وإذا لم يؤمن أهل الكتاب لهذا الرسول وينقادوا له ، فليس ذلك ببدع من ضلالهم وعنادهم ، فإنهم ما تفرقوا واختلفوا وصاروا أحزابًا { إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } التي توجب لأهلها الاجتماع والاتفاق ، ولكنهم لرداءتهم ونذالتهم ، لم يزدهم الهدى إلا ضلالًا ، ولا البصيرة إلا عمى ، مع أن الكتب كلها جاءت بأصل واحد ، ودين واحد .
ثم بين - سبحانه - ما كان عليه أهل الكتاب من جحودهم للحق ، ومن إنكارهم له مع علمهم به ، فقال - تعالى - { وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينة } . أى : إن الجاحدين والمعاندين والحاسدين لك - أيها الرسول الكريم - من أهل الكتاب ، ما تفرقوا فى أمره ، وما اختلفوا فى شأن نبوتك . . إلأ من بعد أن جئتهم أنت بما يدل على صدقك ، دلالة لا يجحدها إلا جهول ، ولا ينكرها إلا حسود ، ولا يعرض عنها إلا من طغى وآثر الحياة الدنيا .
فالآية الكريمة كلام مستأنف ، المقصود به تسليته صلى الله عليه وسلم عما أصابه من هؤلاء الجاحدين ، فكأنه - سبحانه - يقول له : لا تحزن - أيها الرسول الكريم - لإِعراض من أعرض عن دعوتك من أهل الكتاب ، فإن إعراضهم لم يكن عن جهل ، وإنما عن عناد وجحود وحسد لك على ما آتاك الله من فضله .
وإنما خص - سبحانه - هنا أهل الكتاب بالذكر ، مع أن الكلام فى أول السورة كان فيهم وفى المشركين ، للدلالة على شناعة حالهم ، وقبح فعالهم ، لأن الإِعراض عن الحق ممن له كتاب ، أشد قبحا ونكرا ، ممن ليس له كتاب وهم المشركون .
والاستثناء فى الآية مفرغ ، والمستثنى منه عموم الأوقات . والمعنى : لم يتفرق الجاحدون من الذين أوتوا الكتاب فى وقت من الأوقات ، إلا فى الوقت الكائن بعد مجيء البينة لهم .
ومن الآيات القرآنية الكثيرة التى وردت فى هذا المعنى قوله - تعالى - { وَمَا تفرقوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ }
وقوله : { وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ } كقوله :{ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ آل عمران : 105 ] يعني بذلك : أهل الكتب المنزلة على الأمم قبلنا ، بعد ما أقام الله عليهم الحجج والبينات تفرقوا واختلفوا في الذي أراده الله من كتبهم ، واختلفوا اختلافًا كثيرًا ، كما جاء في الحديث المروي من طرق : " إن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة ، وإن النصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة " . قالوا : من هم يا رسول الله ؟ قال : " ما أنا عليه وأصحابي " {[30366]} .
{ وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } عما كانوا عليه بأن آمن بعضهم أو تردد في دينه ، أو عن وعدهم بالإصرار على الكفر { إلا من بعد ما جاءتهم البينة } فيكون كقوله { وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } وإفراد أهل الكتاب بعد الجمع بينهم وبين المشركين للدلالة على شناعة حالهم ، وأنهم لما تفرقوا مع علمهم كان غيرهم بذلك أولى .
ثم ذكر تعالى مذمة من لم يؤمن من أهل الكتاب من بني إسرائيل من أنهم لم يتفرقوا في أمر محمد إلا من بعد ما رأوا الآيات الواضحة ، وكانوا من قبل مصفقين{[11929]} على نبوته وصفته ، فلما جاء من العرب حسدوه .
ارتقاء في الإِبطال وهو إبطال ثان لدعواهم بطريق النقض الجدلي المسمى بالمعارضة وهو تسليم الدليل والاستدلالُ لما ينافي ثبوت المدلول ، وهذا إبطال خاص بأهل الكتاب اليهود والنصارى ، ولذلك أظهر فاعل { تفرق } ولم يقل : وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءتهم البينة ، إذ لو أضمر لتوُهِّمَت إرادة المشركين من جملة معاد الضمير ، بعد أن أبطل زعمهم بقوله : { رسول من الله يتلوا صحفاً مطهرة } [ البينة : 2 ] ارتقى إلى إبطال مزاعمهم إبطالاً مشوباً بالتكذيب وبشهادة ما حصل في الأزمان الماضية .
فيجوز أن تكون الواو للعطف عاطفة إبطالاً على إبطال ، ويجوز أن تكون واو الحال .
والمعنى : كيف يزعمون أن تمسكهم بما هم عليه من الدين مغيّاً بوقت أن تأتيهم البينة والحال أنهم جاءتهم بينة من قبل ظهور الإِسلام وهي بينة عيسى عليه السلام فتفرقوا في الإِيمان به فنشأ من تفرقهم حدوث مِلتين اليهودية والنصرانية .
والمراد بهذه البينة الثانية مجيء عيسى عليه السلام فإن الله أرسله كما وعدهم أنبياؤهم أمثالُ إلياسَ واليسع وأشعياء . وقد أجمع اليهود على النبي الموعود به تجديد الدين الحق وكانوا منتظرين المخلص ، فلما جاءهم عيسى كذبوه ، أي فلا يطمع في صدقهم فيما زعموا من انتظار البينة بعد عيسى وهم قد كذبوا ببينة عيسى ، فتبين أن الجحود والعناد شنشنة فيهم معروفة .
والمراد بالتفرق : تفرق بني إسرائيل بين مكذّب لعيسى ومؤمن به وما آمن به إلا نفر قليل من اليهود .
وجُعل التفرق كناية عن إنكار البينة لأن تفرقهم كان اختلافاً في تصديق بينة عيسى عليه السلام ، فاستعمل التفرق في صريحه وكنايته لقصد إدماج مَذَمتهم بالاختلاف بعد ظهور الحق كقوله : { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم } [ آل عمران : 19 ] .
فالتعريف في { البينة } المذكورة ثانياً يجوز أن يكون للعهد الذهني ، أو للمعهود بَيْن المتحدَّث عنهم ، وهي بينة أخرى غير الأولى وإعادتُها من إعادة النكرة نكرة مثلها إذ المعرف بلام العهد الذهني بمنزلة النكرة ، أو من إعادة المعرفة المعهودة معرفةً مثلها ، وعلى كلا الوجهين لا تكون المعادة عين التي قبلها .
وقد أطبقت كلمات المفسرين على أن معنى قوله تعالى : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } أنهم ما تفرقوا عن اتباع الإِسلام ، أي تباعدوا عنه إلا من بعد ما جاء محمد صلى الله عليه وسلم وهذا تأويل للفظ التفرق وهو صرف عن ظاهره بعيد فأشكل عليهم وجه تخصيص أهل الكتاب بالذكر مع أن التباعد عن الإِسلام حاصل منهم ومن المشركين ، وجعلوا المراد ب { البينة } الثانية عين المراد بالأولى وهي بينة محمد صلى الله عليه وسلم سوى أن الفخر ذكر كلمات تنبىء عن مخالفة المفسرين في محمل تفرق الذين أوتوا الكتاب فإنه بعد أن قرر المعنى بما يوافق كلام بقية المفسرين أتى بما يقتضي حمل التفرق على حقيقته ، وحمل البينة الثانية على معنى مغاير لمحمل { البينة } الأولى ، إذ قال : « المقصود من هذه الآية تسلية محمد صلى الله عليه وسلم أي لا يغمنّك تفرقهم فليس ذلك لقصور في الحجة بل لعنادهم فسلفهم هكذا كانوا لم يتفرقوا في السبب وعبادة العجل إلا بعد ما جاءتهم البينة ، فهي عادة قديمة لهم » ، وهو معارض لأول كلامه ، ولعله بدا له هذا الوجه وشغله عن تحريره شاغل وهذا مما تركه الفخر في المسودة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } يعني اليهود والنصارى في أمر محمد صلى الله عليه وسلم { إلا من بعد ما جاءتهم البينة } يعني البيان ، يقول الله تعالى : لم يزل الذين كفروا مجتمعين على تصديق محمد صلى الله عليه وسلم ، حتى بعث ؛ لأنه نعته معهم في كتبهم ، فلما بعثه الله عز وجل من غير ولد إسحاق اختلفوا فيه ، فآمن بعضهم : عبد الله بن سلام وأصحابه من أهل التوراة ، ومن أهل الإنجيل أربعون رجلا ... وكذب به سائر أهل الكتاب . ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول : وما تفرّق اليهود والنصارى في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، فكذّبوا به ، إلا من بعد ما جاءتهم البينة ، يعني : من بعد ما جاءت هؤلاء اليهود والنصارى البيّنةُ ، يعني : بيان أمر محمد ، أنه رسول بإرسال الله إياه إلى خلقه ، يقول : فلما بعثه الله تفرّقوا فيه ، فكذّب به بعضهم ، وآمن بعضهم ، وقد كانوا قبل أن يُبعث غير مفترقين فيه أنه نبيّ .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يقول أهل التأويل : إنما تفرقوا من بعد ما جاءتهم البينة ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ... وهو يخرج على وجهين :
أحدهما : ما تفرقوا في محمد صلى الله عليه وسلم إلا من بعد ما جاءهم العلم به ، عند ذلك تفرقوا فيه ، فأما قبل ذلك فكانوا مجتمعين فيه كلهم .
والثاني : ما تفرقوا في الدين والمذهب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ، أي عن بيان وعلم تفرقوا في الدين . وفي ما تفرقوا فيه هو ما جعل في خلقة كل واحد دلالة التوحيد والربوبية له ما لو تفكروا لعرفوا أن الله واحد . والبينة تحتمل من هذا الموضع رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن ونفس الخلقة على ما ذكرنا . ...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
إخبار من الله تعالى أن هؤلاء الكفار لم يختلفوا في نبوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) لأنهم مجمعون على نبوته بما وجدوه في كتبهم من صفاته ، فلما أتاهم بالبينة الظاهرة والمعجزة القاهرة تفرقوا واختلفوا ، فآمن بعضهم وكفر بعضهم ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت : لم جمع بين أهل الكتاب والمشركين أوّلاً ثم أفرد أهل الكتاب في قوله : { وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب } ؟ قلت : لأنهم كانوا على علم به لوجوده في كتبهم ، فإذا وصفوا بالتفرق عنه كان من لا كتاب له أدخل في هذا الوصف . ...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم ذكر تعالى مذمة من لم يؤمن من أهل الكتاب من بني إسرائيل من أنهم لم يتفرقوا في أمر محمد إلا من بعد ما رأوا الآيات الواضحة ، وكانوا من قبل مصفقين على نبوته وصفته ، فلما جاء من العرب حسدوه . ...
المقصود من هذه الآية تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم أي لا يغمنك تفرقهم فليس ذلك لقصور في الحجة بل لعنادهم ، فسلفهم هكذا كانوا لم يتفرقوا في السبت وعبادة العجل : { إلا من بعد ما جاءتهم البينة } فهي عادة قديمة لهم . ...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
وإفراد أهل الكتاب بعد الجمع بينهم وبين المشركين للدلالة على شناعة حالهم ، وأنهم لما تفرقوا مع علمهم كان غيرهم بذلك أولى . ...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{ وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } : أي من المشركين ، وانفصل بعضهم من بعض فقال : كل ما يدل عنده على صحة قوله . { إلا من بعد ما جاءتهم البينة } : وكان يقتضي مجيء البينة أن يجتمعوا على اتباعها ..... والمراد بتفرقهم : تفرقهم عن الحق ، أو تفرقهم فرقاً ، فمنهم من آمن ، ومنهم من أنكر وقال : ليس به ومنهم من عرف وعاند . ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ وما تفرق } أي الآن وفيما مضى من الزمان تفرقاً عظيماً { الذين } ولما كانوا في حال هي أليق بالإعراض ، بنى للمفعول قوله : { أوتوا الكتاب } أي عما كانوا عليه من الإطباق على الضلال ، أو الوعد باتباع الحق المنتظر في محمد صلى الله عليه وسلم ...{ إلا من بعد } وكان ذلك الزمن اليسير هو بإسلام من أسلم من قبائل العرب الذين كانوا قد أطبقوا على النصرانية ....وكذا من كان تهود من قبائل اليمن وأسلم ...فلم يسلم منهم إلا من لا يعد لقلته مفرقاً لهم { ما } أي الزمن الذي { جاءتهم } فيه ، أو مجيء { البينة } ...وقد كان مجيء البينة يقتضي اجتماعهم على الحق ، لا تفرقهم فيه ، وكأنه أشار إلى المشركين بالعاطف ، ولم يصرح بذكرهم ؛ لأنهم كانوا عكس أهل الكتاب لم يتفرقوا إلا زمناً يسيراً في أول الأمر ، فكان الضال منهم أكثر ، ثم أطبقوا على الهدى لما لهم من قويم الطبع ، ومعتدل المزاج ، فدل ذلك على غاية العوج لأهل الكتاب ؛ لأنهم كانوا لما عندهم من العلم أولى من المشركين بالاجتماع على الهدى ، ودل ذلك على أن وقوع اللدد والعناد من العالم أكثر ، وحصوله الآفة لهم من قوة ما لطباعهم من كدر النقص بتربيته وتنميته بالمعاصي من أكل السحت من الربا وغيره من الكبائر والتسويف بالتوبة ، فألفت ذلك أبدانهم فأشربته قلوبهم حتى تراكم ظلامها ، وتكاثف رينها وغمامها ، فلما دعوا لم يكن عندهم شيء من نور تكون لهم به قابلية الانقياد للدعاء . ...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
كلامٌ مسوقٌ لغايةِ تشنيعِ أهلِ الكتابِ خاصَّةٌ ، وتغليظِ جناياتِهم ، ببيانِ أنَّ ما نسبَ إليهمْ من الانفكاكِ لم يكُنْ لاشتباهٍ مَا في الأمرِ ؛ بلْ كانَ بعدَ وضوحِ الحقِّ ، وتبينِ الحالِ ، وانقطاعِ الأعذار بالكليةِ ، وهُوَ السرُّ في وصفِهم بإيتاءِ الكتابِ المنبئِ عن كمالِ تمكنِهم منْ مطالعتِه ، والإحاطةِ بَما فِي تضاعيفِه من الأحكامِ والأخبارِ التي مِنْ جُملتِها نعوتُ النبيِّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ......{ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة } استثناءٌ مفرغٌ منْ أعمِّ الأوقاتِ ، أيْ وما تفرقُوا في وقتٍ منَ الأوقاتِ إلا منْ بعدِ ما جاءتُهمْ الحجةُ الواضحةُ الدالَّةُ على أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم هو الموعودُ في كتابِهم دلالةً جليةً لا ريبَ فيَها...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ثم خص كتاب الله بالذكر " أهل الكتاب " من اليهود والنصارى لعظم مسؤوليتهم ، فقد كانوا على علم بظهور الرسول " الخاتم " والرسالة " الخاتمة " ، وكانوا يبشرون المشركين ببعثته ورسالته ، مبينا ما آل إليه أمرهم بعد ظهور الرسول والرسالة من الجحود والإنكار ، والحسد والاستكبار ، مما كان له أثر كبير على المشركين في التمسك بشركهم ، اقتداء بتمسك الكافرين بكفرهم ، فقال تعالى : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعدما جاءتهم البينة } ، والمراد " بتفرقهم " تفرقهم عن الحق ، أو تفرقهم فرقا ، فمنهم من آمن ، ومنهم من أنكر ، ومنهم من عرف الحق وعاند .
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الآيات الاُولى لهذه السّورة المباركة تتحدث عن أهل الكتاب والمشركين الذين كانوا يدعون أنّهم سوف يقبلون الدعوة إنّ جاءهم نبيّ بالدلائل الساطعة . لكنّهم أعرضوا حين ظهر ، وجابهوه ، إلاّ فريق منهم آمن واهتدى . وهذا المعنى يشبه ما جاء في قوله تعالى : { ولما جاءهم كتاب من عند اللّه مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اللّه على الكافرين } . نعلم أنّ أهل الكتاب كانوا ينتظرون مثل هذا الظهور ، ولابدّ أن يكون مشركو العرب مشاركين لأهل الكتاب في هذا الانتظار لما كانوا يرون فيهم من علم ومعرفة ، ولكن حين تحققت آمالهم غيّروا مسيرهم والتحقوا بأعداء الدعوة . جمع من المفسّرين لهم رأي آخر في تفسير الآية ، يقولون : مقصود الآية هو أنّ أهل الكتاب والمشركين لم يكونوا منفكّين عن دينهم حقيقةً لا ادعاءً حتى تأتيهم البيّنة . وهذا يعني أنّ هؤلاء آمنوا بعدما جاءتهم البيّنة .....
ثمّة تفسير ثالث للآية هو أنّ اللّه لا يترك أهل الكتاب والمشركين لحالهم حتى يتمّ الحجّة عليهم ، ويرسل إليهم البيّنة ، ويبيّن لهم الطريق . ولذلك أرسل إليهم نبيّ الإسلام لهدايتهم . بناء على هذا التّفسير ، هذه الآية تشير إلى قاعدة اللطف التي يتناولها علم الكلام ، وتقرر أن اللّه يبعث إلى كلّ قوم دلائل واضحة ليتمّ الحجّة عليهم . على أي حال ، «البيّنة » في الآية هي الدليل الواضح ، ومصداقها حسب الآية الثّانية شخص «رسول اللّه » وهو يتلو عليهم القرآن . «صحف » جمع «صحيفة » ، وتعني ما يكتب عليه من الورق ، والمقصود بها هنا محتوى هذه الأوراق ، إذ نعلم أنّ الرّسول الأعظم( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يكن يتلو شيئاً عليهم من الأوراق . و«مطهرّة » أي طاهرة من كلّ ألوان الشرك والكذب والباطل . ومن تلاعب شياطين الجن والإنس . كما جاء أيضاً في قوله تعالى : { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } جملة { فيها كتب قيمة } إشارة إلى أنّ ما في هذه الصحف السماوية خال من الانحراف والاعوجاج . من هنا فإنّ هذه «الكتب » تعني المكتوبات ، أو تعني الأحكام والتشريعات المنصوصة من اللّه ؛ لأنّ الكتابة جاءت بمعنى تعيين الحكم أيضاً ، كقوله تعالى : { كتب عليكم الصّيام كما كتب على الذين من قبلكم } . وبهذا يكون معنى «قيمة » السويّة والمستقيمة ، أو الثابتة والمستحكمة ، أو ذات قيمة ، أو كل هذه المعاني مجتمعة . ويحتمل أيضاً أن يكون المعنى هو أن القرآن فيه الكتب السماوية القيّمة السابقة ؛ لأنّه يضم جميع محتوياتها وزيادة . ويلفت النظر تقدم ذكر أهل الكتاب على المشركين في الآية الأولى ، والاقتصار على ذكر أهل الكتاب في الآية الرابعة دون ذكر المشركين ، بينما الآية تريد الاثنين . وهذا يعود ظاهراً إلى أنّ أهل الكتاب كانوا هم الروّاد في هذه المواقف ، وكان المشركون تابعين لهم . أو لأنّ أهل الكتاب كانوا أهلاً لذم أكثر لما عندهم من علماء كثيرين....معارضتهم إذن أفظع وأبشع وتستحق مزيداً من التقريع .