{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } من القوة والعقل واللب ، وذلك نحو أربعين سنة في الغالب ، { وَاسْتَوَى } كملت فيه تلك الأمور { آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا } أي : حكما يعرف به الأحكام الشرعية ، ويحكم به بين الناس ، وعلما كثيرا .
{ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } في عبادة اللّه المحسنين لخلق اللّه ، نعطيهم علما وحكما بحسب إحسانهم ، ودل هذا على كمال إحسان موسى عليه السلام .
ثم قص علينا - سبحانه - جانبا من حياة موسى - عليه السلام - بعد أن بلغ أشده واستوى ، فقال - تعالى - : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ . . . } .
قوله - سبحانه - { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ واستوى } بيان لجانب من النعم التى أنعم الله - تعالى - بها على موسى فى تلك المرحلة من حياته .
و { لَمَّا } ظرف بمعنى حين . والأشد : قوة الإنسان ، واشتعال حرارته من الشدة بمعنى القوة والارتفاع يقال : شد النهار إذا ارتفع . وهو مفرد جاء بصيغة الجمع ولا واحد له من لفظه .
وقوله : { واستوى } من الاستواء بمعنى الاكتمال وبلوغ الغاية والنهاية .
أى - وحين بلغ موسى - عليه السلام - منتهى شدته وقوته ، واكتمال عقله ، قالوا : وهى السن التى كان فيها بين الثلاثين والأربعين .
{ آتَيْنَاهُ } بفضلنا وقدرتنا { حُكْماً } أى : حكمة وهى الإصابة فى القول والفعل ، وقيل : النبوة .
{ وَعِلْماً } أى : فقها فى الدين ، وفهما سليما للأمور ، وإدراكا قويما لشئون الحياة .
وقوله - سبحانه - { وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين } بيان لسنة من سننه - تعالى - التى لا تتخلف .
أى : ومثل هذا الجزاء الحسن ، والعطاء الكريم ، الذى أكرمنا به موسى وأمه نعطى ونجازى المحسنين ، الذين يحسنون أداء ما كلفهم الله - تعالى - به . فكل من أحسن فى أقواله وأعماله ، أحسن الله - تعالى - جزاءه ، وأعطاه الكثير من آلائه .
ويسكت سياق القصة بعد هذا عن السنوات الطوال ما بين مولد موسى - عليه السلام - والحلقة التالية التي تمثل شبابه واكتماله . فلا نعلم ماذا كان بعد رده إلى أمه لترضعه . ولا كيف تربى في قصر فرعون . ولا كيف كانت صلته بأمه بعد فترة الرضاعة . ولا كيف كان مكانه في القصر أو خارجه بعد أن شب وكبر إلى أن تقع الأحداث التالية في الحلقة الثانية . ولا كيف كانت عقيدته ، وهو الذي يصنع على عين الله ، ويعد لوظيفته ، في وسط عباد فرعون وكهنته . .
يسكت سياق القصة عن كل هذا ويبدأ الحلقة الثانية مباشرة حين بلغ أشده واستوى ، فقد آتاه الله الحكمة والعلم ، وحزاه جزاء المحسنين :
( ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما . وكذلك نجزي المحسنين ) . .
وبلوغ الأشد اكتمال القوى الجسمية . والاستواء اكتمال النضوج العضوي والعقلي . وهو يكون عادة حوالي سن الثلاثين . فهل ظل موسى في قصر فرعون ، ربيبا ومتبنى لفرعون وزوجه حتى بلغ هذه السن ? أم إنه افترق عنهما ، واعتزل القصر ، ولم تسترح نفسه للحياة في ظل تلك الأوضاع الآسنة التي لا تستريح لها نفس مصفاة مجتباة كنفس موسى - عليه السلام - ? وبخاصة أن أمه لا بد أن تكون قد عرفته من هو ومن قومه وما ديانته . وهو يرى كيف يسام قومه الخسف البشع والظلم الشنيع ، والبغي اللئيم ؛ وهو يرى أبشع صورة للفساد الشائع الأثيم .
ليس لدينا من دليل . ولكن سياق الحوادث بعد هذا يلهم شيئا من هذا كما سيجيء ؛ والتعقيب على إتيانه الحكمة والعلم : ( وكذلك نجزي المحسنين )يشي كذلك بأنه أحسن فأحسن الله إليه بالحكمة والعلم :
{ ولما بلغ أشده } مبلغه الذي لا يزيد عليه نشؤه وذلك من ثلاثين إلى أربعين سنة فإن العقل يكمل حينئذ . وروي أنه لم يبعث نبي إلا على رأس الأربعين سنة . { واستوى } قده أو عقله . { آتيناه حكما } أي نبوة . { وعلما } بالدين ، أو علم الحكماء والعلماء سمتهم قبل استنبائه ، فلا يقول ولا يفعل ما يستجهل فيه ، وهو أوفق لنظم القصة لان الاستنباء بعد الهجرة في المراجعة . { وكذلك } ومثل الذي فعلنا بموسى وأمه . { نجزي المحسنين } على إحسانهم .
و «الأشد » ، جمع شدة كنعمة وأنعم ، هذا قول سيبويه وقال غيره : «الأشد » جمع شد وقالت فرقة «الأشد » اسم مفرد وليس بجمع ، واختلف في قدر الأشد من السنين ، فقالت فرقة : بلوغ الحلم وهي نحو خمسة عشر عاماً ، وقالت فرقة : ثمانية عشر عاماً ، وقال السدي : عشرون ، وقالت فرقة : خمسة وعشرون ، وقالت فرقة : ثلاثون ، وقال مجاهد وابن عباس : ثلاثة وثلاثون ، وقالت فرقة عظيمة : ستة وثلاثون ، وقال مجاهد وقتادة «الاستواء » أربعون سنة ، وقال مكي وقيل هو ستون سنة وهذا ضعيف ، و «الأشد » شدة البدن واستحكام أسره وقوته ، و { استوى } معناه تكامل عقله وحزمه ، وذلك عند الجمهور مع الأربعين ، و «الحكم » الحكمة ، و «العلم » ، والمعرفة بشرع إبراهيم عليه السلام وهي مقدمة نبوته عليه السلام .
هذا اعتراض بين أجزاء القصة المرتبة على حسب ظهورها في الخارج . وهذا الاعتراض نشأ عن جملة { ولتعلم أن وعد الله حق } [ القصص : 13 ] فإن وعد الله لها قد حكي في قوله تعالى { إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين } [ القصص : 7 ] . فلما انتهى إلى حكاية رده إلى أمه بقوله { فرددناه إلى أمه كي تقرَّ عينُها } [ القصص : 13 ] إلى آخره كمّل ما فيه وفاء وعد الله إياها بهذا الاستطراد في قوله { ولما بلغ أشدّه واستوى ءاتيناه حكماً وعلماً } وإنما أوتي الحكم أعني النبوءة بعد خروجه من أرض مدين كما سيجيء في قوله تعالى { فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله } [ القصص : 29 ] . وتقدم نظير هذه الآية في سورة يوسف ، إلا قوله { واستوى } فقيل : إن { استوى } بمعنى بلغ أشده ، فيكون تأكيداً ، و الحق أن الأشد كمال القوة لأن أصله جمع شدة بكسر الشين بوزن نعمة وأنعم وهي اسم هيئة بمعنى القوة ثم عومل معاملة المفرد . وأن الاستواء : كمال البنية كقوله تعالى في وصف الزرع { فاستغلظ فاستوى على سوقه } [ الفتح : 29 ] ، ولهذا أريد لموسى الوصف بالاستواء ولم يوصف يوسف إلا ببلوغ الأشد خاصة لأن موسى كان رجلاً طوالاً كما في الحديث « كأنه من رجال شنُؤة » فكان كامل الأعضاء ولذلك كان وكزه القبطي قاضياً على الموكوز . والحكم : الحكمة ، والعلم : المعرفة بالله .