82- وأما الجدار الذي أقمته - دون أجر - فكان لغلامين يتيمين من أهل المدينة ، وكان تحته كنز تركه أبوهما لهما ، وكان رجلا صالحاً ، فأراد الله أن يحفظ لهما الكنز حتى يبلغا رشدهما ، ويستخرجاه ، رحمة بهما ، وتكريماً لأبيهما في ذريته . وما فعلت ما فعلت باجتهادي ، إنما فعلته بتوجيه من الله ، هذا تفسير ما خفي عليك يا موسى ولم تستطع الصبر عليه .
{ وَأَمَّا الْجِدَارُ ْ } الذي أقمته { فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ْ } أي : حالهما تقتضي الرأفة بهما ورحمتهما ، لكونهما صغيرين عدما أباهما ، وحفظهما الله أيضا بصلاح والدهما .
{ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا ْ } أي : فلهذا هدمت الجدار ، واستخرجت ما تحته من كنزهما ، وأعدته مجانا .
{ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ْ } أي : هذا الذي فعلته رحمة من الله ، آتاها الله عبده الخضر { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ْ } أي : أتيت{[495]} شيئا من قبل نفسي ، ومجرد إرادتي ، وإنما ذلك من رحمة الله وأمره .
{ ذَلِكَ ْ } الذي فسرته لك { تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ْ } وفي هذه القصة العجيبة الجليلة ، من الفوائد والأحكام والقواعد شيء كثير ، ننبه على بعضه بعون الله . فمنها فضيلة العلم ، والرحلة في طلبه ، وأنه أهم الأمور ، فإن موسى عليه السلام رحل مسافة طويلة ، ولقي النصب في طلبه ، وترك القعود عند بني إسرائيل ، لتعليمهم وإرشادهم ، واختار السفر لزيادة العلم على ذلك .
ومنها : البداءة بالأهم فالأهم ، فإن زيادة العلم وعلم الإنسان أهم من ترك ذلك ، والاشتغال بالتعليم من دون تزود من العلم ، والجمع بين الأمرين أكمل .
ومنها : جواز أخذ الخادم في الحضر والسفر لكفاية المؤن ، وطلب الراحة ، كما فعل موسى .
ومنها : أن المسافر لطلب علم أو جهاد أو نحوه ، إذا اقتضت المصلحة الإخبار بمطلبه ، وأين يريده ، فإنه أكمل من كتمه ، فإن في إظهاره فوائد من الاستعداد له عدته ، وإتيان الأمر على بصيرة ، وإظهارًا لشرف هذه العبادة الجليلة ، كما قال موسى : { لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ْ }
وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه حين غزا تبوك بوجهه ، مع أن عادته التورية ، وذلك تبع للمصلحة .
ومنها : إضافة الشر وأسبابه إلى الشيطان ، على وجه التسويل والتزيين ، وإن كان الكل بقضاء الله وقدره ، لقول فتى موسى : { وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ْ }
ومنها : جواز إخبار الإنسان عما هو من مقتضى طبيعة النفس ، من نصب أو جوع ، أو عطش ، إذا لم يكن على وجه التسخط وكان صدقا ، لقول موسى : { لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ْ }
ومنها : استحباب كون خادم الإنسان ، ذكيا فطنا كيسا ، ليتم له أمره الذي يريده .
ومنها : استحباب إطعام الإنسان خادمه من مأكله ، وأكلهما جميعا ، لأن ظاهر قوله : { آتِنَا غَدَاءَنَا ْ } إضافة إلى الجميع ، أنه أكل هو وهو جميعا .
ومنها : أن المعونة تنزل على العبد على حسب قيامه بالمأمور به ، وأن الموافق لأمر الله ، يعان ما لا يعان غيره لقوله : { لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ْ } والإشارة إلى السفر المجاوز ، لمجمع البحرين ، وأما الأول ، فلم يشتك منه التعب ، مع طوله ، لأنه هو السفرعلى الحقيقة . وأما الأخير ، فالظاهر أنه بعض يوم ، لأنهم فقدوا الحوت حين أووا إلى الصخرة ، فالظاهر أنهم باتوا عندها ، ثم ساروا من الغد ، حتى إذا جاء وقت الغداء قال موسى لفتاه { آتِنَا غَدَاءَنَا ْ } فحينئذ تذكر أنه نسيه في الموضع الذي إليه منتهى قصده .
ومنها : أن ذلك العبد الذي لقياه ، ليس نبيا ، بل عبدا صالحا ، لأنه وصفه بالعبودية ، وذكر منة الله عليه بالرحمة والعلم ، ولم يذكر رسالته ولا نبوته ، ولو كان نبيا ، لذكر ذلك كما ذكره غيره .
وأما قوله في آخر القصة : { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ْ } فإنه لا يدل على أنه نبي وإنما يدل على الإلهام والتحديث ، كما يكون لغير الأنبياء ، كما قال تعالى { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ْ } { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ْ }
ومنها : أن العلم الذي يعلمه الله [ لعباده ]{[496]} نوعان :
علم مكتسب يدركه العبد بجده واجتهاده . ونوع علم لدني ، يهبه الله لمن يمن عليه من عباده لقوله { وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ْ }
ومنها : التأدب مع المعلم ، وخطاب المتعلم إياه ألطف خطاب ، لقول موسى عليه السلام :
{ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ْ } فأخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة ، وأنك هل تأذن لي في ذلك أم لا ، وإقراره بأنه يتعلم منه ، بخلاف ما عليه أهل الجفاء أو الكبر ، الذي لا يظهر للمعلم افتقارهم إلى علمه ، بل يدعي أنه يتعاون هم وإياه ، بل ربما ظن أنه يعلم معلمه ، وهو جاهل جدا ، فالذل للمعلم ، وإظهار الحاجة إلى تعليمه ، من أنفع شيء للمتعلم .
ومنها تواضع الفاضل للتعلم ممن دونه ، فإن موسى -بلا شك- أفضل من الخضر .
ومنها : تعلم العالم الفاضل للعلم الذي لم يتمهر فيه ، ممن مهر فيه ، وإن كان دونه في العلم بدرجات كثيرة .
فإن موسى عليه السلام من أولي العزم من المرسلين ، الذين منحهم الله وأعطاهم من العلم ما لم يعط سواهم ، ولكن في هذا العلم الخاص كان عند الخضر ، ما ليس عنده ، فلهذا حرص على التعلم منه .
فعلى هذا ، لا ينبغي للفقيه المحدث ، إذا كان قاصرا في علم النحو ، أو الصرف ، أو نحوه من العلوم ، أن لا يتعلمه ممن مهر فيه ، وإن لم يكن محدثا ولا فقيها .
ومنها : إضافة العلم وغيره من الفضائل لله تعالى ، والإقرار بذلك ، وشكر الله عليها لقوله : { تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ ْ } أي : مما علمك الله تعالى .
ومنها : أن العلم النافع ، هو العلم المرشد إلى الخير ، فكل علم يكون فيه رشد وهداية لطرق{[497]} الخير ، وتحذير عن طريق الشر ، أو وسيلة لذلك ، فإنه من العلم النافع ، وما سوى ذلك ، فإما أن يكون ضارا ، أو ليس فيه فائدة لقوله : { أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ْ }
ومنها : أن من ليس له قوة الصبر على صحبة العالم والعلم ، وحسن الثبات على ذلك ، أنه يفوته بحسب عدم صبره كثير من العلم{[498]} فمن لا صبر له لا يدرك العلم ، ومن استعمل الصبر ولازمه ، أدرك به كل أمر سعى فيه ، لقول الخضر -يعتذر من موسى بذكر المانع لموسى في الأخذ عنه- إنه لا يصبر معه .
ومنها : أن السبب الكبير لحصول الصبر ، إحاطة الإنسان علما وخبرة ، بذلك الأمر ، الذي أمر بالصبر عليه ، وإلا فالذي لا يدريه ، أو لا يدري غايته ولا نتيجته ، ولا فائدته وثمرته ليس عنده سبب الصبر لقوله : { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ْ } فجعل الموجب لعدم صبره ، وعدم إحاطته خبرا بالأمر .
ومنها : الأمر بالتأني والتثبت ، وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء ، حتى يعرف ما يراد منه وما هو المقصود .
ومنها : تعليق الأمور المستقبلية التي من أفعال العباد بالمشيئة ، وأن لا يقول الإنسان للشيء : إني فاعل ذلك في المستقبل ، إلا أن يقول { إِنْ شَاءَ اللَّهُ ْ }
ومنها : أن العزم على فعل الشيء ، ليس بمنزلة فعله ، فإن موسى قال : { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا ْ } فوطن نفسه على الصبر ولم يفعل .
ومنها : أن المعلم إذا رأى المصلحة في إيزاعه للمتعلم أن يترك الابتداء في السؤال عن بعض الأشياء ، حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها ، فإن المصلحة تتبع ، كما إذا كان فهمه قاصرا ، أو نهاه عن الدقيق في سؤال الأشياء التي غيرها أهم منها ، أو لا يدركها ذهنه ، أو يسأل سؤالا ، لا يتعلق في موضع البحث .
ومنها : جواز ركوب البحر ، في غير الحالة التي يخاف منها .
ومنها : أن الناسي غير مؤاخذ بنسيانه لا في حق الله ، ولا في حقوق العباد لقوله : { لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ْ }
ومنها : أنه ينبغي للإنسان أن يأخذ من أخلاق الناس ومعاملاتهم ، العفو منها ، وما سمحت به أنفسهم ، ولا ينبغي له أن يكلفهم ما لا يطيقون ، أو يشق عليهم ويرهقهم ، فإن هذا مدعاة إلى النفور منه والسآمة ، بل يأخذ المتيسر ليتيسر له الأمر .
ومنها : أن الأمور تجري أحكامها على ظاهرها ، وتعلق بها الأحكام الدنيوية ، في الأموال ، والدماء وغيرها ، فإن موسى عليه السلام ، أنكر على الخضر خرقه السفينة ، وقتل الغلام ، وأن هذه الأمور ظاهرها ، أنها من المنكر ، وموسى عليه السلام لا يسعه السكوت عنها ، في غير هذه الحال ، التي صحب عليها الخضر ، فاستعجل عليه السلام ، وبادر إلى الحكم في حالتها العامة ، ولم يلتفت إلى هذا العارض ، الذي يوجب عليه الصبر ، وعدم المبادرة إلى الإنكار .
ومنها : القاعدة الكبيرة الجليلة وهو أنه " يدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الصغير " ويراعي أكبر المصلحتين ، بتفويت أدناهما ، فإن قتل الغلام شر ، ولكن بقاءه حتى يفتن أبويه عن دينهما ، أعظم شرا منه ، وبقاء الغلام من دون قتل وعصمته ، وإن كان يظن أنه خير ، فالخير ببقاء دين أبويه ، وإيمانهما خير من ذلك ، فلذلك قتله الخضر ، وتحت هذه القاعدة من الفروع والفوائد ، ما لا يدخل تحت الحصر ، فتزاحم المصالح والمفاسد كلها ، داخل في هذا .
ومنها : القاعدة الكبيرة أيضا وهي أن " عمل الإنسان في مال غيره ، إذا كان على وجه المصلحة وإزالة المفسدة ، أنه يجوز ، ولو بلا إذن حتى ولو ترتب على عمله إتلاف بعض مال الغير " كما خرق الخضر السفينة لتعيب ، فتسلم من غصب الملك الظالم . فعلى هذا لو وقع حرق ، أو غرق ، أو نحوهما ، في دار إنسان أو ماله ، وكان إتلاف بعض المال ، أو هدم بعض الدار ، فيه سلامة للباقي ، جاز للإنسان بل شرع له ذلك ، حفظا لمال الغير ، وكذلك لو أراد ظالم أخذ مال الغير ، ودفع إليه إنسان بعض المال افتداء للباقي جاز ، ولو من غير إذن .
ومنها : أن العمل يجوز في البحر ، كما يجوز في البر لقوله : { يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ْ } ولم ينكر عليهم عملهم .
ومنها : أن المسكين قد يكون له مال لا يبلغ كفايته ، ولا يخرج بذلك عن اسم المسكنة ، لأن الله أخبر أن هؤلاء المساكين ، لهم سفينة .
ومنها : أن القتل من أكبر الذنوب لقوله في قتل الغلام { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ْ }
ومنها : أن القتل قصاصا غير منكر لقوله { بِغَيْرِ نَفْسٍ ْ }
ومنها : أن العبد الصالح يحفظه الله في نفسه ، وفي ذريته .
ومنها : أن خدمة الصالحين ، أو من يتعلق بهم ، أفضل من غيرها ، لأنه علل استخراج كنزهما ، وإقامة جدارهما ، أن أباهما صالح .
ومنها : استعمال الأدب مع الله تعالى في الألفاظ ، فإن الخضر أضاف عيب السفينة إلى نفسه بقوله { فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ْ } وأما الخير ، فأضافه إلى الله تعالى لقوله : { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ْ } كما قال إبراهيم عليه السلام { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ْ } وقالت الجن : { وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ْ } مع أن الكل بقضاء الله وقدره .
ومنها : أنه ينبغي للصاحب أن لا يفارق صاحبه في حالة من الأحوال ، ويترك صحبته ، حتى يعتبه ، ويعذر منه ، كما فعل الخضر مع موسى .
ومنها : أن موافقة الصاحب لصاحبه ، في غير الأمور المحذورة ، مدعاة وسبب لبقاء الصحبة وتأكدها ، كما أن عدم الموافقة سبب لقطع المرافقة .
ومنها : أن هذه القضايا التي أجراها الخضر هي قدر محض أجراها الله وجعلها على يد هذا العبد الصالح ، ليستدل العباد بذلك على ألطافه في أقضيته ، وأنه يقدر على العبد أمورا يكرهها جدا ، وهي صلاح دينه ، كما في قضية الغلام ، أو وهي صلاح دنياه كما في قضية السفينة ، فأراهم نموذجا من لطفه وكرمه ، ليعرفوا ويرضوا غاية الرضا بأقداره المكروهة .
ثم ختم - سبحانه - القصة ، ببيان ما قاله الخضر لموسى فى تأويل الحادثة الثالثة فقال - تعالى - : { وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً }
أى : { وأما الجدار } الذى أتعبت نفسى فى إقامته ، ولم يعجبك هذا منى .
{ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ } مات أبوهما وهما صغيران ، وهذان الغلامان يسكنان فى تلك المدينة ، التى عبر عنها القرآن بالقرية سابقا فى قوله : { فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ } قالوا : ولعل التعبير عنها بالمدينة هنا ، لإِظهار نوع اعتداد بها ، باعتداد ما فيها من اليتيمين ، وما هو من أهلها وهو أبوهما الصالح ، .
وكان تحته أى تحت هذا الجدار : { كنز لهما } أى : مال مدفون من ذهب وفضة . . ولعل أباهما هو الذى دفنه لهما .
{ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً } أى : رجلا من أصحاب الصلاح والتقوى ، فكان ذلك منه سببا فى رعاية ولديه ، وحفظ مالهما .
{ فأراد ربك } ومالك أمرك ؛ ومدبر شئونك ، والذى يجب عليك أن تستسلم وتنقاد لإِرادته .
{ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا } أى : كمال رشدهما ، وتمام نموهما وقوتهما .
ويستخرجا كنزهما من تحت هذا الجدار وهما قادران على حمايته ، ولولا أنى أقمته لانقض وخرج الكنز من تحته قبل اقتدارهما على حفظه وعلى حسن التصرف فيه .
{ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } أى : وما أراده ربك - يا موسى - بهذين الغلامين ، هو الرحمة التى ليس بعدها رحمة ، والحكمة التى ليس بعدها حكمة .
ثم ينفض الخضر يده من أن يكون قد تصرف بغير أمر ربه فيقول : { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } .
أى : وما فعلت ما فعلته عن اجتهاد منى ، أو عن رأيى الشخصى ، وإنما فعلت ما فعلت بأمر ربى ومالك أمرى ، وذلك الذى ذكرته لك من تأويل تلك الأحداث هو الذى لم تستطع عليه صبرا ، ولم تطق السكوت عليه ، لأنك لم يطلعك الله - تعالى - على خفايا تلك الأمور وبواطنها . . كما أطلعنى .
وحذفت التاء من { تسطع } تخفيفا . يقال : استطاع فلان هذا الشئ واستطاعه بمعنى أطاقه وقدر عليه .
وبذلك انكشف المستور لموسى عليه السلام - وظهر ما كان خافيا عليه .
هذا ، وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لآيات تلك القصة جملة من الأحاديث ، منها ما رواه الشيخان ، ومنها ما رواه غيرهما ، ونكتفى هنا بذكر حديث واحد .
قال - رحمه الله - قال البخارى : حدثنا الحميدى ، حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو بن دينار ، أخبرنى سعيد بن جبير قال . قلت لابن عباس : إن نوفا البكالى يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى نبى بنى إسرائيل .
قال ابن عباس : كذب عدو الله ، حدثنا أبى بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن موسى قام خطيبا فى بنى إسرائيل ، فسئل أى الناس أعلم ؟ فقال : أنا . فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه . فأوحى الله إليه : إن عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك . فقال موسى : يا رب ، وكيف لى به ؟
قال : تأخذ معك حوتا ، تجعله بمكتل ، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم " .
فأخذ حوتا ، فجعله فى مكتل ، ثم انطلق وانطلق معه بفتاه يوشع بن نون . حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما ، واضطرب الحوت فى المكتل ، فخرج منه فسقط فى البحر ، واتخذ سبيله فى البحر سربا ، وأمسك الله عن الحوت جِرْبَةَ الماء ، فصار عليه مثل الطاق .
فلما استيقظ نسى صاحبه أن يخبره بالحوت .
فانطلقا بقية يومهما وليلتهما ، فلما كان الغد قال موسى لفتاه : { آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً } ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذى أمره الله به .
قال له فتاه : { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً } قال : فكان للحوت سربا ولموسى وفتاه عجبا .
فقال موسى : { قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً } قال : فرجعا يقصان أثرهما ، حتى انتهيا إلى الصخرة ، فإذا رجل مسجى - أى مغطى - بثوب ، - فسلم عليه موسى ، فقال الخضر : وأنى بأرضك السلام .
قال : أنا موسى : قال : موسى نبى إسرائيل قال : نعم ، أتيتك لتعلمنى مما علمت رشدا ، قال : إنك لن تستطيع معى صبرا .
يا موسى : إنى على علم من علم الله علمنيه ، لا تعلمه أنت ، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه .
قال موسى : ستجدنى إن شاء الله صابرا ولا أعصى لك أمرا . قال الخضر فإن اتبعتنى فلا تسألنى عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا .
فانطلقا يمشيان ، فمرت سفينة فكلمهم أن يحملوه ، فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول - أى بغير أجر - فلما ركبا فى السفينة ، لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم .
فقال له موسى : قد حملونا بغير نول ، فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها ، لتغرق أهلها ، لقد جئت شيئاً إمرا .
قال له الخضر : ألم أقل إنك لن تستطيع معى صبرا . قال : لا تؤاخدنى بما نسيت ولا ترهقنى من أمرى عسرا .
قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، " كانت الأولى من موسى نسيانا " ، قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة . فنقر فى البحر نقرة . فقال له الخضر : ما علمى وعلمك فى علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من البحر .
ثم خرجا من السفينة ، فبينما هما يمشيان على الساحل ، إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان ، فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه بيده فقتله - فقال له موسى : { أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً } قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معى صبرا .
وقال : وهذ أشد من الأولى . قال : { قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي }
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وددنا أن موسى كان قد صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما " .
وقد أخذ العلماء من هذه القصة أحكاما وآدابا من أهمها ما يأتى :
1- أن الإِنسان مهما أوتى من العلم ، فعليه أن يطلب المزيد ، وأن لا يعجب بعلمه ، فالله - تعالى - يقول : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً } وطلب من نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتضرع إليه بطلب الزيادة من العلم فقال : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } 2- أن الرحلة فى طلب العلم من صفات العقلاء . فموسى - عليه السلام - وهو من أولى العزم من الرسل ، تجشم المشاق والمتاعب لكى يلتقى بالرجل الصالح ؛ لينتفع بعلمه ، وصمم على ذلك مهما كانت العقبات بدليل قوله - تعالى - حكاية عنه : { لا أَبْرَحُ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً } قال القرطبى عند تفسيره لهذه الآية : فى هذا من الفقه رحلة العالم فى طلب الازدياد من العلم ، والاستعانة على ذلك بالخادم والصاحب واغتنام لقاء الفضلاء والعلماء وإن بعدت أقطارهم . وذلك كان دأب السلف الصالح ، وبسبب ذلك وصل المرتحلون لطلب العلم إلى الحظ الراجح : وحصلوا على السعى الناجح ، فرسخت لهم فى العلوم أقدام . وصح لهم من الذكر والأجر والفضل أفضل الأقسام .
قال البخارى : ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس فى طلب حديث .
3- جواز إخبار الإِنسان عما هو من مقتضى الطبيعة البشرية ، كالجوع والعطش والتعب والنسيان فقد قال موسى لفتاه : { آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً } ورد عليه فتاه بقوله : { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ . . } وفى هذا الرد - أيضا - من الأدب ما فيه ، فقد نسب سبب النسيان إلى الشيطان ، وإن كان الكل بقضاء الله - تعالى - وقدره .
4- أن العلم على قسمين : علم مكتسب يدركه الإِنسان باجتهاده وتحصيله . . بعد عون الله تعالى - له . وعلم لدنى يهبه الله - سبحانه - لمن يشاء من عباده فقد قال - تعالى - فى شأن الخضر { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } أى : علما خاصا أطلعه الله عليه يشمل بعض الأمور الغيبية .
5- أن على المتعلم أن يخفض جناحه للمعلم ، وأن يخاطبه بأرق العبارات وألطفها ، حتى يحصل على ما عنده من علم بسرور وارتياح .
قال بعض العلماء ما ملخصه : وتأمل ما حكاه الله عن موسى فى قوله للخضر : { هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً }
فقد أخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة ، فكأنه يقول له : هل تأذن لى فى ذلك أو لا ، مع إقراره بأنه يتعلم منه ، بخلاف ما عليه أهل الجفاء أو الكبر ، الذى لا يظهر للمعلم افتقاره إلى علمه . . .
6- أنه لا بأس على العالم ، إذا اعتذر للمتعلم عن تعليمه ، لأن المتعلم لا يطيق ذلك ، لجهله بالأسباب التى حملت العالم على فعل تلك الأمور التى ظاهرها يخالف الحق والعدل والمنطق العقلى ، وأن معرفة الأسباب تعين على الصبر .
فقد قال الخضر لموسى : { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } فقد جعل الموجب لعدم صبره عدم إحاطته خبرا بالأمر .
7- إن من علامات الإِيمان القوى ، أن يقدم الإِنسان المشيئة عند الإِقدام على الأعمال ، وأن العزم على فعل الشئ ليس بمنزلة فعله ، فقد قال موسى للخضر : { ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } ومع ذلك فعندما رأى منه أفعالا يخالف ظاهرها الحق والصلاح ، لم يصبر .
وأنه لا بأس على العالم أن يشترط على المتعلم أمورا معينة قبل أن يبدأ فى تعليمه .
فقد قال الخضر لموسى : { إِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } 8- أنه يجوز دفع الضرر الأكبر بارتكاب الضرر الأصغر ، فإن خرق السفينة فيه ضرر ولكنه أقل من أخذ الملك لها غصبا ، وإن قتل الغلام شر ، ولكنه أقل من الشر الذى سيترتب على بقائه . وهو إرهاقه لأبويه ، وحملهما على الكفر .
كما يجوز للإِنسان أن يعمل عملا فى ملك غيره بدون إذنه بشرط أن يكون هذا العمل فيه مصلحة لذلك الغير كأن يرى حريقا فى دار إنسان فيقدم على إطفائه بدون إذنه . ويدفع ضرر الحريق بضرر أقل منه ، فقد خرق الخضر السفينة ، لكى تبقى لأصحابها المساكين .
9- أن التأنى فى الأحكام . والتثبت من الأمور ، ومحاولة معرفة العلل والأسباب . . . كل ذلك يؤدى إلى صحة الحكم ، وإلى سلامة القول والعمل .
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول : " رحمة الله علينا وعلى موسى ، لو صبر على صاحبه لرأى العجب " .
10- أن من دأب العقلاء الصالحين . استعمال الأدب مع الله - تعالى - فى التعبير ، فالخضر قد أضاف خرقه للسفينة إلى نفسه فقال : { فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا . . } وأضاف الخير الذى فعله من أجل الغلامين اليتيمين إلى الله فقال : { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } وشبيه بهذا ما حكاه الله - تعالى - عن صالحى الجن فى قولهم : { وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } 11- قال القرطبى : قوله - تعالى - { يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } أى : قرب أن يسقط . وهذا مجاز وتوسع .
وقد فسره فى الحديث بقوله " مائل " فكان فيه دليل على وجود المجاز فى القرآن ، وهو مذهب الجمهور .
وجميع الأفعال التى حقها أن تكون للحى الناطق إذا أسندت إلى جماد أو بهيمة ، فإنما هى استعارة .
أى : لو كان مكانها إنسان لكان ممتثلا لذلك الفعل ، وهذا فى كلام العرب وأشعارهم كثير ، كقول الأعشى :
أتنهون ولا يَنْهَى ذوى شطَط . . . كالطّعن يذهب فيه الزيتُ والفُتُل
والشطط : الجور والظلم ، يقول : لا ينهى الظالم عن ظلمه إلا الطعن العميق الذى يغيب فيه الفتل - فأضاف النهى إلى الطعن .
وذهب قوم إلى منع المجاز فى القرآن فإن كلام الله عز وجل - وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حمله على الحقيقة أولى بذى الفضل والدين ، لأنه يقص الحق كما أخبر الله - تعالى - فى كتابه . . .
وقد صرح صاحب أضواء البيان أنه لا مجاز فى القرآن فقال ما ملخصه : قوله - تعالى - : { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ } هذه الآية من أكبر الأدلة التى يستدل بها القائلون : بأن المجاز فى القرآن ، زاعمين أن إرادة الجدار الانقضاض لا يمكن أن تكون حقيقة وإنما هى مجاز .
وقد دلت آيات من كتاب الله على أنه لا مانع من أن تكون إرادة الجدار حقيقة ، لأن الله - تعالى - يعلم للجمادات إرادات وأفعالا وأقوالا لا يدركها الخلق ، كما صرح - تعالى - بأنه يعلم من ذلك ما لا يعلمه خلقه فى قوله - سبحانه - { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ . . } فصرح بأننا لا نفقه تسبيحهم ، وتسبيحهم واقع عن إرادة لهم يعلمها - سبحانه - ونحن لا نعلمها .
ومن الأحاديث الدالة على ذلك ما ثبت فى صحيح مسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " إنى لأعرف حجرا كان يسلم على بمكة " وما ثبت فى صحيح البخارى من حنين الجذع الذى كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم حزنا لفراقه .
فتسليم ذلك الحجر ، وحنين ذلك الجزع ، كلاهما بإرادة وإدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه . . .
12- أن صلاح الأباء ينفع الأبناء . بدليل قوله - تعالى - : { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً } .
قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ فى ذريته وتشمل بركة عبادته ما ينفعهم فى الدنيا والآخرة ، بشفاعته فيهم ، ورفع درجتهم إلى أعلى درجة فى الجنة لتقر عينه بهم ، كما جاء فى القرآن ووردت السنة به .
قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : حفظا بصلاح أبيهما .
13- أن على الصاحب أن لا يفارق صاحبه حتى يتبين له الأسباب التى حملته على ذلك ، فأنت ترى أن الخضر قد قال لموسى : { هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } أى : قبل مفارقتى لك سأخبرك عن الأسباب التى حملتنى على فعل ما فعلت مما لم تستطع معه صبرا .
( وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة ، وكان تحته كنز لهما ، وكان أبوهما صالحا ، فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما ، رحمة من ربك وما فعلته عن أمري . . ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ) . .
فهذا الجدار الذي أتعب الرجل نفسه في إقامته ، ولم يطلب عليه أجرا من أهل القرية - وهما جائعان وأهل القرية لا يضيفونهما - كان يخبى ء تحته كنزا ، ويغيب وراءه مالا لغلامين يتيمين ضعيفين في المدينة . ولو ترك الجدار ينقض لظهر من تحته الكنز فلم يستطع الصغيران أن يدفعا عنه . . ولما كان أبوهما صالحا فقد نفعهما الله بصلاحه في طفولتهما وضعفهما ، فأراد أن يكبرا ويشتد عودهما ، ويستخرجا كنزهما وهما قادران على حمايته .
ثم ينفض الرجل يده من الأمر . فهي رحمة الله التي اقتضت هذا التصرف . وهو أمر الله لا أمره . فقد أطلعه على الغيب في هذه المسألة وفيما قبلها ، ووجهه إلى التصرف فيها وفق ما أطلعه عليه من غيبه ( رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ) . .
فالآن ينكشف الستر عن حكمة ذلك التصرف ، كما انكشف عن غيب الله الذي لا يطلع عليه أحدا إلا من ارتضى .
وفي دهشة السر المكشوف والستر المرفوع يختفي الرجل من السياق كما بدا . لقد مضى في المجهول كما خرج من المجهول . فالقصة تمثل الحكمة الكبرى . وهذه الحكمة لا تكشف عن نفسها إلا بمقدار . ثم تبقى مغيبة في علم الله وراء الأستار .
وهكذا ترتبط - في سياق السورة - قصة موسى والعبد الصالح ، بقصة أصحاب الكهف في ترك الغيب لله ، الذي يدبر الأمر بحكمته ، وفق علمه الشامل الذي يقصر عنه البشر ، الواقفون وراء الأستار ، لا يكشف لهم عما وراءها من الأسرار إلا بمقدار . . .
انتهى الجزء الخامس عشر ويليه الجزء السادس عشر
مبدواً بقوله تعالى : ( أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر . . . )
{ وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة } قيل اسمهما أصرم وصريم ، واسم المقتول جيسور . { وكان تحته كنز لهما } من ذهب وفضة ، روي ذلك مرفوعا والذم على كنزهما في قوله تعالى : { والذين يكنزون الذهب والفضة } لمن لا يؤدي زكاتهما وما تعلق بهما من الحقوق . وقيل من كتب العلم . وقيل كان لوح من ذهب مكتوب فيه : عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب ، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل ، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ، لا إله إلا الله محمد رسول الله . { وكان أبوهما صالحا } تنبيه على أن سعيه ذلك كان لصلاحه . قيل كان بينهما وبين الأب الذي حفظا فيه سبعة آباء وكان سياحا واسمه كاشح . { فأراد ربك أن يبلُغا أشدّهما } أي الحلم وكمال الرأي . { ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك } مرحومين من ربك ، ويجوز أن يكون علة أو مصدرا لأراد فإن إرادة الخير رحمة . وقيل متعلق بمحذوف تقديره فعلت ما فعلت رحمة من ربك ، ولعل إسناد الإرادة أولا إلى نفسه لأنه المباشر للتعييب وثانيا إلى الله وإلى نفسه لأن التبديل بإهلاك الغلام وإيجاد الله بدله ، وثالثا إلى الله وحده لأنه لا مدخل له في بلوغ الغلامين . أو لأن الأول في نفسه شر ، والثالث خير ، والثاني ممتزج . أو لاختلاف حال العارف في الإلتفات إلى الوسائط . { وما فعلتُه } وما فعلت ما رأيته . { عن أمري } عن رأي وإنما فعلته بأمر الله عز وجل ، ومبنى ذلك على أنه إذا تعارض ضرران يجب تحمل أهونهما لدفع أعظمهما ، وهو أصل ممهد غير أن الشرائع في تفاصيله مختلفة . { ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرا } أي ما لم تستطع فحذف التاء تخفيفا .
ومن فوائد هذه القصة أن لا يعجب المرء بعلمه ولا يبادر إلى إنكار ما لم يستحسنه ، فلعل فيه سرا لا يعرفه ، وأن يداوم على التعلم ويتذلل للمعلم ، ويراعي الأدب في المقابل وأن ينبه المجرم على جرمه ويعفو عنه حتى يتحقق إصراره ثم يهاجر عنه .
أما قضية الجدار فالخضر تصرف في شأنها عن إرادة الله اللطف باليتيمين جزاء لأبيهما على صلاحه ، إذ علم الله أن أباهما كان يَهمّه أمر عيشهما بعده ، وكان قد أودع تحت الجدار مالاً ، ولعله سأل الله أن يلهم ولديه عند بلوغ أشدهما أن يبحثا عن مدفن الكنز تحت الجدار بقصد أو بمصادفة ، فلو سقط الجدار قبل بلوغهما لتناولت الأيدي مكانه بالحفر ونحوه فعثر عليه عاثر ، فذلك أيضاً لطف خارق للعادة . وقد أسند الإرادة في قصة الجدار إلى الله تعالى دون القصتين السابقتين لأن العمل فيهما كان من شأنه أن يسعى إليه كل من يقف على سرّه لأن فيهما دفع فساد عن الناس بخلاف قصة الجدار فتلك كرامة من الله لأبي الغلامين .
وقوله : { رحمةً من ربّك وما فعلتُهُ عن أمري } تصريح بما يزيل إنكار موسى عليه تصرفاته هذه بأنها رحمة ومصلحة فلا إنكار فيها بعد معرفة تأويلها .
ثم زاد بأنه فعلها عن وحي من الله لأنه لما قال { وما فعلته عن أمري } علم موسى أنّ ذلك بأمر من الله تعالى لأنّ النبي إنما يتصرف عن اجتهاد أو عن وَحي ، فلما نفى أن يكون فعله ذلك عن أمر نفسه تعيّن أنه عن أمر الله تعالى . وإنما أوثر نفي كون فعله عن أمر نفسه على أن يقول : وفعلته عن أمر ربّي ، تكملة لكشف حيرة موسى وإنكاره ، لأنه لما أنكر عليه فعلاته الثلاث كان يؤيد إنكاره بما يقتضي أنه تصرفٌ عن خطأ .
وانتصب { رحْمَةً } على المفعول لأجله فينازعه كل من ( أردتُ ) ، و ( أردنَا ) ، و ( أراد ربّك ) .
وجملة { ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً } فَذْلَكَةٌ للجمل التي قبلها ابتداء من قوله { أمَّا السَّفِينةُ فَكَانَتْ لمساكين } ، فالإشارة بذلك إلى المذكور في الكلام السابق وهو تلخيص للمقصود كحوصلة المدرس في آخر درسه .
و { تَسْطِعْ } مضارع ( اسطاع ) بمعنى ( استطاع ) . حذف تاء الاستفعال تخفيفاً لقربها من مخرج الطاء ، والمخالفةُ بينه وبين قوله { سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً } للتفنن تجنباً لإعادة لفظ بعينه مع وجود مرادفه . وابتدىء بأشهرهما استعمالاً وجيء بالثانية بالفعل المخفف لأنّ التخفيف أولى به لأنه إذا كرر { تَسْتَطِع } يحصل من تكريره ثقل .
وأكد الموصول الأول الواقع في قوله { سأُنَبِئُكَ بتأويل ما لم تستَطِعْ عليهِ صَبْراً } تأكيداً للتعريض باللوم على عدم الصبر .
واعلم أن قصة موسى والخضر قد اتخذتها طوائف من أهل النحل الإسلامية أصلاً بنوا عليه قواعد موهومة .
فأول ما أسسوه منها أنّ الخضر لم يكن نبيئاً وإنما كان عبداً صالحاً ، وأن العِلم الذي أوتيه ليس وحياً ولكنه إلهام ، وأن تصرفه الذي تصرفه في الموجودات أصل لإثبات العلوم الباطنية ، وأن الخضر منحهُ الله البقاء إلى انتهاء مدة الدنيا ليكون مرجعاً لتلقي العلوم الباطنية ، وأنه يظهر لأهل المراتب العليا من الأولياء فيفيدهم من علمه ما هم أهل لتلقّيه .
وبَنوا على ذلك أن الإلهام ضرب من ضروب الوحي ، وسموه الوحي الإلهامي ، وأنه يجيء على لسان ملك الإلهام ، وقد فصله الشيخ محيي الدين ابن العربي في الباب الخامس والثمانين من كتابه « الفتوحات المكية » ، وبيّن الفرق بينه وبين وحي الأنبياء بفروق وعلامات ذكرها منثورةً في الأبواب الثالث والسبعين ، والثامن والستين بعد المائتين ، والرابع والستين بعد ثلاثمائة ، وجزم بأن هذا الوحي الإلهامي لا يكون مخالفاً للشريعة ، وأطال في ذلك ، ولا يخلو ما قاله من غموض ورموز ، وقد انتصب علماء الكلام وأصول الفقه لإبطال أن يكون ما يسمى بالإلهام حجّة . v وعرفوه بأنه إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر ، وأبطلوا كونه حجّة لعدم الثقة بخواطر من ليس معصوماً ولتفاوت مراتب الكشف عندهم . وقد تعرض لها النسفي في « عقائده » ، وكل ما قاله النسفي في ذلك حق ، ولا يقام التشريع على أصول موهومة لا تنضبط .
والأظهر أن الخضر نبيء عليه السلام وأنه كان موحىً إليه بما أوحي ، لقوله { وما فعلته عن أمري } ، وأنه قد انقضى خبره بعد تلك الأحوال التي قصّت في هذه السورة ، وأنه قد لحقه الموت الذي يلحق البشر في أقصى غاية من الأجل يمكن أن تفرض ، وأن يحمل ما يعْزى إليه من بعض الصوفية الموسومين بالصدق أنه محوك على نسج الرمز المعتاد لديهم ، أو على غشاوة الخيال التي قد تخيم عليهم .
ابن رشد: سُئِلَ مالكٌ عن قول الله عز وجل: {فأَرادَ رَبُّكَ أنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهما} ما الأَشُدُّ؟ قال: الحُلُمُ، وقال مالكٌ: قال الله تعالى: {ولا تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيمِ إلّا بالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حتّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} فالأَشُدُّ هاهنا: الحُلُمُ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قول صاحب موسى: وأما الحائط الذي أقمته، فإنه كان لغلامين يتيمين في المدينة، وكان تحته كنزلهما.
اختلف أهل التأويل في ذلك الكنز؛ فقال بعضهم: كان صُحُفا فيها علِم مدفونة... وقال آخرون: بل كان مالاً مكنوزا... عن عكرمة... قال: كنز مال. وأولى التأويلين في ذلك بالصواب: القول الذي قاله عِكْرمة، لأن المعروف من كلام العرب أن الكنز اسم لما يكنز من مال، وأن كلّ ما كنز فقد وقع عليه اسم كنز، فإن التأويل مصروف إلى الأغلب من استعمال المخاطبين بالتنزيل، ما لم يأت دليل يجب من أجله صرفه إلى غير ذلك...
وقوله:"وكان أبُوهُما صَالِحا فأرَادَ رَبّكَ أنْ يَبْلُغا أشُدّهُما" يقول: فأراد ربك أن يدركا ويبلغا قوتهما وشدّتهما، ويستخرجا حينئذ كنزهما المكنوز تحت الجدار الذي أقمته، "رحمة من ربك "بهما، يقول: فعلت هذا بالجدار، رحمة من ربك لليتيمين... قال ابن عباس، في قوله "وَكانَ أبُوهُما صالِحا" قال: حُفِظا بصلاح أبيهما، وما ذكر منهما صلاح...
وقوله: "وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي" يقول: وما فعلت يا موسى جميع الذي رأيتني فعلته عن رأيي، ومن تلقاء نفسي، وإنما فعلته عن أمر الله إياي به... وقوله: "ذَلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرا" يقول: هذا الذي ذكرت لك من الأسباب التي من أجلها فعلت الأفعال التي استنكرتها مني "تأويل"؛ يقول: ما تؤول إليه وترجع الأفعال التي لم تسطع على ترك مسألتك إياي عنها وإنكارك لها صبرا.
وهذه القصص التي أخبر الله عزّ وجلّ نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه، تأديب منه له، وتقدمٌ إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذّبوه واستهزؤوا به وبكتابه، وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه، فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها، كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف الصحة في الظاهر عند موسى، إذ لم يكن عالما بعواقبها، وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآئلة إلى الصواب في العاقبة، ينبئ عن صحة ذلك قوله: "وَرَبّكَ الْغَفُورُ ذُو الرّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجّلَ لَهُمْ العَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا". ثم عقب ذلك بقصة موسى وصاحبه، يعلم نبيه أن تركه جلّ جلاله تعجيل العذاب لهؤلاء المشركين، بغير نظر منه لهم، وإن ذلك فيما يَحْسِب من لا علم له بما الله مدبر فيهم، نظرا منه لهم، لأن تأويل ذلك صائر إلى هلاكهم وبوارهم بالسيف في الدنيا واستحقاقهم من الله في الآخرة الخزي الدائم.
{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} الآية؛ فيه دلالة على أن الله يحفظ الأولاد لصلاح الآباء... ونحوه قوله تعالى: {ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً} [الفتح: 25]، فأخبر بدفع العذاب عن الكفار لكون المؤمنين فيهم، ونحوه قوله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} [الأنفال: 33]...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أَما تسويةُ الجدارِ فلاستبقاءِ كنزِ الغلامَيْن وترْكِ طلبِ الرِّفْقِ من الخَلْق...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَكَانَ أَبُوهُمَا صالحاً} اِعتِدادٌ بصَلاح أبيهما وحِفْظٌ لِحَقِّه فيهما...
{وَمَا فَعَلْتُهُ}... {عَنْ أَمْرِي} عن اجتهادي...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... وجاء في أنباء الخضر عليه السلام في أول قصة {فأردتُ أنْ أعيبَها} [الكهف: 79] وفي الثانية {فأردْنا أن يُبَدِّلَهما} وفي الثالثة {فأراد ربُّكَ أنْ يَبْلُغا} وإنما انفرد أولاً في الإرادة لأنها لفظةُ عيبٍ، فتأدَّبَ بأنْ لم يُسنِد الإرادةَ فيها إلا إلى نفسه، كما تأدَّب إبراهيم عليه السلام في قوله {وإذا مَرِضْتُ فهو ييَشْفِين} [الشعراء: 80]، فأَسنَد الفعلَ قبلُ وبعدُ إلى الله تعالى، وأَسنَد المرضَ إلى نفسه، إذ هو معنَى نقْصٍ ومصيبةٍ، وهذا المَنزِع يطَّرد في فصاحة القرآن كثيراً... وإنما قال الخضر في الثانية {فأرَدْنا} لأنه أملٌ قد كان رواه هو وأصحابه الصالحون، وتكلَّم فيه في معنى الخشية على الوالدين، وتمنَّى البديل لهما،... وإنما أَسنَد الإرادة في الثالثة... إلى الله تعالى، لأنها في أمرٍ مستأنَفٍ في زمن طويل غيبٍ من الغيوب، فحَسُنَ إفادةُ هذا الموضع بذِكر الله تعالى، وإن كان الخضر قد أراد أيضاً ذلك الذي أَعلَمه اللهُ أنه يريده، فهذا توجيهُ فصاحةِ هذه العبارة بحسب فهْمنا المُقَصِّر، والله أعلم... والأَشُدُّ» كَمالُ الخَلْقِ والعقلِ...
... {رحمةً مِن ربِّكَ} يعني إنما فعلتُ هذه الفِعالَ لِغرضِ أن تَظهر رحمة الله تعالى لأنها بأسْرِها تَرجِع إلى حرفٍ واحدٍ وهو تحمُّل الضَّررِ الأدنى لِدَفْع الضرر الأعلى... {وما فَعلتُه عن أمْري}... وإنما فَعَلْتُه بأمْر الله ووحْيِه لأن الإقدام على تنقيص أموال الناس وإراقةِ دمائهم لا يجوز إلا بالوحي والنّصِّ القاطعِ...
بَقِيَ في الآية سؤالٌ، وهو أنه قال:...
{فأَرَدْنا أَنْ يُبَدِّلَهما ربُّهما خَيْراً منه زكاةً} وقال: {فأرادَ ربُّكَ أنْ يَبْلُغا أَشُدَّهما} كيف اختلفتِ الإضافةُ في هذه الإراداتِ...
وهي... في قصةٍ واحدةٍ وفِعْلٍ واحدٍ؟ والجواب: أنه... لَمّا ذَكَر القتلَ عَبَّر عن نفسه بلفظ الجمع تنبيهاً على أنه من العُظَماء في علوم الحِكْمة فلم يُقْدِمْ على هذا القتل إلا لِحِكمةٍ عاليةٍ،...
ولَمّا ذَكر رعايةَ مصالحِ اليتيميْن لأجل صلاحِ أبيهما أضافه إلى الله تعالى، لأن المُتكفِّل بمصالح الأبناء لرعاية حَقِّ الآباءِ ليس إلا اللهَ سبحانه وتعالى...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
... قال شيخنا الإمام أبو العباس: ذهب قوم من زنادقة الباطنية إلى سلوك طريق تلزم منه هذه الأحكام الشرعية، فقالوا: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأنبياء والعامة، وأما الأولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم. وقالوا: وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار، وخلوها عن الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات، ويعلمون أحكام الجزئيات، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر، فإنه استغنى بما تجلى له من العلوم، عما كان عند موسى من تلك الفهوم. وقد جاء فيما ينقلون: استفت قلبك وإن أفتاك المفتون. قال شيخنا رضي الله عنه: وهذا القول زندقة وكفر يقتل قائله ولا يستتاب؛ لأنه إنكار ما علم من الشرائع، فإن الله تعالى قد أجرى سنته، وأنفذ حكمته، بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه، وهم المبلغون عنه رسالته وكلامه، المبينون شرائعه وأحكامه، اختارهم لذلك، وخصهم بما هنالك، كما قال تعالى:"الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصيرا" [الحج: 75] وقال تعالى: "الله أعلم حيث يجعل رسالته "[الأنعام: 241] وقال تعالى: "كان الناس أمه واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين" [البقرة: 213] [الآية] إلى غير ذلك من الآيات. وعلى الجملة فقد حصل العلم القطعي، واليقين الضروري، واجتماع السلف والخلف على أن لا طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه، ولا يعرف شيء منها إلا من جهة الرسل، فمن قال: إن هناك طريقا آخر يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل بحيث يستغنى عن الرسل فهو كافر، يقتل ولا يستتاب، ولا يحتاج معه إلى سؤال ولا جواب، ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا عليه الصلاة والسلام؛ الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله، فلا نبي بعده ولا رسول. وبيان ذلك أن من قال يأخذ عن قلبه وأن ما يقع فيه حكم الله تعالى وأنه يعمل بمقتضاه، وأنه لا يحتاج مع ذلك إلى كتاب ولا سنة، فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة، فإن هذا نحو ما قاله عليه الصلاة والسلام: (إن روح القدس نفث في روعي...) الحديث...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولَمّا كانت القريةُ لا تُنافي التسميةَ بالمدينة، وكان التعبيرُ بالقرية أولاً ألْيَقَ، لأنها مشتقّةٌ منْ معنى الجَمْع، فكان أَلْيَقَ بالذّمّ في ترك الضيافة لإشعاره ببُخلهم حالةَ الاجتماع وبمحبّتهم للجمع والإمساكِ، وكانت المدينةُ بمعنى الإقامة، فكان التعبيرُ بها أَلْيَقَ للإشارة به إلى أن الناس يُقيمون فيها، فيَنْهَدم الجدارُ وهم مقيمون فيأخذون الكنز، قال: {في المدينةِ} فلذلك أَقَمْتُه احتساباً.. {فأراد ربُّكَ} أي المُحْسِنُ إليك بهذه التربية، إشارةً إلى ما فَعل بك مِن مِثلِها قبل النبوة...
{أَشُدَّهُمَا} أي رُشْدَهما... {ويَسْتَخْرِجا كَنْزَهما} لِيَنْتَفِعا به ويَنْفَعا الصالحين {رحمةً} بهما {مِنْ رَبِّكَ} أي الذي أَحْسَنَ تربيتَكَ وأنتَ في حُكْم اليتيمِ...
{تأويلُ ما لم تَسْطِعَ} يا موسى {عليه صَبْراً} وحذف تاء الاستطاعة هنا لصيرورة ذلك -بعد كشْف الغطاء- في حيز ما يُحمَل فكان مُنكِره غيرَ صابرٍ أصلاً لو كان عنده مكشوفاً من أول الأمر...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَأَمَّا الْجِدارُ} المَعْهودُ {فَكَانَ لغلامين يَتِيمَيْنِ في المدينةِ}... ولعل التعبيرَ عنها بالمدينة لإظهار نوعِ اعتدادٍ بها باعتدادِ ما فيها من اليتيمين وأبيهما الصالحِ...
{فَأَرَادَ رَبُّكَ} أي مالِكُكَ ومُدَبِّرُ أمورِك، ففي إضافة الربِّ إلى ضمير موسى عليه الصلاة والسلام دونَ ضميرِهما تنبيهٌ له عليه الصلاة والسلام على تحتُّم كمالِ الانقيادِ والاستسلامِ لإرادته سبحانه ووجوبِ الاحترازِ عن المناقشة فيما وَقَع بحسَبها من الأمور المذكورة...
{وَيَسْتَخْرِجَا} بالكُلِّيَّةِ {كَنزَهُمَا} مِن تحتِ الجدارِ ولولا أني أقمتُه لانقَضَّ وخَرج الكنزُ من تحته قبل اقتدارِهما على حِفظ المال وتنميتِه وضاعَ... {ذَلِكَ} إشارة إلى العَواقب المنظومةِ في سِلْك البَيان، وما فيه معنى البُعد للإيذان ببُعد درجتِها في الفخامة...
{تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع}... {عَّلَيْهِ صَبْراً} من الأمور التي رابَتْه... فيكون إنجازاً للتَّنْبئة الموعودةِ، أو إلى البيان نفسه فيكون التأويلُ بمعناه، وعلى كل حالٍ فهو فَذْلَكَةٌ لِما تقدَّم، وفي جعْل الصلة عينَ ما مَرَّ تكريرٌ للنَّكِير وتشديدٌ للعِتاب...
{وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا} من تحت الجدار، ولو انقَضَّ قبل ذلك لَظَهَر الكنزُ، وأخَذه غيرُ أهلِه قَهْراً أو سرقةً، ولو أخَذه اليتيمان قبل أشُدِّهِما لَضَيَّعاه، وكان وَصِيُّهما عالِماً به، لكنه غاب هذا على موسى إذ قال إقامةُ هذا الجدار بدون أن تُطْلَب إِليها فضولٌ وتبرُّعٌ على مَن حَرَمُونا...
{تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} تَسْتَطِعْ حُذفت التاءُ تخفيفاً بحذف أحد المتقاربين التاء والطاء في آخر الكلام، كما أن العياء قد لحِقهما بالعتاب، وكما أن موسى يفارق الخضر وبقيَ الخضر مُنفرِداً، كما بقيت الطاء، ولم يكن ذلك في الأول لعدم موجِب التخفيف وهو العياء، وإنما حصل التكرير بالأخير، فخُفِّف ولا يخفف لفظ "ذلك "عن هذا فيقال: ذاك، خُفِّف استطاع بحذف التاء... كما يُصَغَّرُ الاسمُ أو يُرَخَّمُ للتّرحُّم، ولِعِظَمها أشار بالعبد، وهنا أَنجز الموعودَ...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
{وما فَعَلْتُه عن أمْرِي}... إن هذه الأعمال ليست من جنس أعمال الناس، بل هي من أعمال الله، وإنما كنت واسطةً فيها، فهي نماذجُ لفِعل ربِّكم في هذه الحياة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم ينفض الرجل يده من الأمر. فهي رحمة الله التي اقتضت هذا التصرف. وهو أمر الله لا أمره. فقد أطلعه على الغيب في هذه المسألة وفيما قبلها، ووجهه إلى التصرف فيها وفق ما أطلعه عليه من غيبه (رحمة من ربك وما فعلته عن أمري).. فالآن ينكشف الستر عن حكمة ذلك التصرف، كما انكشف عن غيب الله الذي لا يطلع عليه أحدا إلا من ارتضى. وفي دهشة السر المكشوف والستر المرفوع يختفي الرجل من السياق كما بدا. لقد مضى في المجهول كما خرج من المجهول. فالقصة تمثل الحكمة الكبرى. وهذه الحكمة لا تكشف عن نفسها إلا بمقدار. ثم تبقى مغيبة في علم الله وراء الأستار. وهكذا ترتبط -في سياق السورة- قصة موسى والعبد الصالح، بقصة أصحاب الكهف في ترك الغيب لله، الذي يدبر الأمر بحكمته، وفق علمه الشامل الذي يقصر عنه البشر، الواقفون وراء الأستار، لا يكشف لهم عما وراءها من الأسرار إلا بمقدار ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{رحمةً من ربّك وما فعلتُهُ عن أمري} تصريح بما يزيل إنكار موسى عليه تصرفاته هذه بأنها رحمة ومصلحة فلا إنكار فيها بعد معرفة تأويلها. ثم زاد بأنه فعلها عن وحي من الله لأنه لما قال {وما فعلته عن أمري} علم موسى أنّ ذلك بأمر من الله تعالى لأنّ النبي إنما يتصرف عن اجتهاد أو عن وَحي، فلما نفى أن يكون فعله ذلك عن أمر نفسه تعيّن أنه عن أمر الله تعالى. وإنما أوثر نفي كون فعله عن أمر نفسه على أن يقول: وفعلته عن أمر ربّي، تكملة لكشف حيرة موسى وإنكاره، لأنه لما أنكر عليه فعلاته الثلاث كان يؤيد إنكاره بما يقتضي أنه تصرفٌ عن خطأ...
واعلم أن قصة موسى والخضر قد اتخذتها طوائف من أهل النحل الإسلامية أصلاً بنوا عليه قواعد موهومة؛ فأول ما أسسوه منها أنّ الخضر لم يكن نبيئاً وإنما كان عبداً صالحاً، وأن العِلم الذي أوتيه ليس وحياً ولكنه إلهام، وأن تصرفه الذي تصرفه في الموجودات أصل لإثبات العلوم الباطنية، وأن الخضر منحهُ الله البقاء إلى انتهاء مدة الدنيا ليكون مرجعاً لتلقي العلوم الباطنية، وأنه يظهر لأهل المراتب العليا من الأولياء فيفيدهم من علمه ما هم أهل لتلقّيه. وبَنوا على ذلك أن الإلهام ضرب من ضروب الوحي، وسموه الوحي الإلهامي، وأنه يجيء على لسان ملك الإلهام، وقد فصله الشيخ محيي الدين ابن العربي في الباب الخامس والثمانين من كتابه « الفتوحات المكية»، وبيّن الفرق بينه وبين وحي الأنبياء بفروق وعلامات ذكرها منثورةً في الأبواب الثالث والسبعين، والثامن والستين بعد المائتين، والرابع والستين بعد ثلاثمائة، وجزم بأن هذا الوحي الإلهامي لا يكون مخالفاً للشريعة، وأطال في ذلك، ولا يخلو ما قاله من غموض ورموز، وقد انتصب علماء الكلام وأصول الفقه لإبطال أن يكون ما يسمى بالإلهام حجّة، وعرفوه بأنه إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر، وأبطلوا كونه حجّة لعدم الثقة بخواطر من ليس معصوماً ولتفاوت مراتب الكشف عندهم. وقد تعرض لها النسفي في « عقائده»، وكل ما قاله النسفي في ذلك حق، ولا يقام التشريع على أصول موهومة لا تنضبط.
والأظهر أن الخضر نبيء عليه السلام وأنه كان موحىً إليه بما أوحي، لقوله {وما فعلته عن أمري}، وأنه قد انقضى خبره بعد تلك الأحوال التي قصّت في هذه السورة، وأنه قد لحقه الموت الذي يلحق البشر في أقصى غاية من الأجل يمكن أن تفرض، وأن يحمل ما يعْزى إليه من بعض الصوفية الموسومين بالصدق أنه محوك على نسج الرمز المعتاد لديهم، أو على غشاوة الخيال التي قد تخيم عليهم.
فكونوا على حذر ممن يقول: أخبرني الخَضر.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
... يلفت نظرنا في هذه القصة عدة نقاط:
الأسلوب الوديع الذي يعبّر عن روح التواضع للعلم والعلماء، من دون نظر إلى طبيعة المركز الاجتماعي أو الديني الذي يقف فيه العالم والمتعلم، فنحن نجد الأدب الرسالي في هذه الكلمات الهادئة المتعطشة للعلم التي خاطب بها موسى (عليه السلام) هذا العبد الصالح: «هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً».
الأسلوب الواقعي الذي يعبِّر عن الروح العملية التي يعيشها العالم تجاه المتعلمين، بعيداً عن أيّة مجاملة تفرضها الأوضاع الاجتماعية، أو أيّ أسلوب من أساليب اللف والدوران التي تحاول خداع الآخرين، لتجعل منهم أرقاماً تضاف إلى أرقام الأتباع الموجودين الذين يشاركون في تضخيم شخصية الأستاذ، من دون ملاحظة لاستفادتهم منه أو قابليتهم للتعلُّم والانتفاع بعلمه. فقد لاحظ هذا العبد الصالح أنه يختلف عن الآخرين في طبيعة معرفته بالواقع، فهم يلتقون بالجانب الظاهر منه، بينما يعتبر نفسه مطلعاً على الجوانب التي تختفي وراء الصور الظاهرية المألوفة للأشياء، ما يجعلهم يرفضون أو لا يتحملون طريقته في العمل وأسلوبه في معالجة هذا الواقع، وسوف لن يتقبلوها في نهاية المطاف. وبذلك تفقد الصحبة فائدتها، وتتحول إلى مزيد من المجادلات والمخاصمات التي لن تكون في مصلحة أحدٍ، ولا في مصلحة الحقيقة على أي حال. وعلى ضوء هذا، أوضح له طبيعة سلوكه الذي يتعارض مع المألوف، وأعلن له مقدّماً أنه أي موسى (عليه السلام) لن يستطيع معه صبراً، لأن الإنسان لا يملك الصبر على ما لم يُحط بمعرفته، فلم يكن من موسى (عليه السلام) إلا أن وعده بالصبر والطاعة المطلقة... وكانت تعليمات العبد الصالح أن لا يسأله موسى (عليه السلام) عن كل شيء يشاهده ويثير استغرابه، أو يرسم علامات الاستفهام في ذهنه، مهما كان الشيء مثيراً أو غريباً... وينتظر حتى يبدأه هو بالحديث عنه وعن كل شيء شاهده ورآه. وبهذا كانت العلاقة المتبادلة بينهما علاقة صحبة ترتكز على السعي نحو المعرفة في إطار من الانضباط والواقعية.
إن القضايا التي قام بها هذا العبد الصالح، كانت تتحدى صبر موسى (عليه السلام) بما أثارته من خروج عن الخط الشرعي، كما في قضية قتل الغلام، وخرق السفينة، لما في الأول من اعتداء على الأموال وتعريض الآخرين للخطر من دون حق، ولما في الثاني من اعتداء على الحياة بدون ذنب، وكما في حادثة تثبيت الجدار وما أظهرته من إهمال لمبدأ استغلال الطاقة التي يملكها الإنسان، من أجل حماية نفسه من الجوع، لا سيما مع الأشخاص الذين لا يعيشون القيم في حياتهم العامة... ولهذا كانت احتجاجات موسى (عليه السلام) تتلاحق وتشتد في كل حالة من هذه الحالات، حتى كانت الحالة الأخيرة التي سبقها التعهُّد الأخير بالصبر من قِبَل موسى (عليه السلام)، وإعطاء صاحبه الحرية في أن يفارقه، إذا استمر في إثارة السؤال وفي نفاد الصبر. وهكذا كان، ولم يستطع موسى (عليه السلام) الصبر في الحالة الأخيرة، وبدأ العبد الصالح، بعد أن نفّذ تهديده بالفراق، يشرح لموسى (عليه السلام) كل شيء، ويوضح له طبيعة الأعمال التي أثارت استنكاره، وكيف كانت مرتبطة بأمر الله، لا برأيه الشخصي. وليس من شأن هذا البحث، أن ندخل في الحديث حول تقييم هذه الأعمال، من حيث انسجامها مع الخطوط المألوفة للشريعة، أو اختلافها عنها، وخضوعها لحالة استثنائية اقتضتها طبيعة تلك الحالات الخاصة... فإن لذلك بحثاً آخر، لا مجال له الآن. بل كل ما نريده هو الاستفادة من الجو الذي عشناه في هذا الحوار، بتقرير فكرتين أساسيتين، تدخلان في نطاق عمل الداعية إلى الله والعامل في سبيل رسالته..
أ -إن على الداعية أن يعيش الانضباط والصبر والصمت في الحياة العملية التي تتحرك في اتجاه ممارسته المسؤولية، إذا كانت الجهة التي يتبعها أو يتعاون معها في مستوى الثقة الفكرية والدينية والعملية التي تبرِّر له أمر الاعتماد عليها، والسير معها، فلا يسارع إلى الاعتراض في ما يوجّه إليه من أوامر، وما يشاهده من أعمال تخالف ما هو مألوف لديه، لأن ذلك قد يوجب الارتباك في العمل، والخلل في انضباط الصفوف... بل يؤخِّر ذلك إلى الظرف المناسب والمكان المناسب، حيث يكون، من الممكن، من وجهةٍ عملية، القيام بما يريده من إثارة السؤال والجواب.
ب- إن على المؤمنين أن يتقبلوا بالصبر والتسليم ما يُلقى إليهم من أحكام الله، مما لا يتفق مع الأفكار التي يألفونها، لأن الله سبحانه أعلم بجهات الصلاح والفساد، فإذا حدثت لديهم شبهةٌ في أي أمر من ذلك، فليتهموا أفكارهم في البداية وليحاولوا البحث بعد ذلك عن طبيعة الحكم وحيثيته، ليصلوا إليه، في نهاية المطاف.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
1 ـ هل كانت مهمّة الخضر في إطار النظام التشريعي أم التكويني!؟
إِنَّ هذه الحوادث الثّلاث شغلت عقول العلماء الكبار، وأثارت بينهم الكثير من الكلام والاستفهامات. والسؤال الأوّل هو: هل يمكن إِتلاف جزء مِن أموال شخص بدون إِجازته بذريعة أنَّ هُناك غاصباً يريد أن يُصادرها؟ وهل يمكن معاقبة فتى بذريعة الأعمال التي سيقوم بها في المستقبل؟ ثمّ هل هُناك ضرورة للعمل المجاني بهدف الحفاظ على أموال شخص معين؟
لقد رأينا مِن سياق القصّة القرآنية أنَّ موسى اعترض على الرجل العالم، ولكنَّهُ بعد أن استمع للتوضيحات وأحاط ببواطن الأُمور عاد واقتنع. أمّا نحن فأمامنا طريقان للإِجابة على الأسئلة، نعرضها بالتفصيل الآتي:
الطريق الأوّل: أن نطابق الحوادث وتصرفات الرجل العالم مع الموازين الفقهية، وقوانين الشرع، وقد قامت مجموعة مِن المفسّرين بسلوك هذا الطريق. فالحادثة الأُولى اعتبروها مُنطبقة مع قانون الأهم والمهم؛ وقالوا بأنَّ حفظ مجموع السفينة عمل أهم حتماً مِن الضرر الجزئي الذي لحقها بالخرق؛ وبعبارة أُخرى، فإِنّ الخضر قام هُنا (بدفع الأفسد بالفاسد) خاصّة وأنَّهُ كان يُمكن تقدير الرضا الباطني لأهل السفينة فيما إِذا علموا بهذه الحادثة. (أي أنَّ الخضر قد حصل مِن وجهة الأحكام والقواعد الشرعية على إِذن الفحوى). وفيما يتعلق بالغلام فقد أصرَّ المفسّرون ممن سلك هذا الطريق، على أنَّ الفتى كانَ بالغاً وأنَّهُ كان مرتداً أو مفسداً، وبسبب أعماله الفعلية فإِنَّهُ مِن الجائز أن يُقتل. وأمّا حديث الخضر عن جرائم الغلام المستقبلية، فإِنَّهُ بذلك أراد أن يقول بأن جرائم هذا الغلام لا تقتصر على إِفساده الراهن وجرائمه الحالية، بل سيقوم بالمستقبل بجرائم أكبر، لذا فإِنَّ قتله طبقاً للموازين الشرعية وبسبب ما اقترفه من جرائم فعلية يكون جائزاً. أمّا ما يخص الحادثة الثّالثة، فلا أحد يستطيع أن يعترض على الآخرين فيما لو قاموا بالتضحية والإِيثار مِن أجل الآخرين، ومِن أجل أن لا تضيع أموالهم دون أن يتقاضوا أجراً على أعمالهم، وهو بالضبط ما قام بهِ الخضر، وقد لا تصل هذه الافعال إلى حدّ الوجوب، إِلاَّ أنّها تعتبر ـ حتماً ـ مِن السلوك الحسن. بل قد يُقال مِن الوجهة الفقهية أنّ الإِيثار والتضحية في بعض الموارد مِن الأُمور الواجبة، مثل أن تكون أموال كثيرة لطفل يتيم معرضة للتلف، ويمكن المحافظة عليها بجهد قليل فلا يستبعد وجوب بذل الجهد.
الطريق الثّاني: تتمّ فيه مناقشة بعض عناصر الاستدلال الفقهية التي وردت في الطريق الأوّل، فإِذا كانت التوضيحات الآنفة مُقنعة فيما يخص الكنز والحائط، إِلاَّ أنّها في قضية قتل الغلام لا تتلاءم مع ظاهر الآية، الذي اعتبر علّة قتل الغلام هو ما سيقوم بهِ مِن أعمال في المستقبل، وليسَ أعماله الفعلية. أمّا الدليل الوارد حول خرق السفينة، فهو أيضاً لا يخلو من تأمل فهل نستطيع مثلا ـ ومِن الوجهة الفقهية ـ أن نتلف جزءاً مِن أموال أو بيت شخص معين بدون علمه لإنقاذها مِن خطر ما، حتى لو علمنا وتيقنا بأنَّهُ سيتمّ غصب تلك الأموال في المستقبل... تُرى هل يسمح الفقهاء بمثل هذا الحكم؟! وعلى هذا الأساس يجب علينا أن نسلك طريقاً آخر:
الطريق الثّالث: إِنَّ في هذا العالم ثمّة نظامان هما: «النظام التكويني،والنظام التشريعي»، وبالرغم مِن أنَّ هذين النظامين مُتناسقين فيما بينهما في الأصول الكلية، ولكنهما قد ينفصلان ويفترقان في الجزئيات. على سبيل المثال، يقوم الله سبحانه وتعالى ومِن أجل اختبار العباد، بابتلائهم بالخوف ونقص في الأموال والثمرات وموت الأعزّة وفقدانهم حتى يتبيّن الصابر مِن غيره تجاه هذه الحوادث والبلاءات. والسؤال هنا هو: هل يستطيع أي فقيه أو حتى نبي أن يقوم بهذا العمل، أي ابتلاء العباد بنقص الأموال والثمرات وفقدان الأعزة، وفقدان الأمن والاستقرار بهدف اختبار الناس وابتلائهم؟ ونرى أنَّ الله سبحانهُ وتعالى يقوم بتحذير وتربية بعض أنبيائه وعباده الصالحين، وذلك بابتلائهم بمصائب بسبب تركهم للأولى، مثل ما ابتلى بهِ يعقوب (عليه السلام) بسبب قلّة توجهه إلى المساكين، أو ما ابتلى بهِ يونس (عليه السلام) بسبب تركه الأُولى مِن بعض الأُمور ولو لفترة قصيرة... فهل يا ترى يحق لأحد أن يقوم بهذه الأعمال بعنوان الجزاء والعقاب لهؤلاء الرسل الكرام والعباد الصالحين؟ ونرى أنَّ الله سبحانه وتعالى يقوم في بعض الأحيان، بسلب النعمة مِن الإِنسان بسبب عدم شكره، كأن تغرق أمواله في البحر ـ مثلا ـ يخسر هذه الأموال، أو يُصاب بالمرض بسبب عدم شكره لربِّه على نعمة السلامة... والسؤال هنا: هل يستطيع أحد مِن الناحية الفقهية والتشريعية أن يسلب النعمة مِن الآخرين، أو ينزل الضرر بسلامتهم وصحتهم بسبب عدم شكرهم وبدعوى ابتلائهم؟ إِنَّ أمثال هذه الأُمور كثيرٌ للغاية، وهي تُظهر ـ بشكل عام ـ أنَّ عالَم الوجود، وخصوصاً خلق الإِنسان، قد قام على النظام الأحسن، حيث وضعَ الله تعالى مجموعة مِن القوانين والمقررات التكوينية حتى يسلك الإِنسان طريق التكامل، وعندما يتخلف عنها فسيُصاب بردود فعل مُختلفة. ولكنّا مِن وُجهة قوانين الشرع وضوابط الأحكام لا نستطيع أن نصنِّف الأُمور في إِطار هذه القوانين التكوينية. على سبيل المثال نرى أنّ الطبيب يستطيع أن يقطع إصبع شخص معين بحجّة عدم سراية السم إلى قلبه، ولكن هل يستطيع أي شخص أن يقطع إِصبع شخص آخر بحجّة تربيته على الصبر أو عقاباً لهُ على كفرانه للنعم؟ (بالطبع الخالق يستطيع القيام بذلك حتماً لأنَّهُ يُلائم النظام الأحسن). والآن بعد أن ثبت وتوضح أنّ في العالم نظامان (تكويني وتشريعي)، وأنَّ الله هو الحاكم والمسيطر على هذين النظامين، لذا فلا مانع في أن يأمر تعالى مجموعة بأن تطبّق النظام التشريعي، بينما يأمر مجموعة مِن الملائكة أو بعض البشر (كالخضر مثلا) بأن يطبقوا النظام التكويني. ومِن وجهة النظام التكويني لا يوجد أي مانع في أن يبتلي الله طفلا غير بالغ بحادثة معينة، ثمّ يموت ذلك الطفل بسبب هذه الحادثة، وذلك لعلم الله تعالى بأنَّ أخطاراً كبيرة كامنة لهذا الطفل في المستقبل كما أنَّ وجود مثل هؤلاء الأشخاص وبقاءهم يتمّ لمصلحة معينة كالامتحان والابتلاء وغير ذلك. وأيضاً لا مانع في أن يبتليني الله اليوم بمرض صعب يقعدني الفراش لعلمه تعالى بأنَّ خروجي مِن البيت لو تمّ فسأتعرض لحادثة خطيرة لا أستحقها، لذا فهو تعالى يمنعني مِنها...