{ هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } أى : هذا الذى قلته لى ، يجعلنا نفترق ، لأنك قد قلت لى قبل ذلك : { إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي } وها أنت تسألنى وتحرضنى على أخذ الأجر .
ومع ذلك فانتظر : سأنبئك ، قبل مفارقتى لك { بتأويل } أى : بتفسير وبيان ما خفى عليك من الأمور الثلاثة التى لم تستطع عليها صبرا ، لأنك لم يكن عندك ما عندى من العلم بأسرارها الباطنة التى أطعلنى الله - تعالى - عليها .
وكانت هي الفاصلة . فلم يعد لموسى من عذر ، ولم يعد للصحبة بينه وبين الرجل مجال :
( قال : هذا فراق بيني وبينك . سأنبئك بتأويل ما لم تستطيع عليه صبرا ) .
وإلى هنا كان موسى - ونحن الذين نتابع سياق القرآن - أمام مفاجآت متوالية لا نعلم لها سرا . وموقفنا منها كموقف موسى . بل نحن لا نعرف من هو هذا الذي يتصرف تلك التصرفات العجيبة ، فلم ينبئنا القرآن باسمه ، تكملة للجو الغامض الذي يحيط بنا . وما قيمة اسمه ? إنما يراد به أن يمثل الحكمة الإلهية العليا ، التي لا ترتب النتائج القريبة على المقدمات المنظورة ، بل تهدف إلى أغراض بعيدة لا تراها العين المحدودة . فعدم ذكر اسمه يتفق مع الشخصية المعنوية التي يمثلها . وإن القوى الغيبية لتتحكم في القصة منذ نشأتها . فها هو ذا موسى يريد أن يلقى هذا الرجل الموعود . فيمضي في طريقه ؛ ولكن فتاه ينسى غداءهما عند الصخرة ، وكأنما نسيه ليعودا . فيجد هذا الرجل هناك . وكان لقاؤه يفوتهما لو سارا في وجهتهما ، ولو لم تردهما الأقدار إلى الصخرة كرة أخرى . . كل الجو غامض مجهول ، وكذلك اسم الرجل الغامض المجهول في سياق القرآن .
{ قال هذا فراق بيني وبينك } الإشارة إلى الفراق الموعود بقوله { فلا تصاحبني } أو إلى الاعتراض الثالث ، أو الوقت أي هذا الاعتراض سبب فراقنا أو هذا الوقت وقته ، وإضافة الفراق إلى البين إضافة المصدر إلى الظرف على الاتساع ، وقد قرئ على الأصل . { سأنبئّك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا } بالخبر الباطن فيما لم تستطع الصبر عليه لكونه منكرا من حيث الظاهر .
المشار إليه بلفظ { هذا } مقدر في الذهن حاصل من اشتراط موسى على نفسه أنه إن سأله عن شيء بعد سؤاله الثاني فقد انقطعت الصحبة بينهما ، أي هذا الذي حصل الآن هو فراق بيننا ، كما يقال : الشرطُ أمْلَك عليك أمْ لك . وكثيراً ما يكون المشار إليه مقدراً في الذهن كقوله تعالى : { تلك الدار الآخرة } [ القصص : 83 ] . وإضافة { فراق } إلى { بيتي } من إضافة الموصوف إلى الصفة . وأصله : فراقٌ بيني ، أي حاصل بيننا ، أو من إضافة المصدر العامل في الظرف إلى معموله ، كما يضاف المصدر إلى مفعوله . وقد تقدم خروج ( بين ) عن الظرفية عند قوله تعالى : { فلما بلغا مجمع بينِهما } [ الكهف : 61 ] .
وجملة { سأُنْبِئُك } مستأنفة استئنافاً بيانياً ، تقع جواباً لسؤال يهجس في خاطر موسى عليه السلام عن أسباب الأفعال التي فعلها الخضر عليه السلام وسأله عنها موسى فإنه قد وعده أن يُحدث له ذكراً مما يفعله .
والتأويل : تفسير لشيء غير واضح ، وهو مشتق من الأول وهو الرجوع . شبه تحصيل المعنى على تكلف بالرجوع إلى المكان بعد السير إليه . وقد مضى في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير ، وأيضاً عند قوله تعالى : { وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم يقولون } الخ . . من أول سورة آل عمران ( 7 ) .
وفي صلة الموصول من قوله { مَا لَمْ تَسْتطِع عليه صَبْراً } تعريض باللوم على الاستعجال وعدم الصبر إلى أن يأتيه إحداث الذكر حسبما وعده بقوله { فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال} الخضر: {هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل}، يعني: بعاقبة،
{ما لم تستطع عليه صبرا}، كقوله سبحانه: {يوم يأتي تأويله} [الأعراف:53]، يعني: عاقبته.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال صاحب موسى لموسى: هذا الذي قلته وهو قوله "لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ "يقول: فرقة ما بيني وبينك: أي مفرق بيني وبينك.
"سَأُنَبِّئُكَ" يقول: سأخبرك "بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا" يقول: بما يؤول إليه عاقبة أفعالي التي فعلتها، فلم تستطع على تَرك المسألة عنها، وعن النكير علي فيها صبرا، والله أعلم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{قَالَ هَذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} فيه وجهان:
أحدهما: هذا الذي قلتَه فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ.
الثاني: هذا الوقتُ فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ...
{سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} يَحتمِل وجهين:
أحدهما: لم تَستطِعْ على المشاهَدة له صَبْراً.
الثاني: لم تَستطِعْ على الإِمساك عن السؤال عنه صَبْراً...
فرَوى ابنُ عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى لَو صَبَرَ لَاقْتَبَسَ مِنْهُ أَلْفَ بَابٍ"...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: {هذا} إشارة إلى ماذا؟ قلت: قد تصوّر فراق بينهما عند حلول ميعاده على ما قال موسى عليه السلام:"إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني"، فأشار إليه وجعله مبتدأ وأخبر عنه، كما تقول: هذا أخوك، فلا يكون «هذا» إشارة إلى غير الأخ، ويجوز أن يكون إشارة إلى السؤال الثالث، أي: هذا الاعتراض سبب الفراق...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم قال الخضر لموسى بحسَب شَرْطِهما {هذا فِراقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ} واشتَرَط الخضرُ، وأعطاه موسى أن لا يقع سؤالٌ عن شيءٍ، والسؤال أقَلُّ وجوهِ الاعتراضات، فالإنكار والتّخْطئة أعظمُ منه، وقولُه {لو شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عليه أَجْراً} وإن لم يكن سؤالاً ففي ضِمْنِه الإنكارُ لِفِعْله، والقولُ بتصويب أخْذ الأجر، وفي ذلك تخطئةُ ترْكِ الأجر، والبَيْن: الصّلاحُ الذي يكون بين المصطحبين ونحوهما، وذلك مستعار فيه من الظرفية وأما فَصْلُه، وتكريرُه {بَيْنِي وبَيْنِكَ} وعُدولُه عن "بَيْنِنَا"، فلِمعنى التأكيدِ...
والسينُ في قوله {سَأُنَبِّئُكَ} مُفَرِّقةٌ بين المُحاوَرَتَيْن والصُّحْبتيْن، ومُؤْذِنةٌ بأن الأولى قد انقَطَعتْ، ثم أخبره في مَجلِسه ذلك وفي مَقامِه {بِتأويلِ} تلك القِصَصِ والتأويلُ هنا: المَآلُ...
أي سأخبرك بحكمة هذه المسائل الثلاثة، وأصل التأويل راجع إلى قولهم آل الأمر إلى كذا أي صار إليه، فإذا قيل: ما تأويله فالمعنى: ما مصيره...
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
والبَيْنُ هنا ليس بظرفٍ وإنما معناه: الوُصْلَةُ والقُرْبُ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان من المعلوم شدة استشراف موسى عليه السلام إلى الوقوف في باطن هذه الأمور، قال مجيباً له عن هذا السؤال: {سأنبئك} يا موسى بوعد لا خلف فيه إنباء عظيماً {بتأويل} أي بترجيع {ما لم تستطع عليه صبراً} لمخالفته عندك الحكمة إلى الحكمة وهو أن عند تعارض الضررين يجب ارتكاب الأدنى لدفع الأقوى بشرط التحقق، وأثبت تاء الاستفعال هنا وفيما قبله إعلاماً بأنه ما نفى إلا القدرة البليغة على الصبر، إشارة إلى صعوبة ما حمل موسى من ذلك، لا مطلق القدرة على الصبر...
السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :
لأن هذه المسائل الثلاثة مشترِكةٌ في شيء واحد وهو أن أحكام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مبنيّةٌ على الظواهر كما قال صلى الله عليه وسلم: «نحن نَحْكُمُ بالظَّواهر واللّهُ يَتَوَلَّى السَّرائرَ» والخضر ما كانت أمورُه وأحكامُه مبنيّةً على ظواهر الأمور بل كانت مبنيّةً على الأسباب الخفيّة الواقعةِ في نفس الأمر، وذلك لأن الظاهر في أموال الناس وفي أرواحهم أنه يَحْرُمُ التصرّفُ فيها، والخضرُ تَصَرَّفَ في أموال الناس وفي أرواحهم في المسألة الأولى وفي الثانية من غير سببٍ ظاهرٍ يُبيح ذلك التصرّفَ لأن الإقدامَ على خَرْق السفينة وقتْلِ الإنسان من غير سببٍ ظاهرٍ يبيح ذلك التصرّفَ مُحرَّمٌ، والإقدامَ على إقامة ذلك الجدار المائل في المسألة الثالثة تحمُّلٌ للتعب والمَشقّة من غير سببٍ ظاهرٍ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وكانت هي الفاصلة. فلم يعد لموسى من عذر، ولم يعد للصحبة بينه وبين الرجل مجال: (قال: هذا فراق بيني وبينك. سأنبئك بتأويل ما لم تستطيع عليه صبرا). وإلى هنا كان موسى -ونحن الذين نتابع سياق القرآن- أمام مفاجآت متوالية لا نعلم لها سرا. وموقفنا منها كموقف موسى. بل نحن لا نعرف من هو هذا الذي يتصرف تلك التصرفات العجيبة، فلم ينبئنا القرآن باسمه، تكملة للجو الغامض الذي يحيط بنا. وما قيمة اسمه؟ إنما يراد به أن يمثل الحكمة الإلهية العليا، التي لا ترتب النتائج القريبة على المقدمات المنظورة، بل تهدف إلى أغراض بعيدة لا تراها العين المحدودة. فعدم ذكر اسمه يتفق مع الشخصية المعنوية التي يمثلها. وإن القوى الغيبية لتتحكم في القصة منذ نشأتها. فها هو ذا موسى يريد أن يلقى هذا الرجل الموعود. فيمضي في طريقه؛ ولكن فتاه ينسى غداءهما عند الصخرة، وكأنما نسيه ليعودا. فيجد هذا الرجل هناك. وكان لقاؤه يفوتهما لو سارا في وجهتهما، ولو لم تردهما الأقدار إلى الصخرة كرة أخرى.. كل الجو غامض مجهول، وكذلك اسم الرجل الغامض المجهول في سياق القرآن.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
المشار إليه بلفظ {هذا} مقدر في الذهن حاصل من اشتراط موسى على نفسه أنه إن سأله عن شيء بعد سؤاله الثاني فقد انقطعت الصحبة بينهما، أي هذا الذي حصل الآن هو فراق بيننا، كما يقال: الشرطُ أمْلَك عليك أمْ لك. وكثيراً ما يكون المشار إليه مقدراً في الذهن كقوله تعالى: {تلك الدار الآخرة} [القصص: 83]. وإضافة {فراق} إلى {بيتي} من إضافة الموصوف إلى الصفة. وأصله: فراقٌ بيني، أي حاصل بيننا، أو من إضافة المصدر العامل في الظرف إلى معموله، كما يضاف المصدر إلى مفعوله. وقد تقدم خروج (بين) عن الظرفية عند قوله تعالى: {فلما بلغا مجمع بينِهما} [الكهف: 61].
وجملة {سأُنْبِئُك} مستأنفة استئنافاً بيانياً، تقع جواباً لسؤال يهجس في خاطر موسى عليه السلام عن أسباب الأفعال التي فعلها الخضر عليه السلام وسأله عنها موسى فإنه قد وعده أن يُحدث له ذكراً مما يفعله.
والتأويل: تفسير لشيء غير واضح، وهو مشتق من الأول وهو الرجوع. شبه تحصيل المعنى على تكلف بالرجوع إلى المكان بعد السير إليه. وقد مضى في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير، وأيضاً عند قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلاّ الله والراسخون في العلم يقولون} الخ.. من أول سورة آل عمران (7).
وفي صلة الموصول من قوله {مَا لَمْ تَسْتطِع عليه صَبْراً} تعريض باللوم على الاستعجال وعدم الصبر إلى أن يأتيه إحداث الذكر حسبما وعده بقوله {فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً}.
... وقالوا: إن هذا مِن أدب الصُّحْبة، فلا يجوز بعد المصاحبة أن نفترِق على الخلاف، ينبغي أن نفترق على وِفاقٍ ورضا؛ لأن الافتراق على الخلاف يُنمي الفَجْوةَ ويدعو للقطيعة، إذن: فقَبْلَ أن نفترق: المسألة كيت وكيت، فتتّضح الأمورُ وتصْفو النفوسُ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ونفد صبر العبد الصالح، ولم يستطع موسى (عليه السلام) أن يقدم اعتذاره ويطلب الاستمرار معه، لأنه قد أخذ على نفسه عهداً جديداً بعدم مصاحبة العبد الصالح إذا عاد إلى سيرته الأولى في الاعتراض عليه... {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} لتعرف جيداً أن كثيراً من الأمور الظاهرة بشكلٍ معيَّنٍ، قد يكون لها شكلٌ آخر ومعنى آخر، يمكن أن يُغَيِّر الانطباع عنها بطريقةٍ حاسمةٍ.