلى الله عليه وسلم ببخيل بتبليغ الوحى ، بل هو مبلغ له على أكمل وجه وأتمه ، وما هو - أيضا - بمتهم فيما يبلغه عن ربه ، لأنه صلى الله عليه وسلم سيد أهل الصدق والأمانة .
وقوله : { وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ } أي : وما محمد على ما أنزله الله إليه بظنين ، أي : بمتهم . ومنهم من قرأ ذلك بالضاد ، أي : ببخيل ، بل يبذله لكل أحد .
قال سفيان بن عُيَينة : ظنين وضنين سواء ، أي : ما هو بكاذب ، وما هو بفاجر . والظنين : المتهم ، والضنين : البخيل .
وقال قتادة : كان القرآن غيبا ، فأنزله الله على محمد ، فما ضَنّ به على الناس ، بل بَلَّغه ونشره وبذله لكل من أراده . وكذا قال عكرمة ، وابن زيد ، وغير واحد . واختار ابنُ جرير قراءة الضاد{[29794]} .
وما هو وما محمد صلى الله عليه وسلم على الغيب على ما يخبره من الموحى إليه وغيره من الغيوب بضنين بمتهم من الظنة وهي التهمة وقرأ نافع وعاصم وحمزة وابن عامر بضنين بالضاد من الضن وهو البخل أي لا يبخل بالتبليغ والتعليم والضاد من أصل حافة اللسان وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره والظاء من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا .
وقوله تعالى { وما هو على الغيب بضنين } بالضاد بمعنى : بخيل أي يشح به ، ولا يبلغ ما قيل له ، ويبخل كما يفعل الكاهن حتى يعطى حلوانه{[11667]} ، وبالضاد هي خطوط المصاحف كلها ، فيما قاله الطبري وهي قراءة نافع وعاصم وابن عامر وحمزة وعثمان بن عفان وابن عباس والحسن وأبي رجاء والأعرج وأبي جعفر وشيبة وجماعة وافرة .
وقرأ ابن كثير وعمرو والكسائي وابن مسعود وابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وابن الزبير وعائشة وعمر بن عبد العزيز وابن جبير وعروة بن الزبير ومسلم وابن جندب ومجاهد وغيرهم : «بظنين » ، بالظاء أي بمتهم ، وهذا في المعنى نظير وصفه ب { آمين } ، وقيل معناه : بضعف القوة عن التبليغ من قولهم : بئر ظنون{[11668]} إذا كانت قليلة الماء ، ورجح أبو عبيد قراءة : الظاء مشالة لأن قريشاً لم تبخل محمداً صلى الله عليه وسلم فيما يأتي به وإما كذبته ، فقيل ما هو بمتهم
الضمير عائد إلى { صاحبكم } [ التكوير : 22 ] كما يقتضيه السياق فإن المشركين لم يدّعوا أن جبريل ضنين على الغيب ، وإنما ادعوا ذلك للنبيء صلى الله عليه وسلم ظلماً وزوراً ، ولقرب المعاد .
و { الغيب } : ما غاب عن عِيان الناس ، أو عن علمهم وهو تسمية بالمصدر . والمراد ما استأثر الله بعلمه إلا أن يُطلع عليه بعض أنبيائه ، ومنه وحي الشرائع ، والعلم بصفات الله تعالى وشؤونه ، ومشاهدة مَلك الوحي ، وتقدم في قوله تعالى : { الذين يؤمنون بالغيب } في سورة البقرة ( 3 ) .
وكتبت كلمة { بضنين } في مصاحف الأمصار بضاد ساقطة كما اتفق عليه القراء .
وحكي عن أبي عبيدٍ ، قال الطبري : هو ما عليه مصاحف المسلمين متفقة وإن اختلفت قراءتهم به .
وفي « الكشاف » : « هو في مصحف أُبي بالضاد وفي مصحف ابن مسعود بالظاء » وقد اقتصر الشاطبي في منظومته في الرسم على رسمه بالضاد إذ قال :
والضَادُ في { بضنين } تَجمع البشرا
وقد اختلف القراء في قراءته فقرأه نافع وابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر وخلف وروَح عن يعقوب بالضاد الساقطة التي تخرج من حافة اللسان مما يلي الأضراس وهي القراءة الموافقة لرسم المصحف الإمام .
وقرأه الباقون بالظاء المشالة التي تخرج من طرف اللسان وأصول الثنايا العُليا ، وذكر في « الكشاف » أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بهما ، وذلك مما لا يحتاج إلى التنبيه ، لأن القراءتين مَا كانتا متواترتين إلا وقد رُويتا عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والضاد والظاء حرفان مختلفان والكلمات المؤلفة من أحدهما مختلفة المعاني غالباً إلا نحو حُضَضضِ بضادين ساقطتين وحُظظ بظاءين مشالين وحُضظ بضاد ساقطة بعدها ظاء مشالة وثلاثتها بضم الحاء وفتح ما بعد الحاء . فقد قالوا : إنها لغات في كلمة ذات معنى واحد وهو اسم صَمَغ يقال له : خولان .
ولا شك أن الذين قرأوه بالظاء المشالة من أهل القراءات المتواترة وهم ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس عن يعقوب قد رووه متواتراً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك فلا يقدح في قراءتهم كونُها مخالفة لجميع نسخ مصاحف الأمصار لأن تواتر القراءة أقوى من تواتر الخط إن اعتبر للخط تواتر .
وما ذُكر من شرط موافقة القراءة لما في مصحف عثمان لتكون قراءة صحيحة تجوز القراءة بها ، إنما هو بالنسبة للقراءات التي لم تُرْو متواترة كما بيناه في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير .
وقد اعتذر أبو عبيدة عن اتفاق مصاحف الإمام على كتابتها بالضاد مع وجود الاختلاف فيها بين الضاد والظاء في القراءات المتواترة ، بأن قال : « ليس هذا بخلاف الكتَّاب لأن الضاد والظاء لا يختلف خطهما في المصاحف إلا بزيادة رأس إحداهما على رأس الأخرى فهذا قد يتشابه ويتدانَى » اه .
يريد بهذا الكلام أن ما رسم في المصحف الإمام ليس مخالفة من كتَّاب المصاحف للقراءات المتواترة ، أي أنهم يراعون اختلاف القراءات المتواترة فيكتبون بعض نسخ المصاحف على اعتبار اختلاف القراءات وهو الغالب . وههنا اشتبه الرسم فجاءت الظاء دقيقة الرأس .
ولا أرى للاعتذار عن ذلك حاجة لأنه لما كانت القراءتان متواترتين عن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمد كتاب المصاحف على إحداهما وهي التي قرأ بها جمهور الصحابة وخاصة عثمان بن عفان ، وأوكلوا القراءة الأخرى إلى حفظ القارئين .
وإذ تواترت قراءة { بضنين } بالضاد الساقطة ، و { بظنين بالظاء المشالة علمنا أن الله أنزله بالوجهين وأنه أراد كلا المعنيين .
فأما معنى ضنين بالضاد الساقطة فهو البخيل الذي لا يعطي ما عنده مشتقّ من الضَنّ بالضاد مصدر ضَنَّ ، إذا بخل ، ومضارعه بالفتح والكسر .
فيجوز أن يكون على معناه الحقيقي ، أي وما صاحبكم ببخيل أي بما يوحَى إليه وما يخبر به عن الأمور الغيبية طلباً للانتفاع بما يخبر به بحيث لا ينبئكم عنه إلا بِعِوَض تُعطونه ، وذلك كناية عن نفي أن يكون كاهناً أو عرَّافاً يتلقّى الأخبار عن الجنِ إذ كان المشركون يترددون على الكهان ويزعمون أنهم يخبرون بالمغيبات ، قال تعالى : { وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون } [ الحاقة : 41 42 ] فأقام لهم الفرق بين حال الكهان وحال النبي صلى الله عليه وسلم بالإِشارة إلى أن النبي لا يسألهم عوضاً عما يخبرهم به وأن الكاهن يأخذ على ما يخبر به ما يسمونه حُلْواناً ، فيكون هذا المعنى من قبيل قوله تعالى : { قل ما أسألكم عليه من أجر } [ الفرقان : 57 ] { قل لا أسألكم عليه أجراً } [ الأنعام : 90 ] ونحو ذلك .
ويجوز أن يكون « ضنين » مجازاً مرسلاً في الكِتمان بعلاقة اللزوم لأن الكتمان بخل بالأمر المعلوم للكاتم ، أي ما هو بكاتم الغيب ، أي ما يوحى إليه ، وذلك أنهم كانوا يقولون : { ايتِ بقرآن غيرِ هذا أو بَدِّلْه } [ يونس : 15 ] وقالوا : { ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه } [ الإسراء : 93 ] .
ويتعلق { على الغيب } بقوله : { بضنين } .
وحرف ( على ) على هذا الوجه بمعنى الباء مثل قوله تعالى : { حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق } [ الأعراف : 105 ] أي حقيق بي ، أو لتضمين « ضنين » معنى حريص ، والحرص : شدة البخل وما محمد بكاتم شيئاً من الغيب فما أخبركم به فهو عين ما أوحيناه إليه . وقد يكون البخيل على هذه كناية عن كاتم وهو كناية بمرتبة أخرى عن عدم التغيير . والمعنى : وما صاحبكم بكاتم شيئاً من الغيب ، أي ما أخبرَكم به فهو الحق .
وأما معنى « ظنين » بالظاء المشالة فهو فعيل بمعنى مفعول مشتق من الظن بمعنى التهمة ، أي مظنون . ويراد أنه مظنون به سوءٌ ، أي أن يكون كاذباً فيما يخبر به عن الغيب ، وكثر حذف مفعول ظنين بهذا المعنى في الكلام حتى صار الظن يطلق بمعنى التهمة فَعُدّي إلى مفعول واحد . وأصل ذلك أنهم يقولون : ظَنّ به سُوءاً ، فيتعدى إلى متعلّقه الأول بحرف باء الجر فلما كثر استعماله حذفوا الباء ووصلوا الفعل بالمجرور فصار مفعولاً فقالوا ظنه : بمعنى اتهمه ، يقال : سُرِق لي كذا وظَننْت فلاناً .
وحرف { على } في هذا الوجه للاستعلاء المجازي الذي هو بمعنى الظرفية نحو { أو أجِدُ على النار هدى } [ طه : 10 ] ، أي ما هو بمتهم في أمر الغيب وهو الوحي أن لا يكون كما بلغه ، أي أن ما بَلَّغَهُ هو الغيب لا ريب فيه ، وعكسه قولهم : ائتمنه على كذا .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
[بظنين]: وما محمد صلى الله عليه وسلم على القرآن بمتهم، ومن قرأ بضنين يعني ببخيل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة بِضَنِينٍ –بالضاد- بمعنى أنه غير بخيل عليهم بتعليمهم ما علّمه الله، وأنزل إليه من كتابه.
وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض البصريين وبعض الكوفيين: «بِظَنِينٍ» بالظاء، بمعنى أنه غير متهم فيما يخبرهم عن الله من الأنباء...
وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب: ما عليه خطوط مصاحف المسلمين متفقة، وإن اختلفت قراءتهم به، وذلك" بضَنِينٍ "–بالضاد-، لأن ذلك كله كذلك في خطوطها. فإذا كان ذلك كذلك، فأولى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من تأوّله: وما محمد على ما علّمه الله من وحيه وتنزيله ببخيل بتعليمكموه أيها الناس، بل هو حريص على أن تؤمنوا به وتتعلّموه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقرئ بظنين. قال أبو عبيد: والظنين أولى، لأنه، هو المتهم، والضنين البخيل، ولم ينسب أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البخل بهذه الآية، وقد كانوا يتهمونه على الغيب، وهو القرآن، فكانوا {يقولون إنما يعلمه بشر} [النحل: 103] وليس من عند الله، ويقولون: {إن هذا إلا إفك افتراه} [الفرقان: 4] فبرّأه الله تعالى مما قالوا بقوله: وما هو على الغيب بظنين. ومن قرأ بالضاد فهو يحتمل أوجها:
أحدها: ما ذكره أبو بكر الأصم، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن بضنين بشيء، علمه الله تعالى على أحد من أصحابه كما يفعله غيره من العلماء؛ لأن العلماء، لا يريدون أن يعلموا من اختلف إليهم كل ما عندهم من العلوم حتى لا يستغنى عنهم. ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يود أن يعلم جميع ما علم من العلوم أصحابه؛ فكان يقوم على تعليم كل منهم بقدر طاقته، ولم يكن يمتنع عن التعليم بخلا منه وضنا.
والثاني: أن يكون برأه الله تعالى من هذا لما علم أنه في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خص بعض أصحابه بتعليم أشياء، لم يطلع عليها غيرهم، وتخصيص بعض دون بعض بتعليم ما عنده، يحل في الشاهد؛ فكان في قوله تعالى: {وما هو على الغيب بضنين} تكذيب أولئك الذين يدعون هذا...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قال سفيان بن عُيَينة: ظنين وضنين سواء، أي: ما هو بكاذب، وما هو بفاجر...
قلت: وكلاهما متواتر، ومعناه صحيح كما تقدم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الضمير عائد إلى {صاحبكم} كما يقتضيه السياق فإن المشركين لم يدّعوا أن جبريل ضنين على الغيب، وإنما ادعوا ذلك للنبيء صلى الله عليه وسلم ظلماً وزوراً، ولقرب المعاد. و {الغيب}: ما غاب عن عِيان الناس، أو عن علمهم وهو تسمية بالمصدر. والمراد ما استأثر الله بعلمه إلا أن يُطلع عليه بعض أنبيائه، ومنه وحي الشرائع،... وقد اقتصر الشاطبي في منظومته في الرسم على رسمه بالضاد إذ قال: والضَادُ في {بضنين} تَجمع البشرا... ولا شك أن الذين قرأوه بالظاء المشالة من أهل القراءات المتواترة وهم ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس عن يعقوب قد رووه متواتراً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك فلا يقدح في قراءتهم كونُها مخالفة لجميع نسخ مصاحف الأمصار لأن تواتر القراءة أقوى من تواتر الخط إن اعتبر للخط تواتر. وما ذُكر من شرط موافقة القراءة لما في مصحف عثمان لتكون قراءة صحيحة تجوز القراءة بها، إنما هو بالنسبة للقراءات التي لم تُرْو متواترة كما بيناه في المقدمة السادسة من مقدمات هذا التفسير. وقد اعتذر أبو عبيدة عن اتفاق مصاحف الإمام على كتابتها بالضاد مع وجود الاختلاف فيها بين الضاد والظاء في القراءات المتواترة، بأن قال: « ليس هذا بخلاف الكتَّاب لأن الضاد والظاء لا يختلف خطهما في المصاحف إلا بزيادة رأس إحداهما على رأس الأخرى فهذا قد يتشابه ويتدانَى» اه. يريد بهذا الكلام أن ما رسم في المصحف الإمام ليس مخالفة من كتَّاب المصاحف للقراءات المتواترة، أي أنهم يراعون اختلاف القراءات المتواترة فيكتبون بعض نسخ المصاحف على اعتبار اختلاف القراءات وهو الغالب. وههنا اشتبه الرسم فجاءت الظاء دقيقة الرأس. ولا أرى للاعتذار عن ذلك حاجة لأنه لما كانت القراءتان متواترتين عن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمد كتاب المصاحف على إحداهما وهي التي قرأ بها جمهور الصحابة وخاصة عثمان بن عفان، وأوكلوا القراءة الأخرى إلى حفظ القارئين. وإذ تواترت قراءة {بضنين} بالضاد الساقطة، و {بظنين بالظاء المشالة علمنا أن الله أنزله بالوجهين وأنه أراد كلا المعنيين. فأما معنى ضنين بالضاد الساقطة فهو البخيل الذي لا يعطي ما عنده...
.وما محمد بكاتم شيئاً من الغيب فما أخبركم به فهو عين ما أوحيناه إليه. وقد يكون البخيل على هذه كناية عن كاتم وهو كناية بمرتبة أخرى عن عدم التغيير. والمعنى: وما صاحبكم بكاتم شيئاً من الغيب، أي ما أخبرَكم به فهو الحق. وأما معنى « ظنين» بالظاء المشالة فهو فعيل بمعنى مفعول...
ويراد أنه مظنون به سوءٌ، أي أن يكون كاذباً فيما يخبر به عن الغيب...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وتأتي الصفة الخامسة: فهو ليس ممن يقبرون في صدورهم ممّا يوحى إليه، ولا يبخل ولا يتوانى عن الإبلاغ ويوصله إلى كلّ الناس كاملا وبأمانة. «ضنين»: من (ضنّة) على وزن (مِنَّة)، أيْ: البخل بالأشياء الثمينة والنفيسة، فالأنبياء (عليهم السلام) منزّهون عن ذلك، وإذا ما بخل الآخرون بما صار في حوزتهم من علم محدود، فالنبّي فوق ذلك وأنزه مع ما له من منبع علم إلهي...