{ 59 ْ } { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ ْ }
أي : لا يحسب الكافرون بربهم المكذبون بآياته ، أنهم سبقوا اللّه وفاتوه ، فإنهم لا يعجزونه ، واللّه لهم بالمرصاد .
وله تعالى الحكمة البالغة في إمهالهم وعدم معاجلتهم بالعقوبة ، التي من جملتها ابتلاء عباده المؤمنين وامتحانهم ، وتزودهم من طاعته ومراضيه ، ما يصلون به المنازل العالية ، واتصافهم بأخلاق وصفات لم يكونوا بغيره بالغيها ، فلهذا قال لعباده المؤمنين :
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أن الكافرين لن ينجوا من عقابه ، وبشر المؤمنين بالنصر فقال : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ سبقوا إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } وقوله { يَحْسَبَنَّ } من الحسبان بمعنى الظن ، وقد قرأ ابن عامر وحفص وحمزة " يحسبن " بالياء ، وقرأ الباقون بالتاء .
وقوله : { يُعْجِزُونَ } من العجز ، وأصله - كما يقول الراغب - : التأخر عن الشئ . . ثم صار في التعارف اسماً للقصور عن فعل الشئ ، وهو ضد القدرة . . والعجوز سميت بذلك لعجزها في كثير من الأمور . .
والمعنى - على القراءة بالياء - : ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم أنهم قد سبقوا الله فنجوا من عقابه ، وخلصوا من عذابه .
. كلا إن حسبانهم هذا باطل - لأنهم لا يعجزون الله ، بل هو - سبحانه - قادر على إهلاكهم وتعذيبهم في كل وقت . .
وأن نجاتهم من القتل أو الأسرفي الدنيا لن تنفعهم شيئاً من العذاب المهين في الآخرة .
وعلى هذه القراءة يكون فاعل { يَحْسَبَنَّ } قوله { الذين كَفَرُواْ } ويكون المفعول الأول ليحسبن محذوف أى : ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم ، والمفعول الثانى جملة { سبقوا } .
وأما على القراءة الثانية { وَلاَ يَحْسَبَنَّ } فيكون قوله { الذين كَفَرُواْ } هو المفعول الأول . وجملة { سبقوا } هى المفعول الثانى .
أى : ولا تحسبن - أيها الرسول الكريم - أن هؤلاء الكافرين قد سبقونا خيانتهم لك ، أو أفلتوا من عقابنا وصاروا في مأمن منا . . كلا ، إنهم لا يعجزوننا عن إدراكهم وإنزال العقوبة بهم في أي وقت نريده فنحن لا يعجزنا شئ . .
وعلى كلتا القراءتين فالمقصود من الآية الكريمة قطع أطماع الكافرين في النجاة ، وإقناطهم من الخلاص ، فكأنه - سبحانه - يقول لهم : إن من لم يصبه عذاب الدنيا ، فسوف يصيبه عذاب الآخرة ، ولا مفر له من ذلك ما دام قد استحب الكفر على الإِيمان ، أما المؤمنون فلهم من الله - تعالى - التأييد والنصر وحسن العقابة
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَلا تَحْسَبَنَّ } يا محمَّد { الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا } أي : فاتونا فلا نقدر عليهم ، بل هم تحت قهر قدرتنا وفي قبضة مشيئتنا فلا يعجزوننا ، كما قال تعالى : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ العنكبوت : 4 ]أي : يظنون ، وقال تعالى : { لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ النور : 57 ] ، وقال تعالى{[13104]} { لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } [ آل عمران : 196 ، 197 ] .
{ وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوَاْ إِنّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ } .
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأ ذلك عامة قرّاء الحجاز والعراق : «وَلا تَحْسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إنّهُمْ » بكسر الألف من «إنهم » وبالتاء في «تحسبنّ » ، بمعنى : ولا تحسبنّ يا محمد الذين كفروا سبقونا ففاتونا بأنفسهم . ثم ابتدىء الخبر عن قدرة الله عليهم ، فقيل : إن هؤلاء الكفرة لا يعجِزون ربهم إذا طلبهم وأراد تعذيبهم وإهلاكهم بأنفسهم فيفوتوه بها . وقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة والكوفة : وَلا يَحْسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا بالياء في «يحسبنّ » ، وكسر الألف من «إنهم » ، وهي قراءة غير حميدة لمعنيين : أحدهما خروجهما من قراءة القرّاء وشذوذها عنها ، والاَخر بعدها من فصيح كلام العرب وذلك أن «يحسب » يطلب في كلام العرب منصوبا وخبره ، كقوله : عبد الله يحسب أخاك قائما ويقوم وقام ، فقارىء هذه القراءة أصحب «يحسب » خبرا لغير مخبر عنه مذكور ، وإنما كان مراده : ظنيّ ولا يحسبنّ الذين كفروا سبقوا أنهم لا يعجزوننا ، فلم يفكر في صواب مخرج الكلام وسقمه ، واستعمل في قراءته ذلك كذلك ما ظهر له من مفهوم الكلام . وأحسب أن الذي دعاه إلى ذلك الاعتبار بقراءة عبد الله ، وذلك أنه فيما ذكر في مصحف عبد الله : «وَلا يَحْسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا أنّهُمْ سَبَقُوا إنّهُمْ لا يُعْجِزُونَ » وهذا فصيح صحيح إذا أدخلت أنهم في الكلام ، لأن «يحسبنّ » عاملة في «أنهم » ، وإذا لم يكن في الكلام «أنهم » كانت خالية من اسم تعمل فيه . وللذي قرأ من ذلك من القرّاء وجهان في كلام العرب وإن كانا بعيدين من فصيح كلامهم : أحدهما أن يكون أريد به : ولا يحسبنّ الذين كفروا أن سبقوا ، أو أنهم سبقوا ، ثم حذف «أن » و«أنهم » ، كما قال جلّ ثناؤه : وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفا وَطَمَعا بمعنى : أن يريكم . وقد ينشد في نحو ذلك بيت لذي الرمة :
أظَنّ ابْنُ طُرْثُوثٍ عُيَيْنَةُ ذَاهِبا ***بِعادِيّتِي تَكْذَابُهُ وَجَعائِلُهْ
بمعنى : أظنّ ابن طرثوث أن يذهب بعاديتي تكذابُه وجعائله . وكذلك قراءة من قرأ ذلك بالياء ، يوجه «سبقوا » إلى «سابقين » على هذا المعنى . والوجه الثاني على أنه أراد إضمار منصوب ب «يحسب » ، كأنه قال : ولا يحسب الذين كفروا أنهم سبقوا ، ثم حذف الهمز وأضمر . وقد وجه بعضهم معنى قوله : أنّمَا ذَلِكُمُ الشّيْطانُ يُخَوّفُ أوْلِياءَهُ إنما ذلكم الشيطان يخوّف المؤمن من أوليائه ، وأن ذكر المؤمن مضمر في قوله : «يخوّف » ، إذ كان الشيطان عنده لا يخوّف أولياءه . وقرأ ذلك بعض أهل الشام : «وَلا يَحْسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا » بالتاء من «تحسبن » «سَبَقُوا إنّهُمْ لا يُعْجِزُونَ » بفتح الألف من «أنهم » ، بمعنى : ولا تحسبنّ الذين كفروا أنهم لا يعجزون . ولا وجه لهذه القراءة يعقل إلا أن يكون أراد القارىء ب «لا » التي في يعجزون «لا » التي تدخل في الكلام حشوا وصلة . فيكون معنى الكلام حينئذ : ولا تحسبنّ الذين كفروا سبقوا أنهم يعجزون . ولا وجه لتوجيه حرف في كتاب الله إلى التطويل بغير حجة يجب التسليم لها وله في الصحة مخرج .
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندي قراءة من قرأ : «لا تَحْسَبن » بالتاء «الّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إنهُمْ » بكسر الألف من «إنهُمْ لا يُعْجِزُونَ » بمعنى : ولا تحسبنّ أنت يا محمد الذين جحدوا حجج الله وكذّبوا بها سبقونا بأنفسهم ، ففاتونا ، إنهم لا يعجزوننا : أي يفوتوننا بأنفسهم ، ولا يقدرون على الهرب منا . كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : «وَلا يَحْسَبنّ الّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إنّهُمْ لا يُعْجِزُونَ » يقول : لا يفوتون .
وقوله تعالى : { ولا يحسبنَّ الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون } قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم والكسائي «ولا تحسِبن » بالتاء مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم ، وبكسر السين غير عاصم فإنه فتحها ، و { الذين كفروا } مفعول أول ، و { سبقوا } مفعول ثان ، والمعنى فأتوا بأنفسهم وأنجوها «إنهم لا يعجزون » بكسر ألف «إن » على القطع والابتداء ، و { يعجزون } معناه مفلتون ويعجزون طالبهم ، فهو ُمَعَّدى ( عجز ) بالهمزة تقول عجز زيد وأعجزه غيره وعجزه أيضاً ، قال سويد : [ الوافر ]
وأعجزنا أبو ليلى طفيل*** صحيح الجلد من أثر السلاحِ
وروي أن الآية نزلت فيمن أفلت من الكفار في حرب النبي صلى الله عليه وسلم ، كقريش في بدر وغيرهم ، فالمعنى لا تظنهم ناجين بل هم مدركون ، وقيل معناه لا يعجزون في الدنيا ، وقيل المراد في الآخرة ، قال أبو حاتم وقرأ مجاهد وابن كثير وشبل «ولا تِحسبن » بكسر التاء ، وقرأ الأعرج وعاصم وخالد بن الياس «تَحسَبن » بفتح التاء من فوق وبفتح السين ، وقرأ الأعمش «ولا يَحسَب » بفتح السين والياء من تحت وحذف النون ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وأبو عبد الرحمن وابن محيصن وعيسى «ولا يحسِبنّ » بياء من تحت وسين مكسورة ونون مشددة ، وقرأ حفص عن عاصم وابن عامر وحمزة «ولا يحسبْنَ » بالياء على الكناية عن غائب وبفتح السين ، فإما أن يكون في الفعل ضمير النبي صلى الله عليه وسلم ، أو يكون التقدير ولا يحسبن أحد ، ويكون { قوله الذين كفروا } مفعولاً أولاً و { سبقوا } مفعولاً ثانياً ، وإما أن يكون { الذين كفروا } هم الفاعلون ، ويكون المفعول الأول مضمراً و { سبقوا } مفعول ثان ، وتقدير هذا الوجه ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا ، وإما أن يكون { الذين كفروا } هو الفاعل وتضمر «أن » فيكون التقدير ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا ، وتسد أن سبقوا مسد المفعولين ، قال الفارسي : ويكون هذا كما تأوله سيبويه في قوله عز وجل قال { أفغير الله تأمروني أعبد }{[5428]} التقدير أن أعبد .
قال القاضي أبو محمد : ونحوه قول الشاعر : [ الطويل ]
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[5429]}
قال أبو علي : وقد حذفت «أن » وهي مع صلتها في موضع الفاعل ، وأنشد أحمد بن يحيى في ذلك : [ الطويل ]
وما راعنا إلا يسير بشرطة*** وعهدي به قيناً يفش بكير{[5430]}
وقرأ ابن عامر وحده من السبعة «أنهم لا يعجزون » بفتح الألف من «أنهم » ، ووجهه أن يقدر بمعنى لأنهم لا يعجزون أي لا تحسبن عليهم النجاة لأنهم لا ينجون ، وقرأ الجمهور «يعْجزون » بسكون العين ، وقرأ بعض الناس فيما ذكر أبو حاتم «يعَجّزون » بفتح العين وشد الجيم ، وقرأ ابن محيصن «يعجزونِ » بكسر النون ومنحاها يعجِزوني بإلحاق الضمير ، قال الزجّاج : الاختيار فتح النون ويجوز كسرها على المعنى أنهم لا يعجزونني ، وتحذف النون الأولى لاجتماع النونين ، كما قال الشاعر : [ الوافر ]
تراه كالثغام يعل مسكاً*** يسوء الفاليات إذا فليني{[5431]}
قال القاضي أبو محمد : البيت لعمرو بن معد يكرب وقال أبو الحسن الأخفش في قول متمم بن نويرة : [ الكامل ]
ولقد علمت ولا محالة أنَّني*** للحادثات فهل تريني أجزع{[5432]} ؟
هذا يجوز على الاضطرار ، فقال قوم حذف النون الأولى وحذفها لا يجوز لأنها موضع الإعراب ، وقال أبو العباس المبرد : أرى فيما كان مثل هذا حذف الثانية ، وهكذا كان يقول في بيت عمرو بن معد يكرب ، وفي مصحف عبد الله «ولا يحسب الذين كفروا أنهم سبقوا أنهم لا يعجزون » قال أبو عمرو الداني بالياء من تحت وبغير نون في يحسب .
تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على ما بدأه به أعداؤه من الخيانة مثل ما فعلت قريظة ، وما فعل عبد الله بن أبي سلول وغيرهم من فلول المشركين الذين نجوا يوم بدر ، وطمأنة له وللمسلمين بأنّهم سيدالون منهم ، ويأتون على بقيتهم ، وتهديد للعدوّ بأنّ الله سيمكّن منهم المسلمين .
والسبق مستعار للنجاة ممّن يَطلب ، والتفلّت من سلطته . شبه المتخلّص من طالبه بالسابق كقوله تعالى : { أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا } [ العنكبوت : 4 ] وقال بعض بني فقعس
كأنكَ لم تُسبَق من الدهر مرة *** إذا أنت أدركتَ الذي كنت تطلب
أي كأنّك لم يفتك ما فاتك إذا أدركته بعد ذلك ، ولذلك قوبل السبق هنا بقوله تعالى : { إنهم لا يعجزون } ، أي هم وإن ظهرت نجاتهم الآن ، فما هي إلاّ نجاة في وقت قليل ، فهم لا يعجزون الله ، أو لا يعجزون المسلمين ، أي لا يُصِيِّرون من أفلِتوا منه عاجزاً عن نوالهم ، كقول إياس بن قبيصة الطائي :
ألم تر أنّ الأرض رحب فسيحة *** فهل تعج زَنِّي بُقعة من بقاعها
وحذف مفعول { يعجزون } لظهور المقصود .
وقرأ الجمهور { ولا تحسبن } بالتاء الفوقية . وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وحفص ، وأبو جعفر { ولا تحسبن } بالياء التحتية وهي قراءة مشكلة لعدم وجود المفعول الأول لحسب ، فزعم أبو حاتم هذه القراءة لحناً ، وهذا اجتراء منه على أولئك الايمة وصحة روايتهم ، واحتجّ لها أبو علي الفارسي بإضمار مفعول أول يدلّ عليه قوله : { إنهم لا يعجزون } أي لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا ، واحتج لها الزجاج بتقدير ( أنَّ ) قبل { سبقوا } فيكون المصدر سادّاً مسدّ المفعولين ، وقيل : حذف الفاعل لدلالة الفعل عليه . والتقدير : ولا يحسبنّ حاسب .
وقوله : { إنهم لا يعجزون } قرأه الجمهور بكسر همزة { إنهم } استئناف بياني جواباً عن سؤال تثيره جملة : { ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا } وقرأ ابن عامر { أنهم بفتح همزة ( أنّ ) على حذف لام التعليل فالجملة في تأويل مصدر هو علة للنهي ، أي لأنّهم لا يعجزون ، قال في « الكشّاف » : كلّ واحدة من المكسورة والمفتوحة تعليل إلاّ أنّ المكسورة على طريقة الاستئناف والمفتوحة تعليل صريح .