22- ولا تتزوجوا - أيها الأبناء - ما تزوج آباؤكم من النساء ، إنه كان أمراً فاحش القبح ، يمقته الله والناس ، وهو أسوأ سبيل ومقصد ، وأن الله يعفو عما قد سلف منكم في زمن الجاهلية{[40]} .
ثم قال تعالى : { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا }
أي : لا تتزوجوا من النساء ما تزوجهن آباؤكم أي : الأب وإن علا . { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } أي : أمرا قبيحا يفحش ويعظم قبحه { وَمَقْتًا } من الله لكم ومن الخلق بل يمقت بسبب ذلك الابن أباه والأب ابنه ، مع الأمر ببره .
{ وَسَاءَ سَبِيلًا } أي : بئس الطريق طريقا لمن سلكه لأن هذا من عوائد الجاهلية ، التي جاء الإسلام بالتنزه عنها والبراءة منها .
وبعد أن نهى - سبحانه - عن ظلم المرأة فى حال الزوجية . وعن ظلمها بعد وفاة زوجها . وعن ظلمها فى حالة فراقها . وأمر بمعاشرتها بالمعروف بعد كل ذلك بين - سبحانه - من لا يحل الزواج بهن من النساء ومن يحل الزواج بهن حتى تبقى للأسرة قوتها ومودتها فقال - تعالى- { وَلاَ تَنكِحُواْ . . . . عَلِيماً حَكِيماً
وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا ( 22 ) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ( 23 ) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ( 24 )
أورد المفسرون روايات فى سبب نزول قوله - تعالى - { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء } الآية .
ومن هذه الروايات ما رواه ابن أبى حاتم - بسنده - " عن رجل من الأنصار قال : لما توفى أبو قيس - يعنى ابن الأسلت - وكان من صالحى الأنصار ، فخطب ابنه قيس امرأته فقال : إنما أعدك ولدا لى وأنت من صالحى قومك ، ولكنى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأمره .
فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أبا قيس توفى . فقال : " خيرا " . ثم قالت إن ابنه قيسا خطبنى وهو من صالحى قومه ، وإنما كنت أعده ولدا لى فماذا ترى ؟ فقال لها : " ارجعي إلى بيتك " فنزلت : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } .
وقال القرطبى : قوله - تعالى - : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء } يقال : كان الناس يتزوجون امرأة الأب برضاها بعد نزول قوله - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } حتى نزلت هذه الآية { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } فصار حراما فى الأحوال كلها ، لأن النكاح يقع على الجماع والتزوج ، فإن كان الأب تزوج امرأة وطئها يغير نكاح حرمت على ابنه .
ثم قال : وقد كان فى العرب قبائل قد اعتادت أن يخلف ابن الرجل على امرأة أبيه . وكانت هذه السيرة فى الأنصار لازمة ، وكانت فى قريش مباحة على التراضى ، فنهى الله المؤمنين عما كان عليه آباؤهم من هذه السيرة .
وقوله { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } الخ . معطوف على قوله : { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } و { مَا } فى قوله { مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } موصول اسمى مراد به الجنس . أى لا تنكحوا التى نكح آباؤكم . وقوله { مِّنَ النسآء } بيان ل { مَا } الموصولة .
ويرى بعضهم أن " ما " هنا مصدرية فيكون المعنى . ولا تنحوا نكاحا مثل نكاح آبائكم الفاسد الذى كانوا يفعلونه فى الجاهلية .
قال الآلوسى . وإنما خص هذا النكاح بالنهى ، ولم ينظم فى سلك نكاح المحرمات الآتية " ومبالغة فى الزجر عنه . حيث كان ذلك ديدنا لهم فى الجاهلية " .
فالآية الكريمة تحرم على الأبناء أن يتزوجوا من النساء اللائى كن أزواجا لآبائهم . وكلمة { آبَاؤُكُمْ } فى قوله { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } تشمل كل الأصول من الرجال . أي : تشمل الأجداد جميعا سواء أكانوا من جهة الأب أو من جهة الأم والاستثناء فى قوله { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } استثناء منقطع .
والمعنى : لا تنكحوا أيها المؤمنون ما نكح آباؤكم من النساء . لأنه من أفعال الجاهلية القبيحة ، لكن ما قد سلف ومضى منه قبل نزول هذه الآية فلا تؤاخذون عليه ، فمن كان متزوجا من امرأة كانت زوجة لأبيه من النسب أو من الرضاع ، فإنها تصير حراما عليه من وقت نزول هذه الآية الكريمة ، ويجب عليه أن يفارقها أما ما مضى من هذا النكاح القبيح فلا تثريب عليكم فيه ، وتثبت به أحكام النكاح من النسب وغيره من الأحكام .
ويرى بعضهم أن الاستثناء هنا متصل مما يستلزمه النهى ، ويستوجبه مباشرة المنهى عنه من العقاب . فكأنه قيل : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء فإنه قبيح ومعاقب عليه من الله - تعالى - ، إلا ما قد سلف ومضى ، فإنه معفو عنه .
وقد وجه صاحب الكشاف الاستثناء بوجه آخر فقال : فإن قلت : كيف استثنى ما قد سلف مما نكح آباؤهم ؟ قلت : كما استثنى " غير أن سيوفهم " من قول الشاعر :
" ولا عيب فيهم " غير أن سيوفهم . . . بهن قلول من قراع الكتائب
يعنى : إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه ، فإنه لا يحل لكم غيره ، وذلك غير ممكن والغرض المبالغة فى تحريمه ، وسد الطريق إلى إباحته كما يعلق بالمحال فى التأييد نحو قولهم : حتى يبيض الفأر . وحتى يلج الجمل فى سم الخياط .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة ببيان أن هذا النوع من النكاح فى نهاية السوء والقبح فقال : { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً } .
أى : إن هذا النوع من النكاح كان أمراً زائدا فى القبح شرعا وخلقاً ، لأنه يشبه نكاح الأمهات ، ويتنافى مع ما للآباء من وقار واحترام ، وما يجب من حسن الصحبة وكان " مقتا " والمقت مصدر بمعنى البغض والكراهية .
أى : إن هذا النوع من النكاح كان خصلة بالغة الحد فى القبح والفحش ، وكان ممقوتا مبغوضا عند الله ، وعند ذوى المروءات والعقول السليمة من الناس .
قال صاحب الكشاف : كانوا ينكحون روابهم - أى زوجات آبائهم جمع رابة وهى امرأة الأب - وكان ناس منهم من ذوى مروءاتهم يمقتونه - لفظاعته وبشاعته - ويسمونه نكاح المقت . وكان المولود عليه يقال له المقتى - أى المبغوض - ومن ثم قيل { وَمَقْتاً } كأنه قيل : هو فاحشة فى دين الله بالغة فى القبح . قبيح ممقوت فى المروءة . ولا مزيد على ما يجمع القبحين .
وقوله : { وَسَآءَ سَبِيلاً } أى بئس طريقا طريق ذلك النكاح ، إذ فيه هتك حرمة الأب . وتقطيع للرحم التى أمر الله بوصلها .
وقوله " وساء " هنا بمعنى بئس ، وفيه ضمير يفسره ما بعده . والمخصوص بالذم محذوف تقديره ذلك ؛ أى ساء سبيلا سبيل ذلك النكاح .
قال الفخر الرازى : أعلم أنه - سبحانه - قد وصف هذا النكاح بأمور ثلاثة :
أولها : أنه فاحشة لأن زوجة الأب تشبه الأم فمباشرتها من افحش الفواحش .
وثانيها : المقت : وهو عبارة عن بغض مقرون باستحقار .
وثالثها : قوله { وَسَآءَ سَبِيلاً } .
واعلم أن مراتب القبح ثلاثة : القبح فى العقول وفى الشرائع وفى العادات .
فقوله - تعالى - { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } إشارة الى القبح العقلى . وقوله { وَمَقْتاً } إشارة إلى القبح الشرعى . وقوله { وَسَآءَ سَبِيلاً } إشارة إلى القبح فى العرف والعادة . ومتى اجتمعت فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية فى القبح .
وقال الإِمام ابن كثير ، فمن تعاطى هذا النكاح بعد ذلك - أى استباح تعاطيه - فقد ارتد عن دينه فيقتل ويصير ماله فيئا لبيت المال . لما رواه الإِمام أحمد وأهل السنن من طرق عن البراء بن عازب أنه بعثه رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم - إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده ، فأمره أن يقتله ويأخذ ماله .
وفى رواية عن البراء قال ، مرّ بى عمى الحارث بن عمير ومعه لواء قد عقده له النبى صلى الله عليه وسلم فقلت له ، أى عم ، أين بعثك النبى صلى الله عليه وسلم فقال ، بعثنى إلى رجل تزوج امرأة أبيه فأمرنى أن أضرب عنقه .
وفي نهاية هذه الفقرة يحرم تحريما باتا - مع التفظيع والتبشيع - أن ينكح الأبناء ما نكح آباؤهم من النساء . وقد كان ذلك في الجاهلية حلالا . وكان سببا من أسباب عضل النساء أحيانا ، حتى يكبر الصبي فيتزوج امرأة أبيه ، أو إن كان كبيرا تزوجها بالوراثة كما يورث الشيء ! فجاء الإسلام يحرم هذا الأمر أشد التحريم :
( ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء - إلا ما قد سلف - إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ) . .
ويبدو لنا من حكمة هذا التحريم ثلاثة اعتبارات - وإن كنا نحن البشر لا نحيط بكل حكمة التشريع ، ولا يتوقف خضوعنا له ، وتسليمنا به ، ورضاؤنا إياه على إدراكنا أو عدم إدراكنا لهذه الحكمة ، فحسبنا أن الله قد شرعه ، لنستيقن أن وراءه حكمة ، وأن فيه المصلحة .
نقول : يبدو لنا من حكمة هذا التحريم ثلاثة اعتبارات : الأول أن امرأة الأب في مكان الأم . والثاني : ألا يخلف الابن أباه ؛ فيصبح في خياله ندا له . وكثيرا ما يكره الزوج زوج امرأته الأول فطرة وطبعا ، فيكره أباه ويمقته ! والثالث : ألا تكون هناك شبهة الإرث لزوجة الأب . الأمر الذي كان سائدا في الجاهلية . وهو معنى كريه يهبط بإنسانية المرأة والرجل سواء . وهما من نفس واحد ، ومهانة أحدهما مهانة للآخر بلا مراء .
لهذه الاعتبارات الظاهرة - ولغيرها مما يكون لم يتبين لنا - جعل هذا العمل شنيعا غاية الشناعة . . جعله فاحشة . وجعله مقتا : أي بغضا وكراهية . وجعله سبيلا سيئا . . إلا ما كان قد سلف منه في الجاهلية ، قبل أن يرد في الإسلام تحريمه . فهو معفو عنه . متروك أمره لله سبحانه . .
{ ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم } ولا تنكحوا التي نكحها آباؤكم ، وإنما ذكر ما دون من لأنه أريد به الصفة ، وقيل ما مصدرية على إرادة المفعول من المصدر . { من النساء } بيان ما نكح على الوجهين . { إلا ما قد سلف } استثناء من المعنى اللازم للنهي وكأنه قيل : وتستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف ، أو من اللفظ للمبالغة في التحريم والتعميم كقوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب
والمعنى ولا تنكحوا حلائل آبائكم إلا ما قد سلف إن أمكنكم أن تنكحوهن . وقيل الاستثناء منقطع ومعناه لكن ما قد سلف ، فإنه لا مؤاخذة عليه لأنه مقرر . { إنه كان فاحشة ومقتا } علة للنهي أي إن نكاحهن كان فاحشة عند الله ما رخص فيه لأمة من الأمم ، ممقوتا عند ذوي المروءات ولذلك سمي ولد الرجل من زوجة أبيه المقتي { وساء سبيلا } سبيل من يراه ويفعله .
هذه الآية مخاطبة للمؤمنين من العرب في مدة نزول الآية ومعنى الآية : والتحريم الذي بعدها مستقر على المؤمنين أجمع ، وسبب الآية : أن العرب كان منهم قبائل قد اعتادت أن يخلف الرجل على امرأة ابيه ، على ما ذكرناه من أمر أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس ، ومن ذلك خبر أبي قيس بن الأسلت ، ومن ذلك صفوان بن أمية بن خلف ، تزوج بعد أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسد ، وكانت امرأة أبيه قتل عنها ، ومن ذلك منظور بن زيان ، خلف على مليكة بنت خارجة ، وكانت عند أبيه زيان بن سيار ، إلى كثير من هذا ، وقد كان في العرب من تزوج ابنته ، وهو حاجب بن زرارة ، تمجس وفعل هذه الفعلة ، ذكر ذلك النضر بن شميل في كتاب المثالب : فنهى الله المؤمنين عما كان عليه آباؤهم من هذه السير ، وقال ابن عباس : كان أهل الجاهلية يحرمون ما يحرم ، إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين ، فنزلت هذه الآية في ذلك واختلف المتأولون في مقتضى ألفاظ الآية ، فقالت فرقة : قوله : { ما نكح } يراد به النساء . أي لا تنكحوا النساء اللواتي نكح آباؤكم ، وقوله : { إلا ما قد سلف } معناه : لكن ما قد سلف فدعوه ، وقال بعضهم المعنى لكن ما قد سلف فهو معفو عنكم لمن كان واقعه ، فكأنه قال تعالى ولا تفعلوا حاشا ما قد سلف ، ف { ما } على هذا القول واقعة على من يعقل من حيث هؤلاء النساء صنف من أصناف من يعقل ، وما تقع للأصناف والأوصاف ممن يعقل ، وقالت فرقة : قوله : { ما نكح } يراد به فعل الآباء ، أي لا تنكحوا كما نكح آباؤكم من عقودهم الفاسدة ، وقوله : { إلا ما قد سلف } معناه إلا ما تقدم منكم ووقع من تلك العقود الفاسدة فمباحة لكم الإقامة عليه في الإسلام ، إذا كان مما يقرر الإسلام عليه من جهة القرابة ، ويجوزه الشرع أن لو ابتدىء نكاحه في الإسلام على سنته ، وقيل : معنى { إلا ما قد سلف } أي فهو معفو عنكم .
قال القاضي أبو محمد : و { ما } على هذا مصدرية ، وفي قراءة أبيّ بن كعب «إلا ما قد سلف إلا من تاب » .
قال القاضي أبو محمد : وكذلك حكاه أبو عمرو الداني ، وقال ابن زيد : معنى الآية : النهي عن أن يطأ الرجل امرأة وطئها الآباء ، «إلا ما قد سلف » من الآباء في الجاهلية من الزنا ، لا على وجه المناكحة ، فذلك جائز لكم زواجهم في الإسلام ، لأن ذلك الزنا كان فاحشة ومقتاً ، قال ابن زيد : فزاد في هذه الآية المقت ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في تأويل هذه الآية : كل امرأة تزوجها أبوك أو ابنك دخل أو لم يدخل ، فهي عليك حرام و { كان } في هذه الآية : كل امرأة تزوجها أبوك أبو ابنك دخل أو لم وذلك خطأ يرد عليه وجود الخبر منصوباً ، والمقت : البغض والاحتقار بسبب رذيلة يفعلها الممقوت ، فسمى تعالى هذا النكاح { مقتاً } إذ هو ذا مقت يلحق فاعله ، وقال أبو عبيدة وغيره : كانت العرب تسمي الولد الذي يجيء من زوج الوالد المقتي ، وقوله : { وساء سبيلاً } أي بئس الطريق والمنهج لمن يسلكه ، إذ عاقبته إلى عذاب الله .
عطف على جملة { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً } [ النساء : 19 ] ، والمناسبة أنّ من جملة أحوال إرثهم النساء كرها ، أن يكون ابن الميّت أولى بزوجة أبيه ، إذا لم تكن أمَّهُ ، فنهوا عن هذه الصورة نهياً خاصّاً مغلّظاً ، وتُخلّص منه إلى إحصاء المحرّمات .
و { ما نَكح } بمعنى الذي نكح مراد به الجنس ، فلذلك حسن وقع { ما } عوض ( مَن ) لأنّ ( مَن ) تكثير في الموصول المعلوم ، على أنّ البيان بقوله : { من النساء } سوّى بين ( ما ومن ) فرجحت ( مَا ) لخفّتها ، والبيان أيضاً يعيّن أن تكون ( ما ) موصولة . وعدل عن أن يقال : لا تنكحوا نساء آبائكم ليدلّ بلفظ نكح على أنّ عقد الأب على المرأة كاف في حرمة تزوّج ابنه إياها . وذكر { من النساء } بيان لكون ( ما ) موصولة .
والنهي يتعلّق بالمستقبل ، والفعل المضارع مع النهي مدلوله إيجاد الحدث في المستقبل ، وهذا المعنى يفيد النهي عن الاستمرار على نكاحهنّ إذا كان قد حصل قبل ورود النهي . والنكاح حقيقة في العقد شرعا بين الرجل والمرأة على المعاشرة والاستمتاع بالمعنى الصحيح شرعاً ، وتقدّم أنّه حقيقة في هذا المعنى دون الوطء عند تفسير قوله تعالى : { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } في سورة البقرة ( 230 ) ، فحرام على الرجل أن يتزوَّج امرأةً عقَد أبوه عليها عقد نكاح صحيح ، ولو لم يدخل بها ، وأمّا إطلاق النكاح على الوطء بعقد فقد حمل لفظَ النكاح عليه بعضُ العلماء ، وزعموا أنَّ قوله تعالى : { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } أُطلِق فيه النكاح على الوطء لأنّها لا يُحلّها لمطلّقها ثلاثاً مجرّد العقد أي من غير حاجة إلى الاستعانة ببيان السنّة للمقصود من قوله : { تنكح } وقد بيّنت ردّ ذلك في سورة البقرة عند قوله تعالى : { فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } .
وأما الوَطْءُ الحرام من زنى فكونه من معاني النكاح في لغة العرب دعوى واهية .
وقد اختلف الفقهاء فيمن زنى بامرأة هل تحرم على ابنه أو على أبيه . فالذي ذهب إليه مالك في « الموطأ » ، والشافعي : أنّ الزنى لا ينشر الحرمة ، وهذا الذي حكاه الشيخ أبو محمد بن أبي زيد في « الرسالة » ، ويُروى ذلك عن عكرمة عن ابن عباس ، وهو قول الزهري ، وربيعة ، والليث . وقال أبو حنيفة ، وابن الماجشون من أصحاب مالك : الزنى ينشر الحرمة . قال ابن الماجشون : مات مالك على هذا . وهو قول الأوزاعي والثوري . وقال ابن الموّاز : هُو مكروه ، ووقع في المدوّنة ( يفارقها ) فحمله الأكثر على الوجوب . وتأوّله بعضهم على الكراهة . وهذه المسألة جرت فيها مناظرة بين الشافعي ومحمد بن الحسن أشار إليها الجصّاص في أحكامه ، والفخرُ في مفاتيح الغيب ، وهي طويلة .
و { ما قد سلف } هو ما سبق نزولَ هذه الآية أي إلاّ نكاحاً قد سلف فتعيّن أنّ هذا النكاح صار محرَّماً . ولذلك تعيّن أن يكون الاستثناء في قوله : { إلا ما قد سلف } مؤوَّلا إذ ما قد سلف كيف يستثنى من النهي عن فعله وهو قد حصل ، فتعيّن أنّ الاستثناء يرجع إلى ما يقتضيه النهي من الإثم ، أي لا إثم عليكم فيما قد سلف . ثم ينتقل النظر إلى أنّه هل يقرّر عليه فلا يفرّق بين الزوجين اللذين تزوّجا قبل نزول الآية ، وهذا لم يقل به إلاّ بعض المفسّرين فيما نقله الفخر ، ولم أقف على أثر يُثبت قضية معيّنة فرّق فيها النبي صلى الله عليه وسلم بين رجل وزوج أبيه ممّا كان قبل نزول الآية ، ولا على تعيين قائل هذا القول ، ولعل الناس قد بادروا إلى فراق أزواج الآباء عند نزول هذه الآية .
وقد تزوّج قبل الإسلام كثير أزواجَ آبائهم : منهم عُمر بن أمية بن عبد شمس ، خلف على زوج أبيه أميّة كما تقدّم ، ومنهم صفوان بن أمية بن خلف تزوج امرأة أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسد ، ومنهم منظور بن ريان بن سيار ، تزوّج امرأة أبيه مُلكية بنت خارجة ، ومنهم حصن بن أبي قيس ، تزوّج بعد أبي قيس زوجه ، ولم يُرْوَ أنّ أحداً من هؤلاء أسلم وقرّر على نكاح زوج أبيه .
وجوّزوا أن يكون الاستثناء من لازم النهي وهو العقوبة أي لا عقوبة على ما قد سلف . وعندي أنّ مثل هذا ظاهر للناس فلا يحتاج للاستثناء ، ومتى يظنّ أحد المؤاخذة عن أعمال كانت في الجاهلية قبل مجيء الدين ونزول النهي .
وقيل : هو من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه : أي إن كنتم فاعلين منه فانكحوا ما قد سلف من نساء الآباء البائدة ، كأنّه يوهم أنه يرخّص لهم بعضه ، فيجد السامع ما رخّص له متعذّراً فيتأكّد النهي كقول النابغة :
ولا عيب فيهم غيرَ أَنّ سيُوفَهم *** بهنّ فُلول من قِراع الكتائب
وقولهم ( حتّى يؤوب القارظان ) و ( حتّى يشيب الغراب ) وهذا وجه بعيد في آيات التشريع .
والظاهر أنّ قوله : { إلا ما قد سلف } قصد منه بيان صحّة ما سلف من ذلك في عهد الجاهلية ، وتعذّرَ تداركه الآن ، لموت الزوجين ، من حيث إنّه يترتّب عليه . ثبوت أنساب ، وحقوق مهور ومواريث ، وأيضاً بيان تصحيح أنساب الذين ولدوا من ذلك النكاح ، وأنّ المسلمين انتدبوا للإقلاع عن ذلك اختياراً منهم ، وقد تأوّل سائر المفسّرين قوله تعالى : { إلا ما قد سلف } بوجوه ترجع إلى التجوّز في معنى الاستثناء أو في معنى : { ما نكح } ، حَمَلَهم عليها أنّ نكاح زوج الأب لم يقرّره الإسلام بعد نزول الآية ، لأنّه قال : { إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً } أي ومثل هذا لا يقرّر لأنّه فاسد بالذات .
والمقت اسم سَمَّتْ به العرب نكاح زوج الأب فقالوا نكاح المقت أي البغض ، وسمّوا فاعل ذلك الضيزن ، وسمَّوْا الابنَ من ذلك النكاح مَقيتا .