ثم بين - سبحانه - سوء مصيرهم ، فقال : { لاَ جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ } .
وكلمة { لا جرم } وردت فى القرآن فى خمسة مواضع ، وفى كل موضع كانت متلوة بأن واسمها ، وليس بعدها فعل .
وجمهور النحاة على أنها مركبة من { لا } و { جرم } تركيب خمسة عشر ومعناها بعد التركيب معنى الفعل : حق وثبت ، والجملة بعدها فاعل .
قال الخليل : لا جرم ، كلمة تحقيق ولا تكون إلا جوابا ، يقال : فعلوا ذلك ، فيقال : لا جرم سيندمون .
وقال الفراء : { لا جرم } كلمة كانت فى الأصل بمنزلة لا بد ولا محالة ، فجرت على ذلك وكثرت حتى تحولت إلى معنى القسم ، وصارت بمنزلة حقا فلذلك يجاب عنها باللام ، كما يجاب بها عن القسم ألا تراهم يقولون لا جرم لآتينك .
والمعنى : حق وثبت أن الله - تعالى - يعلم ما يسره هؤلاء المشركون وما يعلنونه من أقوال وأفعال ، وسيجازيهم على ذلك بما يستحقونه من عقوبات ، لأنه - سبحانه - لا يحب المستكبرين عن الاستجابة للحق ، المغرورين بأموالهم وأولادهم ، الجاحدين لنعم الله وآلائه .
قال القرطبى : قال العلماء : وكل ذنب يمكن التستر منه وإخفاؤه ، إلا الكبر ، فإنه فسق يلزمه الإِعلان ، وهو أصل العصيان كله .
وفى الحديث الصحيح : " إن المتكبرين يحشرون أمثال الذَرِّ يوم القيامة ، يطؤهم الناس بأقدامهم لتكبرهم " أو كما قال صلى الله عليه وسلم : " تصغر لهم أجسامهم فى المحشر حتى يضرهم صغرها ، وتعظم لهم فى النار حتى يضرهم عظمها " .
وبعد أن أقامت السورة الكريمة الأدلة الساطعة ، على وحدانية الله ، وقدرته ، وعلى بطلان عبادة غيره . . أتبعت ذلك بحكاية بعض أقاويل المشركين ، وردت عليها بما يدحضها ، وببيان سوء عاقبتهم ، وعاقبة أشباههم من قبلهم ، فقال - تعالى - : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ . . . } .
القول في تأويل قوله تعالى : { لاَ جَرَمَ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنّهُ لاَ يُحِبّ الْمُسْتَكْبِرِينَ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : لا جرم حقّا أن الله يعلم ما يسرّ هؤلاء المشركون من إنكارهم ما ذكرنا من الأنباء في هذه السورة ، واعتقادهم نكير قولنا لهم : إلهكم إله واحد ، واستكبارهم على الله ، وما يعلنون من كفرهم بالله وفريتهم عليه . إنّهُ لا يُحِبّ المُسْتَكْبِرينَ يقول : إن الله لا يحبّ المستكبرين عليه أن يوحدوه ويخلعوا ما دونه من الاَلهة والأنداد . كما :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، قال : حدثنا مِسْعر ، عن رجل : أن الحسن بن عليّ كان يجلس إلى المساكين ، ثم يقول : إنّهُ لا يُحِبّ المُسْتَكْبِرينَ .
وقوله { لا جرم } عبرت فرقة من النحويين عن معناها بلا بد ولا محالة ، وقالت فرقة : معناها حق أن الله ، ومذهب سيبويه أن { لا } ، نفي لما تقدم من الكلام ، و { جرم } معناه حق ووجب ، ونحو هذا ، هذا هو مذهب الزجاج ، ولكن مع مذهبهما { لا } مُلازمةٌ ل { جرم } لا تنفك هذه من هذه ، وفي { جرم } لغات قد تقدم ذكرها في سورة هود{[7272]} ، وأنشد أبو عبيدة : / جرمت فزارة{[7273]} / وقال معناها حقت عليهم وأوجبت أن يغضبوا ، و { أن } على مذهب سيبويه فاعلة ب { جرم } ، وقرأ الجمهور «أن » ، وقرأ عيسى الثقفي «إن » بكسر الألف على القطع ، قال يحيى بن سلام والنقاش : المراد هنا بما يسرون مشاورتهم في دار الندوة في قتل النبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله { إنه لا يحب المستكبرين } عام في الكافرين والمؤمنين ، فأخذ كل واحد منهم بقسطه ، وفي الحديث «لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من كبر »{[7274]} ، وفيه «أن الكبر منع الحق وغمط الناس » ويروى عن الحسن بن علي أنه كان يجلس مع المساكين ويحدثهم ، ثم يقول { إنه لا يحب المستكبرين } . ويروى في الحديث «أنه من سجد لله سجدة من المؤمنين فقد برىء من الكبر »{[7275]} .