57- يا أيها الناس : قد جاءكم على لسان الرسول محمد كتاب من الله ، فيه تذكير بالإيمان والطاعة وعظة بالترغيب في الخير ، والترهيب من عمل السوء ، وسوْق العبر بأخبار مَن سبقوكم ، وتوجيه نظركم إلى عظمة الخلق لتدركوا عظمة الخالق ، وفيه دواء لأمراض قلوبكم من الشرك والنفاق ، وهداية إلى الطريق المستقيم . وذلك كله رحمة للمؤمنين الذين يستجيبون .
{ 57 - 58 ْ } { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ْ }
يقول تعالى - مرغبًا للخلق في الإقبال على هذا الكتاب الكريم ، بذكر أوصافه الحسنة الضرورية للعباد فقال : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ْ } أي : تعظكم ، وتنذركم عن الأعمال الموجبة لسخط الله ، المقتضية لعقابه وتحذركم عنها ببيان آثارها ومفاسدها .
{ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ْ } وهو هذا القرآن ، شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادة عن الانقياد للشرع وأمراض الشبهات ، القادحة في العلم اليقيني ، فإن ما فيه من المواعظ والترغيب والترهيب ، والوعد والوعيد ، مما يوجب للعبد الرغبة والرهبة .
وإذا وجدت فيه الرغبة في الخير ، والرهبة من الشر ، ونمتا على تكرر ما يرد إليها من معاني القرآن ، أوجب ذلك تقديم مراد الله على مراد النفس ، وصار ما يرضي الله أحب إلى العبد من شهوة نفسه .
وكذلك ما فيه من البراهين والأدلة التي صرفها الله غاية التصريف ، وبينها أحسن بيان ، مما يزيل الشبه القادحة في الحق ، ويصل به القلب إلى أعلى درجات اليقين .
وإذا صح القلب من مرضه ، ورفل بأثواب العافية ، تبعته الجوارح كلها ، فإنها تصلح بصلاحه ، وتفسد بفساده . { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ْ } فالهدى هو العلم بالحق والعمل به .
والرحمة هي ما يحصل من الخير والإحسان ، والثواب العاجل والآجل ، لمن اهتدى به ، فالهدى أجل الوسائل ، والرحمة أكمل المقاصد والرغائب ، ولكن لا يهتدي به ، ولا يكون رحمة إلا في حق المؤمنين .
ثم وجه - سبحانه - نداء إلى الناس ، أمرهم فيه بالانتفاع بما اشتمل عليه القرآن الكريم ، من خيرات وبركات فقال - تعالى - : { ياأيها الناس قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } .
والموعظة معناها : التذكير بالتزام الحق والخير ، واجتناب الباطل والشر ، بأسلوب يلين القلوب ، ويرقق النفوس .
والشفاء : هو الدواء الشافي من كل ما يؤذى ، ويجمع على أشفيه .
والهدى : هو الإِرشاد والدلالة بلطف إلى ما يوصل إلى المقصد والبغية ، والرحمة معناها الإِحسان ، أن إرادة الإِحسان .
والمعنى : يا أيها الناس قد جاءكم من الله - تعالى - كتاب جامع لكل ما تحتاجون إليه من موعظة حسنة ترق لها القلوب ، وتخشع لها النفوس . وتصلح بها الأخلاق ومن شفاء لأمراض صدوركم . ومن هداية لكل إلى طريق الحق والخير ، ومن رحمة للمؤمنين ترفعهم إلى أعلى الدرجات وتكفر ما حدث منهم من سيئات .
وجاء هذا الإِرشاد والتوجيه عن طريق النداء ، استمالة لهم إلى الحق بألطف أسلوب ، وأكمل بيان ، حتى يثوبوا إلى رشدهم ، ويتنبهوا من غفلتهم .
ووصفت الموعظة بأنها من ربكم ، لتذكيرهم بما يزيدهم تعظيما وقبولا ، لأنها لم تصدر عن مخلوق تحتمل توجيهاته الخطأ والصواب ، وإنما هي صادرة من خالق النفوس ومربيها ، العليم بما يصلحها ويشفيها .
وقيد الرحمة بأنها للمؤمنين ، لأنهم هم المستحقون لها ، بسبب إيمانهم وتقواهم .
قال الآلوسى ما ملخصه : " واستدل بالآية على أن القرآن يشفى من الأمراض البدنية كما يشفى من الأمراض القلبية ، فقد أخرج ابن مردوية عن أبى سعيد الخدرى قال : " جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إنى اشتكى صدرى ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : " اقرأ القرآن ، يقول الله - تعالى - شفاء لما في الصدور " " .
وأخرج البيهقي في الشعب عن وائلة بن الأسقع أن رجلا شكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وجع حلقه ، فقال له : " عليك بقراءة القرآن " .
وأنت تعلم أن الاستدلال بهذه الآية على ذلك مما لا يكاد يسلم ، والخبر الثانى لا يدل عليه ، إذ ليس فيه أكثر من أمره - صلى الله عليه وسلم - الشاكى بقراءة القرآن إرشادا له إلى ما ينفعه ويزول به وجعه .
ونحن لا ننكر أن لقراءة بركة ، قد يذهب الله بسببها الأمراض والأوجاع ، وإنما ننكر الاستدلال بالآية على ذلك .
والخبر الأول وإن كان ظاهرا في المقصود ، لكن ينبغى تأويله ، كأن يقال : لعله - صلى الله عليه وسلم - اطعل على أن في صدر الرجل مرضا معنويا قلبيا ، قد صار سببا للمرض الحسي والبدني ، فأمره - صلى الله عليه وسلم - بقراءة القرآن ليزول عنه الأول فيزول الثاني .
والحسن البصري ينكر كون القرآن شفاء للأمراض ، فقد أخرج أبو الشيخ عنه أنه قال : " إن الله - تعالى - جعل القرآن شفاء لما في الصدور ، ولم يجعله شفاء لأمراضكم ، والحق ما ذكرناه " .
يقول تعالى ممتنا على خلقه بما أنزل إليهم من القرآن العظيم على رسوله الكريم : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ } أي : زاجر عن الفواحش ، { وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ } أي : من الشُبَه والشكوك ، وهو إزالة ما فيها من رجس ودَنَس ، { وَهُدًى وَرَحْمَةً } أي : محصلٌ لها الهداية والرحمة من الله تعالى . وإنما ذلك للمؤمنين به والمصدقين الموقنين بما فيه ، كما قال تعالى : { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا } [ الإسراء : 82 ] ، وقال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [ فصلت : 44 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا النّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مّوْعِظَةٌ مّن رّبّكُمْ وَشِفَآءٌ لّمَا فِي الصّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ } .
يقول تعالى ذكره لخلقه : يا أيّها الناس قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبّكُمْ يعني ذِكْرَى تذكركم عقاب الله وتخوّفكم وعيده من ربكم . يقول : من عند ربكم لم يختلقها محمد صلى الله عليه وسلم ولم يفتعلها أحد ، فتقولوا : لا نأمن أن تكون لا صحة لها . وإنما يعني بذلك جلّ ثناؤه القرآن ، وهو الموعظة من الله . وقوله : وَشِفاءٌ لِمَا فِي الصّدُورِ يقول : ودواء لما في الصدور من الجهل ، يشفي به الله جهل الجهال ، فيبرىء به داءهم ويهدي به من خلقه من أراد هدايته به . وَهُدًى يقول : وهو بيان لحلال الله وحرامه ، ودليل على طاعته ومعصيته . وَرَحْمَةٌ يرحم بها من شاء من خلقه ، فينقذه به من الضلالة إلى الهدى ، وينجيه به من الهلاك والردى . وجعله تبارك وتعالى رحمة للمؤمنين به دون الكافرين به ، لأن من كفر به فهو عليه عمى ، وفي الاَخرة جزاؤه على الكفر به الخلود في لَظَى .
استئناف أو اعتراض ، يجوز أن يكون لابتداء غرض جديد وهو خطاب جميع الناس بالتعريف بشأن القرآن وهديه ، بعد أن كان الكلام في جدال المشركين والاحتجاج عليهم بإعجاز القرآن على أنه من عند الله وأن الآتي به صادق فيما جاء به من تهديدهم وتخويفهم من عاقبة تكذيب الأمم رُسلَها ، وما ذيل به ذلك من الوعيد وتحقيق ما توعدوا به ، فالكلام الآن منعطف إلى الغرض المفتتح بقوله : { وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله إلى قوله : { ولو كانوا لا يبصرون } [ يونس : 37 43 ] . فعاد الكلام إلى خطاب جميع الناس لما في القرآن من المنافع الصالحة لهم ، والإشارة إلى اختلافهم في مقدار الانتفاع به ، ولذلك كان الخطاب هنا عاماً لجميع الناس ولم يأت فيه ما يقتضي توجيهه لخصوص المشركين من ضمائر تعود إليهم أو أوصاف لهم أو صلات موصول . وعلى هذا الوجه فليس في الخطاب ب { يأيّها الناس } التفات من الغيبة إلى الخطاب ، والمعنى أن القرآن موعظة لجميع الناس وإنما انتفع بموعظته المؤمنون فاهتدوا وكان لهم رحمة .
ويجوز أن يكون خطاباً للمشركين بناء على الأكثر في خطاب القرآن ب { يأيها الناس } فيكون ذكر الثناء على القرآن بأنه هدًى ورحمة للمؤمنين إدماجاً وتسجيلاً على المشركين بأنهم حَرموا أنفسهم الانتفاع بموعظة القرآن وشفائه لما في الصدور ، فانتفع المؤمنون بذلك .
وافتتاح الكلام ب { قد } لتأكيده ، لأن في المخاطبين كثيراً ممن ينكر هذه الأوصاف للقرآن .
والمجيء : مستعمل مجازاً في الإعلام بالشيء ، كما استعمل للبلوغ أيضاً ، إلا أن البلوغ أشهر في هذا وأكثر ، يُقال : بلغني خبر كذا ، ويقال أيضاً : جاءني خبر كذا أو أتاني خبر كذا . وإطلاق المجيء عليه في هذه الآية أعز .
والمراد بما جاءهم وبلغهم هو ما أنزل من القرآن وقرىء عليهم ، وقد عبر عنه بأربع صفات هي أصول كماله وخصائصه وهي : أنه موعظة ، وأنه شفاء لما في الصدور ، وأنه هدى ، وأنه رحمةٌ للمؤمنين .
والموعظة : الوعظ ، وهو كلام فيه نصح وتحذير مما يضر . وقد مضى الكلام عليها عند قوله تعالى : { فأعرض عنهم وعظهم } في سورة [ النساء : 63 ] ، وعند قوله تعالى : { موعظة وتفصيلاً لكل شيء } في سورة [ الأعراف : 145 ] . ووصفها ب من ربكم } للتنبيه على أنها بالغة غاية كمال أمثالها .
والشفاء تقدم عند قوله تعالى : { ويشف صدور قوم مؤمنين } في سورة [ براءة : 14 ] . وحقيقته : زوال المرض والألم ، ومجازه : زوال النقائص والضلالات وما فيه حرج على النفس ، وهذا هو المراد هنا .
والمراد بالصدور النفوس كما هو شائع في الاستعمال .
والهدى تقدم في قوله تعالى : { هدى للمتقين } في طالع سورة [ البقرة : 2 ] ، وأصله : الدالة على الطريق الموصل إلى المقصود . ومجازه : بيان وسائل الحصول على المنافع الحقة .
والرحمة تقدمت في تفسير البسملة .
وقد أومأ وصف القرآن بالشفاء إلى تمثيل حال النفوس بالنسبة إلى القرآن ، وإلى ما جاء به بحال المعتل السقيم الذي تغير نظام مزاجه عن حالة الاستقامة فأصبح مضطرب الأحوال خائر القوى فهو يترقب الطبيب الذي يدبر له بالشفاء ، ولا بد للطبيب من موعظة للمريض يحذره بها مما هو سبب نشء علته ودوامها ، ثم ينعت له الدواء الذي به شفاؤه من العلة ، ثم يصف له النظام الذي ينبغي له سلوكه لتدوم له الصحة والسلامة ولا ينتكسَ له المرض ، فإن هو انتصح بنصائح الطبيب أصبح معافى سليماً وحيي حياة طيبة لا يعتوره ألم ولا يشتكي وَصَبَا ، وقد كان هذا التمثيل لكماله قابلاً لتفريق تشبيه أجزاء الهيئة المشبَّهة بأجزاء الهيئة المشبَّه بها ، فزواجرُ القرآن ومواعظه يُشبَّه بنصح الطبيب على وجه المكنية ، وإبطالُه العقائد الضالة يشبه بنعت الدواء للشفاء من المضار على وجه التصريحية ، وتعاليمُه الدينية وآدابه تشبَّه بقواعد حفظ الصحة على وجه المكنية ، وعبر عنها بالهَدى ، ورحمتُه للعالمين تشبه بالعيش في سلامة على وجه المكنية .
ومعلوم أن ألفاظ المكنية يصح أن تكون مستعملة في حقائق معانيها كما هنا ، ويصح أن تجعل تخييلاً كأظفار المنية . ثم إن ذلك يتضمن تشبيه شأن باعث القرآن بالطبيب العليم بالأدواء وأدويتها ، ويقوم من ذلك تشبيه هيئة تلقي الناس للقرآن وانتفاعهم به ومعالجة الرسول إياهم بتكرير النصح والإرشاد بهيئة المرضى بين يدي الطبيب وهو يصف لهم ما فيه برؤهم وصلاح أمزجتهم فمنهم القابل المنتفع ومنهم المتعاصي الممتنع .
فالأوصاف الثلاثة الأُول ؛ ثابتة للقرآن في ذاته سواء في ذلك مَن قَبِلها وعمل بها ، ومن أعرض عنها ونبذها ، إلا أن وصفه بكونه هدًى لمَّا كان وصفاً بالمصدر المقتضي للمبالغة بحيث كأنه نفس الهدى كان الأنسب أن يراد به حصول الهدى به بالفعل فيكون في قران الوصف الرابع . والوصف الرابع وهو الرحمة ، خاص بمن عمل بمقتضى الأوصاف الثلاثة الأُول ، فانتفع بها فكان القرآن رحمة له في الدنيا والآخرة . وهو ينظر إلى قوله تعالى : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً } [ الإسراء : 82 ] .
فقَيْد { للمؤمنين } متعلق ب { رحمة } بلا شبهة وقد خصه به جمهور المفسرين . ومن المحققين من جعله قيداً ل { هدى ورحمة } ناظراً إلى قوله تعالى : { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] فإنه لم يجعله هدى لغير المتقين وهم المؤمنون .
والوجه أن كونه موعظة وصف ذاتي له ، لأن الموعظة هي الكلام المحذّر من الضر ولهذا عقبت بقوله : { من ربكم } فكانت عامة لمن خوطب ب { يأيُّها الناس } . وأما كونه شفاء فهو في ذاته صالح للشفاء لكن الشفاء بالدواء لا يحصل إلا لمن استعمله .
وأما كونه هدى ورحمة فإن تمام وصف القرآن بهما يكون بالنسبة لمن حَصَلت له حقيقتُهما ، وأما لمن لم تحصل له آثارهما ، فوصف القرآن بهما بمعنى صلاحيته لذلك ، وهو الوصف بالقوة في اصطلاح أهل المنطق .
وقد وقع التصريح في الآية الأخرى بأنه { شفاء ورحمة للمؤمنين } [ الإسراء : 82 ] ، وصرح في آية [ البقرة : 2 ] بأنه { هدى للمتقين } ، فالأظهر أن قيد للمؤمنين راجع إلى { هدى ورحمة } معاً إلى قاعدة القيد الوارد بعد مفردات ، وأما رجوعه إلى { شفاء } فمحتمل ، لأن وصف { شفاء } قد عُقب بقيد { لما في الصدور } فانقطع عن الوصفين اللذين بعده ، ولأن تعريف { الصدور } باللام يقتضي العموم ، فليحمل الشفاء على معنى الدواء الذي هو صالح للشفاء للذي يتناوله . وهو إطلاق كثير . وصَدَّر به في « اللسان » و« القاموس » ، وجعلوا منه قوله تعالى في شأن العسل { فيه شفاء للناس } [ النحل : 69 ] .
وأما تعليق فعل المجيء بضمير الناس في قوله : { قد جاءتكم } فباعتبار كونهم المقصود بإنزال القرآن في الجملة . ثم وقع التفصيل بالنسبة لما اختلفت فيه أحوال تلقيهم وانتفاعهم ، كما دل عليه قوله بعده : { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا } [ يونس : 58 ] أي المؤمنون . وعبر عن الهدى بالفضل في قوله تعالى : { يأيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً } [ النساء : 174 ، 175 ] فعمم في مجيء البرهان وإنزال النور جميع الناس ، وخصص في الرحمة والفضل والهداية المؤمنين ، وهذا منتهى البلاغة وصحة التقسيم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لخلقه:"يا أيّها الناس قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبّكُمْ" يعني ذِكْرَى تذكركم عقاب الله وتخوّفكم وعيده، "من ربكم". يقول: من عند ربكم لم يختلقها محمد صلى الله عليه وسلم ولم يفتعلها أحد، فتقولوا: لا نأمن أن تكون لا صحة لها، وإنما يعني بذلك جلّ ثناؤه القرآن، وهو الموعظة من الله. وقوله: "وَشِفاءٌ لِمَا فِي الصّدُورِ "يقول: ودواء لما في الصدور من الجهل، يشفي به الله جهل الجهال، فيبرىء به داءهم ويهدي به من خلقه من أراد هدايته به. "وَهُدًى" يقول: وهو بيان لحلال الله وحرامه، ودليل على طاعته ومعصيته. "وَرَحْمَةٌ" يرحم بها من شاء من خلقه، فينقذه به من الضلالة إلى الهدى، وينجيه به من الهلاك والردى. وجعله تبارك وتعالى رحمة للمؤمنين به دون الكافرين به، لأن من كفر به فهو عليه عمى، وفي الآخرة جزاؤه على الكفر به الخلود في لَظَى.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) وهو هذا القرآن.
قال بعضهم: الموعظة النهي كقوله (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا) [النور: 17] قيل: نهاكم أن تعودوا لمثله.
وقال آخرون: الموعظة هي التي تدعو إلى كل مرغوب وتزجر عن كل مرهوب.
وقال بعضهم العظة هي التي تلين كل قلب قاس، وتجلي كل قاتم مظلم. وفي القرآن جميع ما ذكر؛ فيه النهي وفيه الدعاء إلى كل مرغوب والزجر عن كل مرهوب وهو يلين القلوب القاسية ويدمع العيون اليابسة ويجلي الصدور المظلمة إذا تأملوا فيه، ونظروا وتفكروا تفكير المسترشد وطالب الحق.
(وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ) إن للدين آفات وأدواء تضر به، وتتلفه كما لهذه الأبدان آفات وأمراض، تعمل في إتلافها وإهلاكها. ثم جعلت لآفات الأبدان وأمراضها أدوية، تشفى بها الأبدان المؤرقة المريضة، فعلى ذلك جعل هذا القرآن لهذا الدين دواء يداوى به، فيذهب بآفات الدين وأمراضه كما تعمل الأدوية في دفع آفات الأبدان وأمراضها، لذلك سماه موعظة وشفاء لما في الصدور والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والموعظة: ما يدعوا إلى الصلاح ويزجر عن القبيح بما يتضمنه من الرغبة والرهبة، ويدعو إلى الخشوع والنسك، ويصرف عن الفسوق والإثم، ويريد بذلك القرآن وما أتى به النبي (صلى الله عليه وآله) من الشريعة.
وقوله "وشفاء لما في الصدور "فالشفاء معنى كالدواء لإزالة الداء. فداء الجهل أضر من داء البدن وعلاجه أعسر وأطباؤه أقل والشفاء منه أجل، وإنما أضافه إلى المؤمنين، لأنهم الذين انتفعوا به دون الكفار الذين لم ينتفعوا به، كما قال "هدى للمتقين".
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الموعظة للكافة... ولكنها لا تنجع في أقوام، وتنفع في آخرين؛ فَمَنْ أصغى إليها بسْمعِ سِرَّه اتضح نورُ التحقيق في قلبه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ} أي قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد من موعظة وتنبيه على التوحيد {و} هو {شِفَآء} أي دواء {لِّمَا فِي} صدوركم من العقائد الفاسدة ودعاء إلى الحق {وَرَحْمَةً} لمن آمن به منكم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه آية خوطب بها جميع العالم، والموعظة: القرآن، لأن الوعظ إنما هو بقول يأمر بالمعروف ويزجر ويرقق ويوعد ويعد، وهذه صفة الكتاب العزيز.
الشفاء وهو أن يسقيه أدوية تزيل عن باطنه تلك الأخلاط الفاسدة الموجبة للمرض، فكذلك الأنبياء عليهم السلام إذا منعوا الخلق عن فعل المحظورات صارت ظواهرهم مطهرة عن فعل ما لا ينبغي. فحينئذ يأمرونهم بطهارة الباطن وذلك بالمجاهدة في إزالة الأخلاق الذميمة وتحصيل الأخلاق الحميدة، وأوائلها ما ذكره الله تعالى في قوله: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتآء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي} وذلك لأنا ذكرنا أن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة جارية مجرى الأمراض، فإذا زالت فقد حصل الشفاء للقلب وصار جوهر الروح مطهرا عن جميع النقوش المانعة عن مطالعة عالم الملكوت...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقول تعالى ممتنا على خلقه بما أنزل إليهم من القرآن العظيم على رسوله الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} أي: زاجر عن الفواحش، {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} أي: من الشُبَه والشكوك، وهو إزالة ما فيها من رجس ودَنَس، {وَهُدًى وَرَحْمَةً} أي: محصلٌ لها الهداية والرحمة من الله تعالى. وإنما ذلك للمؤمنين به والمصدقين الموقنين بما فيه، كما قال تعالى: {وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا} [الإسراء: 82]، وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44].
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ثبت أن ذلك كله حق مباين للسحر الذي مبناه على التخييل، أقبل على الذين تقدم الإخبار عنهم في أول السورة في قوله: أكان للناس عجباً أنهم قالوا إنه سحر، فقال: {يا أيها الناس} أي الذين قالوا: إن وعدنا والإخبار به سحر؛ ولما كان بين الأرواح والأبدان حب غريزي بالتعلق، والتذ الروح لذلك بمشتهيات هذه الحياة الدنيا بما انطبع فيه بمظاهر الحس فلم يأته نور العقل حتى تعود النقائص بقوة التعلق فحدثت له أخلاق ذميمة هي أمراض روحانية، فأرسل ربه الذي أوجده ودبره وأحسن إليه طبيباً حاذقاً هو الرسول صلى الله عليه وسلم لعلاج هذه الأمراض.
وأنزل كتابه العزيز لوصف الأدوية، فكان أحكم الطب منع المريض عن أسباب المرض، قال تعالى: {قد جاءتكم موعظة} أي زاجر عظيم عن التخلي عن كل ما يشغل القلب عن الله من المحظورات وغيرها من كل ما لا ينبغي، وذلك هو الشريعة.
ولما كان تناول المؤذي شديد الخطر، وهو لذيذ إلى النفس بينهما من ملاءمة النقص، وكان الانكفاف عنه أشق شيء عليها، رغبها في القبول بقوله: {من ربكم} أي المحسن إليكم المدبر لمصالحكم بهذا القرآن؛ ولما كان أليق ما يعمل بعد الحمية تعاطي الدواء المزيل للأخلاط الفاسدة من الباطن، قال: {وشفاء} أي عظيم جداً {لما في الصدور} من أدواء الجهل، وذلك الشفاء يحصل بتطهير الباطن بعد التخلي عن الأخلاق الذميمة بالتحلي بالصفات الحميدة ليصير الباطن سالماً عن العقائد الفاسدة والأخلاق الناقصة كما سلم البدن من الأفعال الدنية، وهذا هو الطريق.
ولما كانت الروح إذا انصقلت مرآتها فصارت قابلة لتجلي الأنوار عليها بفيض البروق الإلهية والنفحات القدسية والمواهب الملكوتية لأنها دائمة اللمعان كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطبراني عن محمد بن مسلمة رضي الله عنه:"إن لربكم أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا له" الحديث. وليس المانع من نزولها في كل قلب إلا عدم القابلية من بعضها لتراكم الظلمات فيها من صداء المخالفة ورين الإعراض والغفلة، فيكون بذلك كالمرايا الصديئة لا تقبل انطباع الصور بها، قال تعالى: {وهدى} إلى الحق لأنه نور عظيم يقود صاحبه -ولابد- إلى الطريق الأقوم، وهذا للصديقين وهو الحقيقة.
ولما كان هذا النور إذا زاد عظمة وانتشر إشراقه يفيض -بعد الوصول إلى هذه الدرجات الروحانية والمعارج الربانية- على أرواح الناقصين فيض النور من جوهر الشمس على أجرام العالم فينير كل قابل له مقبل عليه، قال تعالى: {ورحمة} أي إكرام عظيم بالإمامية بالغ في الكمال والإشراق إلى حد لا مزيد عليه، وهذا للأنبياء عليهم السلام؛ ولما كان لا ينتفع بأنوارهم إلا من توجه إليهم، ثم إن الانتفاع بهم يتفاوت بتفاوت درجات التوجه إليهم والإقبال عليهم، قال: {للمؤمنين} الذين اتبعوه وهم راسخون في التوجه إلى المرشدين والاستسلام لهم فكان ذلك سبباً لنجاتهم -أشار إلى هذا الإمام وقال: فهذه درجات عقلية ومراتب برهانية مدلول عليها بهذه الكلمات الأربع القرآنية على وجه لا يمكن تأخير شيء منها عن موضعه ولا تقديمه، وهذا بخلاف ما نسبوه إليه صلى الله عليه وسلم من السحر فإنه داء كله وضلال يجر إلى الشقاء، والموعظة: إبانة تدعو إلى الصلاح بطريق الرغبة والرهبة، والوعظ ما دعا إلى الخشوع والنسك وصرف عن الفسوق والإثم؛ والشفاء: إزالة الداء، وداء الجهل أضر من داء البدن وعلاجه أعسر وأطباؤه أقل، والشفاء منه أجل؛ والصدر: موضع القلب، وهو أجل موضع في الحي لشرف القلب؛ والهدى: بيان عن معنى يؤدي إلى الحق، وهو دلالة تؤدي إلى المعرفة؛ والرحمة: نعمة على المحتاج.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
قال بعض المحققين: إن في ذلك إشارة إلى أن للنفس الإنسانية مراتب كمال من تمسك بالقرآن فاز بها:
أحدها: تهذيب الظاهر عن فعل ما لا ينبغي وإليه الإشارة {بالموعظة} بناءً على أن فيها الزجر عن المعاصي.
وثانيها: تهذيب الباطن عن العقائد الفاسدة والملكات الردية وإليه الإشارة {وَشِفَاء لِمَا فِي الصدور}.
وثالثها: تحلي النفس بالعقائد الحقة والأخلاق الفاضلة ولا يحصل ذلك إلا بالهدى. ورابعها: تجلي أنوار الرحمة الإلهية وتختص بالنفوس الكاملة المستعدة بما حصل لها من الكمال الظاهر والباطن لذلك...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هاتان الآيتان في موضوع تشريع القرآن العلمي التهذيبي جاء بعد بيان عقائده الثلاث (التوحيد والرسالة والبعث) وتأييدها بالاستدلال على كونه من الله تعالى، وعلى صدق وعده ووعيده، والرد على مكذبيه، وقد أجمل في الآية الأولى جميع مقاصد هذا التشريع وإصلاحه للناس بما يظهر به للعاقل أنه حق وخير وصلاح بذاته لا يصح لعاقل أن يماري فيه، ولا أن يحتاج للاستدلال عليه.
فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وهُدًى ورَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} أي قد جاءكم كتاب جامع لكل ما تحتاجون إليه من موعظة حسنة لإصلاح أخلاقهم وأعمالهم الظاهرة، وحكمة بالغة لإصلاح خفايا أنفسكم وشفاء أمراضها الباطنة، وهداية واضحة للصراط المستقيم الموصل إلى سعادة الدنيا والآخرة، ورحمة خاصة للمؤمنين، هي شجنة من رحمة رب العالمين العامة للخلق أجمعين، يتراحمون بها فيما بينهم، فتكمل بها رحمته تعالى لهم، ورحمته للعالمين برسوله إليهم وبهم، وقد عرف هذا من تاريخهم أشهر فلاسفة التاريخ من الإفرنج فقال:"ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب". فكأن الله تعالى يقول للناس- بعد بيان هذه المقاصد الأربعة للقرآن-: فما بالكم أيها الناس تكذبون بما لم تحيطوا به علما من أخبار هذا الكتاب، التي هي من علم الغيب عن المآل والمآب، ولا تفكرون في آدابه ومواعظه، وأحكامه وحكمه، وهداية نواميسه وسننه، وما فيها من المنافع والمصالح، التي لا يماري فيها عالم ولا يكابر فيها عاقل؟ حتى إن أشد أعداء الرسول إيذاء له وصدا عن دعوته في أول ظهورها لم يستطيعوا الطعن على ما دعا إليه من الفضائل والخير والبر، وما نهى عنه من الرذائل والشرور والفجور، كأبي سفيان عندما سأله هرقل قيصر الروم، وعمرو بن العاص عند ما سأله أصحمة نجاشي الحبشة، فإن كان ذلك قد خفي على بعض الجاحدين والمقلدين لهم من المشركين قبل تعميم نشر القرآن فيهم، وقبل ظهور ما كان له من التأثير العظيم بعد انتشار الإسلام في العرب، ومن الإصلاح الديني والمدني في شعوب العجم، أفليس من العجب العجاب أن يماري به أحد بعد ذلك ويصدق ما يفتريه عليه دعاة الكنيسة ورجال السياسة من الإفرنج وتلاميذهم وهم أكذب البشر؟
أجملت الآية الحكيمة هذا الإصلاح القرآني لأنفس البشر في أربع قضايا أو مسائل نكرن في اللفظ لتعظيم أمرهن، أو لبيان أنهن نوع خاص لم يعهد الناس مثلهن، في كمالهن المعنوي وبيانهن اللفظي، وقوله {من ربكم} للتذكير بما يزيدها تعظيما، ووجوب الاتعاظ بها إيمانا وتسليما، لأنها من مالك أمر الناس ومربيهم بفضله ورحمته، وعلمه وحكمته:
الأولى: الموعظة الحسنة: وهي اسم من الوعظ، أي الوصية بالحق والخير، واجتناب الباطل والشر، بأساليب الترغيب والترهيب التي يرق لها القلب، فتبعث على الفعل والترك، وقد تقدم في حقوق النساء من سورة البقرة {واذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ ومَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ والْحِكْمَة يَعِظُكُم بِهِ} [البقرة: 131] وفي التي بعدها {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وأَطْهَرُ واللّهُ يَعْلَمُ وأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 132] وتقدم في سورة آل عمران بعد النهي عن أكل الربا والأمر بطاعة الله ورسوله والترغيب في الإنفاق في السرّاء والضراء وكظم الغيظ والعفو عن الناس، وما أعده الله على ذلك من الجزاء {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وهُدًى ومَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 136]، ويليه الكلام في الجهاد وغزوة أحد، وفي سورة النساء {إن اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ} [النساء: 58]، وتقدم غير ذلك من أمثلة الوعظ- وسيأتي غيره مما يفسر مراده تعالى من موعظته الربانية- فهل يمكن أن يتمارى عاقلان في حسنها ومنفعتها للعباد في أعمالهم وأحكامهم؟ كلا، إنها مما يتوقف عليه صلاح العباد في كل زمان ومكان.
الثانية: شفاء ما في الصدور: أي شفاء جميع ما في القلوب من أدواء الشرك والكفر والنفاق، وسائر الأمراض النفسية التي يشعر صاحبها ذو الضمير الحي بضيق الصدر، من شك في الإيمان، ومخالفة للوجدان، وإضمار للحقد والحسد والبغي والعدوان، وحب للباطل والشر، وبغض للحق والعدل والخير.
قال الراغب: قال بعض الحكماء: حيثما ذكر الله القلب فإشارة إلى العقل والعلم نحو {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب} [ق: 37]، وحيثما ذكر الصدر فإشارة إلى ذلك وإلى سائر القوى من الشهوة والهوى والغضب ونحوها، وقوله: {رب اشرح لي صدري} [طه: 25] فسؤال لإصلاح قواه، وكذلك قوله: {ويشف صدور قوم مؤمنين} [التوبة: 14] إشارة إلى اشتفائهم. وقوله: {فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور} [الحج: 46] أي العقول التي هي مندسة فيها سائر القوى وليست مهتدية. والله أعلم بذلك اه.
والتحقيق أن الصدر يطلق مجازا على القلب الحسي الذي فيه، وعلاقته ظاهرة، وعلى القلب المعنوي الذي هو للنفس كالقلب الحسي للبدن لأنه لبها، ومركز شعور مداركها وانفعالاتها، دون الدماغ، فإن النفس لا تشعر بما ينطبع فيه من المدركات من انشراح وبسط، ولا حرج وضيق وقبض، فجميع الإدراكات العلمية والوجدانية توصف بها القلوب حقيقة والصدور مجازا، وتكون فاعلة ومفعولة وصفات للأفعال العاملة فيهما.
وأما العقل في اللغة فهو الحكم الصحيح في بعض الإدراكات ولوازمها من حسن وقبح وصلاح وفساد، ونفع وضر، ومركزه الدماغ قطعا، فأمراض الصدور والقلوب تشمل الجهل وسوء الظن، والشك في الإيمان، والنفاق، والحقد والضغن والحسد، وسوء النية وخبث الطوية، وفساد السريرة، وغير ذلك مما تقدم آنفا، والشواهد على هذا في القرآن كثيرة.
وذهب بعضهم إلى أن الشفاء في الآية يشمل شفاء الأمراض البدنية، واستدلوا بما أخرجه ابن المنذر وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أشتكي صدري فقال: "اقرأ القرآن. يقول الله: {وشفاء لما في الصدور}، وفيه أن ضيق الصدر في الغالب ألم نفسي لا بدني، قد يكون سببه دينيا وقد يكون دنيويا كالخوف والحاجة، وقراءة المؤمن للقرآن تنفع في كل منهما، ومن الأول قوله: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ ومَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} [الأنعام: 125] وقوله في آخر سورة الحجر {ولَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ واعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 97]، والتسبيح بحمد الله والسجود له وعبادته بالصلاة وتلاوة القرآن أعظم أسباب انشراح الصدر، كما قال: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه} [الزمر: 22].
واستدلوا أيضا بما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن رجلا شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجع حلقه قال: "عليك بقراءة القرآن والعسل، فالقرآن شفاء لما في الصدور، والعسل شفاء من كل داء"، وهو على ضعفه لا يدل على ما قيل؛ إذ معناه اقرأ القرآن تعلم منه ما يفيدك، إذ فيه أن القرآن شفاء لأمراض الصدور، والعسل شفاء لأمراض البدن، فهو كوصفه صلى الله عليه وسلم العسل لمن شكا له استطلاق بطن ابن أخيه في الحديث الصحيح. وقد ثبت في الطب الحديث أن العسل مطهر طبي ومضاد للفساد، واستطلاق البطن يكون من فساد في الأمعاء، وكذا وجع الحلق بالتهاب اللوزتين ونحوه، والعسل مطهر لكل شفاء منهما، وقد روى أبو الشيخ عن الحسن البصري أنه قال: إن الله تعالى جعل القرآن شفاء لما في الصدور، ولم يجعله شفاء لأمراضكم. وقال بعض المفسرين: إن تنكير الشفاء في آية العسل يدل على الخصوص لا العموم. على أن الرقية بالفاتحة وغيرها قد تفيد في شفاء بعض الأمراض، ولاسيما إذا كان الراقي قوي الإيمان، والمرقي حسن الاعتقاد، وليس هذا مما تدل عليه الآية.
الثالثة: الهدى: وهو بيان الحق المنقذ من الضلال في الاعتقاد بالبرهان، وفي العمل ببيان الحكم والمصالح في أحكام الأعمال، وهو ما فصلناه تفصيلا في هذا التفسير، وبينا أنواعه في مقاصد القرآن من مباحث الوحي في أول تفسير هذه السورة بأنواعها الدينية والعقلية والاجتماعية، وتقدم الكلام على معناه اللغوي وأنواعه في تفسير الفاتحة وأول سورة البقرة.
الرابعة: الرحمة للمؤمنين: وهي ما تثمره لهم هداية القرآن وتفيضه على قلوبهم من رحمة ربهم الخاصة، وهي صفة كمال من آثارها إغاثة الملهوف، وبذل المعروف، وكف الظلم، ومنع التعدي والبغي، وغير ذلك من أعمال الخير والبر، ومقاومة الشر، وقد وصف الله المؤمنين بقوله: {رحماء بينهم} [الفتح؛ 29] وبقوله: {وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة} [البلد: 17].
وهذه الصفات الأربع مرتبة على سنة الفطرة البشرية، فالموعظة التعاليم التي تشعر النفس بنقصها وخطر أمراضها الاعتقادية والخلقية، وتزعجها إلى مداولتها وطلب الشفاء منها، والشفاء تخلية يتبعها طلب التحلية بالصحة الكاملة، والعافية التامة، وهو الهدى، ومن ثمراته هذه الرحمة التي لا توجد على كمالها إلا في المؤمنين المهتدين، ولا يحرمها إلا الكافرون الماديون، حتى قال بعضهم: إنها ضعف في القلب، يجعل صاحبه كالمضطر إلى الإحسان والعطف، وما هذا القول إلا من فساد الفطرة، وقسوة القلب، وفلسفة الكفر، فلقد كان أشجع الناس وأقواهم بدنا وقلبا أرحم الناس وأشدهم عطفا، وهو سيد ولد آدم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاتم النبيين، الذي وصفه ربه بما وصف به نفسه من قوله: {بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128]؛ بل جعله عين الرحمة في قوله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107]، وكذلك كان أصحابه رضي الله عنه حتى كان من يوصف بالشدة والقسوة كعمر بن الخطاب رضي الله عنه صار من أرحم الناس، وسيرته في ذلك معروفة.
وقد قال صلى الله عليه وسلم:"لا تنزع الرحمة إلا من شقي "26. رواه أبو داود والترمذي واللفظ له عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا سمع -وهو في الصلاة- بكاء طفل تجوز في صلاته، أي اختصر وخفف رحمة به وبأمه، وروى ابن إسحاق أن بلالا رضي الله عنه مرّ بصفية وبابنة عم لها على قتلى قومهما اليهود بعد انتهاء غزوة قريظة، فصكت ابنة عمها وجهها وحثت عليه التراب وهي تصيح وتبكي، فقال صلى الله عليه وسلم له:"أنزعت الرحمة من قلبك حتى مررت بالمرأتين على قتلاهما"، وجاء أعرابي إليه صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تقبلون أولادكم وما نقبلهم، فقال: "أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك". رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنه.
بل كان صلى الله عليه وسلم شديد الرحمة بالبهائم والطير والحشرات، وطالما أوصى بها، ولاسيما صغارها وأمهاتها، جاءه مرة رجل وعليه كساء، وفي يده شيء قد التف عليه، فقال: يا رسول الله إنني لما رأيتك أقبلت، فمررت بغيظة شجر، فسمعت فيها أصوات فراخ طائر فأخذتهن فوضعتهن في كسائي، فجاءت أمهن فاستدارت على رأسي وكشفت لها عنهن فوقعت عليهن، فلففتها معهن بكسائي فهن أولاء معي، فقال:"ضعهن". قال: ففعلت، فأبت أمهن إلا لزومهن، فقال صلى الله عليه وسلم: "أتعجبون لرحمة أم الأفراخ بفراخها؟ قالوا: نعم، قال:"والذي بعثني بالحق لله أرحم بعباده من أم الأفراخ بفراخها، ارجع بهن حتى تضعهن حيث أخذتهن، وأمهن معهن "فرجع بهن. رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه، وروى مالك والبخاري ومسلم وأبو داود من حديثه مرفوعا حديثين خلاصتهما أن الله غفر لرجل ولامرأة بغيّ؛ لأن كلا منهما رأى كلبا قد اشتد به العطش فرحمه، وأخرج له الماء من البئر بخفه فسقاه. قالوا له: يا رسول الله إن لنا في البهائم أجرا؟ فقال:"في كبد رطبة أجر". ورواه مالك وأحمد عن غيره بلفظ "في كل ذات كبد حرى أجر".
وقال صلى الله عليه وسلم:"الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء". رواه الترمذي وأبو داود من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، ورويناه مسلسلا بالأولوية من طريق أستاذنا الشيخ محمد أبي المحاسن القاوقجي. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فيها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحوش على ولدها، وأخر الله تسعا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة"، وفي رواية "ولو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل ما عند الله من العذاب لم يأمن من النار". رواه البخاري ومسلم والترمذي، والله تعالى يقول: {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم} [الحجر: 49، 50] ويقول: {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} [يوسف: 87] ويقول: {أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} [الأعراف: 99]، وما دام المؤمن حيا فالواجب عليه أن يخاف الله خوفا يرهبه ويزجره عن معاصيه، وأن يرجوه رجاء يرغبه في ثوابه وما يرضيه، وما عند الله مجهول لنا، وما أحسن قول أبي الحسن الشاذلي قدس الله سره: "وقد أبهمت الأمر علينا لنرجو ونخاف، فآمن خوفنا، ولا تخيب رجاءنا" اللهم آمين.
خاطب الله تعالى بما تقدم كله أمة الدعوة المحمدية -وهم جميع الناس- فموعظة القرآن -وما فيه من شفاء من أمراض الكفر والنفاق والرذائل، وهداه إلى الحق والفضائل- موجهات إلى الجميع، وخص المؤمنين بأن يبلغ هؤلاء المؤمنين أنه يحق لهم أن يفرحوا بفضل الله عليهم بنعمة الإيمان والإسلام، وبهذه الرحمة الخاصة بهم، لاستجماعهم كل ما ذكر قبلها من مقاصد تشريعه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
جاءتكم في ذلك الكتاب الذي ترتابون فيه. جاءتكم الموعظة (من ربكم) فليس هو كتاباً مفترى، وليس ما فيه من عند بشر. جاءتكم الموعظة لتحيي قلوبكم، وتشفي صدوركم من الخرافة التي تملؤها، والشك الذي يسيطر عليها، والزيغ الذي يمرضها، والقلق الذي يحيرها. جاءت لتفيض عليها البرء والعافية واليقين والاطمئنان والسلام مع الإيمان. وهي لمن يرزق الإيمان هدى إلى الطريق الواصل، ورحمة من الضلال والعذاب:...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{يأيّها الناس} التفات من الغيبة إلى الخطاب، والمعنى أن القرآن موعظة لجميع الناس وإنما انتفع بموعظته المؤمنون فاهتدوا وكان لهم رحمة. ويجوز أن يكون خطاباً للمشركين بناء على الأكثر في خطاب القرآن ب {يأيها الناس} فيكون ذكر الثناء على القرآن بأنه هدًى ورحمة للمؤمنين إدماجاً وتسجيلاً على المشركين بأنهم حَرموا أنفسهم الانتفاع بموعظة القرآن وشفائه لما في الصدور، فانتفع المؤمنون بذلك.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ولا شك أن كتاب الله شفاء لما في النفوس والأرواح من الأمراض الباطنة، وشفاء لما في العقول والأفكار من الشكوك الكامنة، فهو الترياق المجرب في الخلوات والجلوات، وهو الإكسير الذي لا يماثله إكسير لعلاج جميع الأزمات.
والخطاب هنا للناس جميعا؛ لأن الحق سبحانه حين يخاطب المؤمنين بقوله تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا} [البقرة 104]: فهذا خطاب لمن آمن بالمنهج.
والحق سبحانه وتعالى يخاطب الناس كافة بأصول العقائد، مثل قول الحق سبحانه:
{يا أيها الناس اتقوا ربكم} [النساء 1]: أما المؤمنون فسبحانه يكلفهم بخطابه إليهم، من مثل قول الحق سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام} [البقرة 183].
ومثل قول الحق: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة 178]: أي: أن خطابه سبحانه للمؤمنين يكون دائما في الأحكام التي يخاطب بها المؤمنين، أما في أصول العقائد والإيمان الأعلى بالواجد الموجد، فهذا يكون خطابا للناس كافة.
والحق سبحانه يقول هنا: {يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة}: والآية هنا تصور الموعظة وكأنها قد تجسدت وصار لها مجيء، رغم أن الموعظة هي كلمات، وأراد الله تعالى بذلك أن يعطي للموعظة صورة الحركة التي تؤثر وتحض على الإيمان.
والموعظة هي الوصية بالخير والبعد عن الشر بلفظ مؤثر، ويقال: فلان واعظ متميز، أي: أن كلامه مستميل وأسلوبه مؤثر وجميل، والموعوظ دائما أضعف من الواعظ، وتكون نفس الموعوظ ثقيلة، فلا تتقبل الموعظة بيسر إلا ممن يجيد التأثير بجمال الكلمة وصدق الأداء ؛ لأن الموعوظ قد يقول في نفسه: لقد رأيتني في محل دونك وتريد أن ترفعني، وأنت أعلى مني. فإذا قدر الواعظ هذا الظرف في الموعوظ فهو يستميل نفسه.
ولنتذكر الحكمة التي تقول:"النصح ثقيل، فلا تجعلوه جدلا، ولا ترسلوه جبلا، واستعيروا له خفة البيان"؛ وذلك لتستميل أذن السماع إليك فتأتى له بالأسلوب الجميل المقنع الممتع الذي يعجبه، وتلمس في نفسه صميم ما ترغب أن يصل إليه.
والموعظة تختلف عن الوصية؛ لأن الوصية عادة لا تتأتى إلا في خلاصة حكمة الأشياء، وهب أن إنسانا مريضا وله أولاد، وحضرته الوفاة، فيقوم بكتابة وصيته، ويوصيهم بعيون المسائل.
والحق سبحانه يقول هنا: {قد جاءتكم موعظة...}: والموعظة إما أن تسمعها أو ترفضها، ولأنها موعظة قادمة {من ربكم} فلا بد من الالتفات والانتباه، وملاحظة أن الحق سبحانه قد اختص الموعظة بأنها من الرب، لا من الإله؛ لأن الإله يريدك عابدا، لكن الرب هو المربي والكفيل، وإن كفرت به.
وهذه الموعظة قادمة من الرب، أي: أنها من كمالات التربية، ونحن نعلم أن متعلقات الربوبية تتوزع ما بين قسمين: القسم الأول هو مقومات الحياة التي يعطيها الحق سبحانه من قوت ورزق-وهذه المقومات للمؤمن، وللكافر- والقسم الآخر هو مقومات القيم التي ترسم منهج حركة الحياة، وهذه للمؤمن فقط.
إذن: فالموعظة هي نوع من التربية جاءت من ربكم المأمون عليكم؛ لأنه هو الذي خلق من عدم وأمد من عدم، ولم يختص بنعمة الربوبية المؤمنين فقط، بل شملت نعمته كل الخلق.
إذن: فالموعظة تجيء من يعطي ولا ينتظر منك شيئا، فهو سبحانه منزه عن الغرض؛ لأنه لن ينال شيئا منك فأنت لا تقدر على شيء مع قدرته سبحانه.
والموعظة القادمة بالمنهج تخص العقلاء الراشدين؛ لأن حركة العاقل الراشد تمر على عقله أولا، ويختار بين البدائل، أما حركة المجنون فهي غير مرتبة ولا منسقة، ولا تمر على عقله؛ لأن عقله مختل الإدراك وفاقد للقدرة على الاختيار بين البدائل.
ولكن لماذا يفسد العاقل الاختيار بين البدائل؟ إن الذي يفسد حركة اختيار العاقل هو الهوى، والهوى إنما ينشأ مما في النفس والقلب؛ ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور.}: أي: أنه سبحانه قد أنزل عليكم ما يشفي صدوركم من غل يؤثر في أحكامكم، وحقد، وحسد، ومكر، وينقي باطن الإنسان؛ لأن أي حركة من حركات الإنسان لها نبع وجداني، ولا بد أن يشفى النبع الوجداني؛ ليصح؛ حتى تخرج الحركات من الجوارح وهي نابغة من وجدان طاهر مصفى وسليم؛ وبذلك تكون الحركات الصادرة من الإنسان سليمة.
ولذلك قال الحق سبحانه: {وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين}: وجاءت كلمة "لشفاء "أولا؛ لتبين أن الهداية الحقة إلى الطريق المستقيم تقتضي أن تخرج ما في قلبه من أهواء، ثم تدله إلى المنهج المستقيم.
وإن سأل سائل عن الفارق بين الشفاء والرحمة؟ نجيب: إن الشفاء هو إخراج لما يمرض الصدور، أما الرحمة فهي إتباع الهداية بما لا يأتي بالمرض مرة أخرى، واقرأ عن شئت قول الحق سبحانه: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين} [الإسراء 82]: وهكذا يتبين لنا أثر الموعظة: شفاء، وهدى، ورحمة، إنها تعالج ليس ظواهر المرض فقط، ولكن تعالج جذور المرض.
إذن: فشفاء الصدور يجب أن يتم أولا؛ لذلك نجد الطبيب الماهر هو من لا ينظر إلى ظواهر المرض فقط ليعالجها، ولكنه يبحث عما خلف تلك الظواهر، على عكس الطبيب غير المدرب العجول الذي يعالج الظواهر دون علاج جذور المرض.
ومثال ذلك: طبيب الأمراض الجلدية غير الماهر حين يرى بثورا؛ فهو يعالجها بما يطمسها ويزيلها مؤقتا، لكنها تعود بعد قليل، أما الطبيب المدرب الفاهم فهو يعالج الأسباب التي تنتج البثور، ويزيلها بالعلاج الفعال؛ فيقضي على أسباب ظهورها...
إذن: فالموعظة وكأنها تجسدت، فجاءت من ربكم-المأمون عليكم- شفاء حتى تعالج المواجيد التي تصدر عنها الأفعال، وتصبح مواجيد سليمة مستقيمة، لا تحلل فيها، وهدى إلى الطريق الموصل إلى الغاية الحقة، ورحمة إن اتبعها الإنسان لا يصاب بأي داء، وهذه الموعظة تؤدي إلى العمل المقبول عند الله سبحانه.
ولكن إن صحت لك الأربعة النابعة من الموعظة: الشفاء، والهدى، والرحمة والعمل الصالح، فإياك أن تفرح بذلك؛ ففوق كل ذلك فضل الله عليك؛ ولذلك يقول الحق سبحانه:
{قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون}.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
... إِنّ الآية أعلاه تشرح وتبيّن أربع مراحل من مراحل تربية وتكامل الإِنسان في ظل القرآن. المرحلة الأُولى: مرحلة الموعظة والنصيحة.
المرحلة الثّانية: مرحلة تطهير روح الإِنسان من مختلف أنواع الرذائل الأخلاقية. المرحلة الثّالثة: مرحلة الهداية التي تجري بعد مرحلة التطهير. المرحلة الرّابعة: هي المرحلة التي يصل فيها الإِنسان إِلى أن يكون لائقاً لأن تشمله رحمة الله ونعمته.
القرآن هو الذي يعظ البشر، والقرآن هو الذي يغسل قلوبهم من تبعات الذنوب والصفات القبيحة، والقرآن هو الذي يوقد نور الهداية في القلوب ليضيئها، والقرآن أيضاً هو الذي ينزل النعم الإِلهية على الفرد والمجتمع.