{ 2-4 } { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }
المراد بالأميين : الذين لا كتاب عندهم ، ولا أثر رسالة من العرب وغيرهم ، ممن ليسوا من أهل الكتاب ، فامتن الله تعالى عليهم ، منة عظيمة ، أعظم من منته على غيرهم ، لأنهم عادمون للعلم والخير ، وكانوا في ضلال مبين ، يتعبدون للأشجار والأصنام والأحجار ، ويتخلقون بأخلاق السباع الضارية ، يأكل قويهم ضعيفهم ، وقد كانوا في غاية الجهل بعلوم الأنبياء ، فبعث الله فيهم رسولاً منهم ، يعرفون نسبه ، وأوصافه الجميلة وصدقه ، وأنزل عليه كتابه { يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } القاطعة الموجبة للإيمان واليقين ، { وَيُزَكِّيهِمْ } بأن يحثهم على الأخلاق الفاضلة ، ويفصلها لهم ، ويزجرهم عن الأخلاق الرذيلة ، { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } أي : علم القرآن{[1092]} وعلم السنة ، المشتمل ذلك علوم الأولين والآخرين ، فكانوا بعد هذا التعليم والتزكية منه أعلم الخلق ، بل كانوا أئمة أهل العلم والدين ، وأكمل الخلق أخلاقًا ، وأحسنهم هديًا وسمتًا ، اهتدوا بأنفسهم ، وهدوا غيرهم ، فصاروا أئمة المهتدين ، وهداة المؤمنين{[1093]} ، فلله عليهم ببعثه هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ، أكمل نعمة ، وأجل منحة .
ثم بين - سبحانه - جانبا من مظاهر فضله على خلقه ، فقال : { هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة . . . } .
وقوله : { الأميين } جمع أمى ، وهو صفة لموصوف محذوف . أى : فى الناس أو فى القوم الأميين ، والمراد بهم العرب ، لأن معظمهم كانوا لا يعرفون القراءة والكتابة .
وسمى من لا يعرف القراءة والكتابة بالأمى ، لغلبة الأمية عليه ، حتى لكأن حاله بعد تقدمه فى السن ، كحاله يوم ولدته أمه فى عدم معرفته للقراء ة والكتابة .
و " من " فى قوله - تعالى - : { مِّنْهُمْ } للتبعيض ، باعتبار أنه واحد منهم ، ويشاركهم فى بعض صفاتهم وهى الأمية .
وقوله : { يَتْلُواْ . . . } من التلاوة ، وهى القراءة المتتابعة المرتلة ، التى يكون بعضها تلو بعض .
وقوله : { وَيُزَكِّيهِمْ } من التزكية بمعنى التطهير والتنقية من السوء والقبائح .
والمراد بالكتاب : القرآن ، والمراد بتعليمه : بيان معانيه وحقائقه ، وشرح أحكامه وأوامره ونواهيه .
والمراد بالحكمة : العلم النافع ، المصحوب بالعمل الصالح ، وفى وضعها إلى جانب الكتاب إشارة إلى أن المقصود بها السنة النبوية المطهرة ، إذ بالكتاب وبالسنة ، يعرف الناس أصلح الأقوال والأفعال ، وأعدل الأحكام وأقوم الآداب ، وأسمى الفضائل .
أى : هو - سحبانه - وحده ، الذى { بَعَثَ } بفضله وكرمه ، { فِي } العرب { الأميين رَسُولاً } كريما عظيما ، كائنا { مِّنْهُمْ } أى : من جنسهم يعرفون حسبه ونسبه وخلقه . . . هذا الرسول الكريم أرسلناه إليهم ، ليقرأ عليهم آيات الله - تعالى - التى أنزلها عليه لهدايتهم وسعادتهم ، متى آمنوا بها ، وعملوا بما اشتملت عليه من توجيهات سامية .
وأرسلناه إليهم - أيضا - ليزكيهم ، أى : وليطهرهم من الكفر والقبائح والمنكرات وليعلمهم الكتاب ، بأن يحفظهم إياه ، ويشرح لهم أحكامه ، ويفسر لهم ما خفى عليهم من ألفاظه ومعانيه .
وليعلمهم - أيضا - الحكمة . أى : العلم النافع المصحوب بالعمل الطيب وصدر - سبحانه - الآية الكريمة بضمير اسم الجلالة ، لتربية المهابة فى النفوس ، ولتقوية ما اشتملت عليه من نعم وأحكام ، إذ هو - سبحانه - وحده الذى فعل ذلك لا غيره .
وعبر - سبحانه - بفى المفيدة للظرفية فى قوله - تعالى - : { فِي الأميين } . للإشعار بأن هذا الرسول الكريم الذى أرسله إليهم ، كان مقيما فيهم ، وملازما لهم ، وحريصا على أن يبلغهم رسالة الله - تعالى - فى كل الأوقات والأزمان .
والتعبير بقوله : { مِّنْهُمْ } فيه ما فيه من دعوتهم إلى الإيمان به ، لأن هذا الرسول الكريم ، ليس غريبا عنهم ، بل هو واحد منهم شرفهم من شرفه ، وفضلهم من فضله . . .
وهذه الآية الكريمة صريحة فى أن الله - تعالى - قد استجاب دعوة نبيه إبراهيم - عليه السلام - عندما دعاه بقوله : { رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم . . } وقد جاء ترتيب هذه الآية الكريمة وأمثالها فى أسمى درجات البلاغة والحكمة ، لأن أول مراحل تبليغ الرسالة ، يكون بتلاوة القرآن ، ثم ثنى - سبحانه - بتزكيه النفوس من الأرجاس ، ثم ثلث بتعليم الكتاب والحكمة لأنهما يكونان بعد التبليغ والتزكية للنفوس .
ولذا قالوا : إن تعليم الكتاب غير تلاوته ، لأن تلاوته معناها ، قراءته قراءة مرتلة ، أما تعليمه فمعناه : بيان أحكامه ، وشرح ما خفى من ألفاظه وأحكامه . . .
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة ، قد اشتملت على جملة من الصفات الجليلة التى منحها - سبحانه - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك حال الناس قبل بعثته - صلى الله عليه وسلم - فقال : { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } .
وهذه الجملة الكريمة فى موضع الحال من قوله : { هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين . . } و " إن " فى قوله { وَإِن كَانُواْ . . } مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف .
أى : هو - سبحانه - بفضله وكرمه ، الذى بعث فى الأميين رسولا منهم ، وحالهم أنهم كانوا قبل إرسال هذا الرسول الكريم فيهم ، فى ضلال واضح لا يخفى أمره على عاقل ، ولا يلتبس قبحه على ذى ذوق سليم وحقا لقد كان الناس قبل أن يبزغ نور الإسلام ، الذى جاء به النبى - صلى الله عليه وسلم - من عند ربه ، فى ضلال واضح ، وظلام دامس ، من حيث العقائد والعبادات ، والأخلاق والمعاملات .
فكان من رحمة الله - تعالى - بهم ، أن أرسل فيهم رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - لكى يخرجهم من ظلمات الكفر والفسوق والعصيان ، إلى نور الهداية والاستقامة والإيمان .
ثم يبدأ في موضوع السورة الرئيسي :
( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين . وآخرين منهم لما يلحقوا بهم ، وهو العزيز الحكيم ) . .
قيل إن العرب سموا الأميين لأنهم كانوا لا يقرأون ولا يكتبون - في الأعم الأغلب - وروي عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] أنه قال : الشهر هكذا وهكذا وهكذا وأشار بأصابعه وقال : " إنا نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب " . . وقيل : إنما سمي من لا يكتب أميا لأنه نسب إلى حال ولادته من الأم ، لأن الكتابة إنما تكون بالاستفادة والتعلم .
وربما سموا كذلك كما كان اليهود يقولون عن غيرهم من الأمم : إنهم " جوييم " باللغة العبرية أي أمميون . نسبة إلى الأمم - بوصفهم هم شعب الله المختار وغيرهم هم الأمم ! - والنسبة في العربية إلى المفرد . . أمة . . أميون . وربما كان هذا أقرب بالنسبة إلى موضوع السورة .
ولقد كان اليهود ينتظرون مبعث الرسول الأخير منهم ، فيجمعهم بعد فرقة ، وينصرهم بعد هزيمة ، ويعزهم بعد ذل . وكانوا يستفتحون بهذا على العرب ، أي يطلبون الفتح بذلك النبي الأخير .
ولكن حكمة الله اقتضت أن يكون هذا النبي من العرب ، من الأميين غير اليهود ؛ فقد علم الله أن يهود قد فرغ عنصرها من مؤهلات القيادة الجديدة الكاملة للبشرية - كما سيجيء في المقطع التالي في السورة - وأنها زاغت وضلت كما جاء في سورة الصف . وأنها لا تصلح لحمل الأمانة بعدما كان منها في تاريخها الطويل !
وكانت هناك دعوة إبراهيم خليل الرحمن - عليه الصلاة والسلام - تلك الدعوة التي أطلقها في ظل البيت هو وإسماعيل عليه السلام : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل . . ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ، ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم . ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم . إنك أنت العزيز الحكيم ) . .
كانت هناك هذه الدعوة من وراء الغيب ، ومن وراء القرون ، محفوظة عند الله لا تضيع ، حتى يجيء موعدها المقدور في علم الله ، وفق حكمته ؛ وحتى تتحقق في وقتها المناسب في قدر الله وتنسيقه ، وحتى تؤدي دورها في الكون حسب التدبير الإلهي الذي لا يستقدم معه شيء ، ولا يستأخر عن موعده المرسوم .
وتحققت هذه الدعوة - وفق قدر الله وتدبيره - بنصها الذي تعيده السورة هنا لتذكر بحكاية ألفاظ إبراهيم . . ( رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ) . . كما قال إبراهيم ! حتى صفة الله في دعاء إبراهيم : ( إنك أنت العزيز الحكيم )هي ذاتها التي تعقب على التذكير بمنة الله وفضله هنا : ( وهو العزيز الحكيم ) .
وقد سئل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] عن نفسه فقال : " دعوة أبي إبراهيم . وبشرى عيسى . ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام " .
( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) . .
والمنة ظاهرة في اختيار الله للأميين ليجعلهم أهل الكتاب المبين ؛ وليرسل فيهم رسولا منهم ، يرتفعون باختياره منهم إلى مقام كريم ؛ ويخرجهم من أميتهم أو من أمميتهم بتلاوة آيات الله عليهم ، وتغيير ما بهم ، وتمييزهم على العالمين . .
( ويزكيهم ) . . وإنها لتزكية وإنه لتطهير ذلك الذي كان يأخذهم به الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] تطهير للضمير والشعور ، وتطهير للعمل والسلوك ، وتطهير للحياة الزوجية ، وتطهير للحياة الاجتماعية . تطهير ترتفع به النفوس من عقائد الشرك إلى عقيدة التوحيد ؛ ومن التصورات الباطلة إلى الاعتقاد الصحيح ، ومن الأساطير الغامضة إلى اليقين الواضح . وترتفع به من رجس الفوضى الأخلاقية إلى نظافة الخلق الإيماني . ومن دنس الربا والسحت إلى طهارة الكسب الحلال . . إنها تزكية شاملة للفرد والجماعة ولحياة السريرة وحياة الواقع . تزكية ترتفع بالإنسان وتصوراته عن الحياة كلها وعن نفسه ونشأته إلى آفاق النور التي يتصل فيها بربه ، ويتعامل مع الملأ الأعلى ؛ ويحسب في شعوره وعمله حساب ذلك الملأ العلوي الكريم .
( ويعلمهم الكتاب والحكمة ) . . يعلمهم الكتاب فيصبحون أهل كتاب . ويعلمهم الحكمة فيدركون حقائق الأمور ، ويحسنون التقدير ، وتلهم أرواحهم صواب الحكم وصواب العمل وهو خير كثير .
( وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) . . ضلال الجاهلية التي وصفها جعفر بن أبي طالب لنجاشي الحبشة حين بعثت قريش إليه عمرو بن العاص وعبدالله بن أبي ربيعة ليكرهاه في المهاجرين من المسلمين ، ويشوها موقفهم عنده ، فيخرجهم من ضيافته وجيرته . . فقال جعفر :
" أيها الملك . كنا قوما أهل جاهلية . نعبد الأصنام ، ونأكل الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطع الأرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكل القوي منا الضعيف . . فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه . فدعانا إلى الله لنوحده ولنعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ؛ وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء . ونهانا عن الفواحش وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات . وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام " . .
ومع كل ما كانوا عليه في الجاهلية من ضلال فقد علم الله أنهم هم حملة هذه العقيدة الأمناء عليها ، بما علم في نفوسهم من استعداد للخير والصلاح ؛ ومن رصيد مذخور للدعوة الجديدة ؛ وقد فرغت منه نفوس اليهود التي أفسدها الذل الطويل في مصر ، فامتلأت بالعقد والالتواءات والانحرافات ، ومن ثم لم تستقيم أبدا بعد ذلك ، لا في حياة موسى عليه السلام ، ولا من بعده . حتى كتب الله عليهم لعنته وغضبه ، وانتزع من أيديهم أمانة القيام على دينه في الأرض إلى يوم القيامة .
وعلم الله أن الجزيرة في ذلك الأوان هي خير مهد للدعوة التي جاءت لتحرير العالم كله من ضلال الجاهلية ، ومن انحلال الحضارة في الامبراطوريات الكبيرة ، التي كان سوس الانحلال قد نخر فيها حتى اللباب ! هذه الحالة التي يصفها كاتب أوربي حديث فيقول :
" ففي القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدين على شفا جرف هار من الفوضى . لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت ، ولم يك ثم ما يعتد به مما يقوم مقامها . وكان يبدو إذ ذاك أن المدنية الكبرى التي تكلف بناؤها أربعة آلاف سنة ، مشرفة على التفكك والانحلال ؛ وأن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية ، إذ القبائل تتحارب وتتناحر ، لا قانون ولا نظام . أما النظم التي خلقتها المسيحية فكانت تعمل على الفرقة والانهيار بدلا من الاتحاد والنظام . وكانت المدنية ، كشجرة ضخمة متفرعة امتد ظلها إلى العالم كله ، واقفة تترنح وقد تسرب إليها العطب حتى اللباب . . . وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد الرجل الذي وحد العالم جميعه " . .
وهذه الصورة مأخوذة من زاوية النظر لكاتب أوربي . وهي من زاوية النظر الإسلامية أشد عتاما وظلاما !
وقد اختار الله - سبحانه - تلك الأمة البدوية في شبه الجزيرة الصحراوية لتحمل هذا الدين ، بما علم في نفوسها وفي ظروفها من قابلية للاستصلاح وذخيرة مرصودة للبذل والعطاء . فأرسل فيهم الرسول يتلو عليهم آيات الله ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة . وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين .
وقوله تعالى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ } الأميون هم : العرب كما قال تعالى : { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [ آل عمران : 314 ] وتخصيص الأميين بالذكر لا ينفي من عداهم ، ولكن المنة عليهم أبلغ وآكد ، كما في قوله : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] وهو ذكر لغيرهم يتذكرون به . وكذا قوله : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ } [ الشعراء : 214 ] وهذا وأمثاله لا ينافي قوله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف : 158 ] وقوله : { لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] وقوله إخبارا عن القرآن : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [ هود : 17 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق{[28804]} أحمرهم وأسودهم ، وقد قدمنا تفسير ذلك في سورة الأنعام ، بالآيات والأحاديث الصحيحة ، ولله الحمد والمنة .
وهذه الآية هي مصداق إجابة الله لخليله إبراهيم ، حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة . فبعثه الله سبحانه وتعالى وله الحمد والمنة ، على حين فترة من الرسل ، وطُمُوس من السبل ، وقد اشتدت الحاجة إليه ، وقد مقت الله أهلَ الأرض عربهم وعجمهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب - أي : نزرا يسيرا - ممن تمسك بما بعث الله به عيسى ابن مريم عليه السلام ؛ ولهذا قال تعالى : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } وذلك أن العرب كانوا [ قديما ] {[28805]} متمسكين بدين إبراهيم [ الخليل ] {[28806]} عليه السلام فبدلوه وغيروه ، وقلبوه وخالفوه ، واستبدلوا بالتوحيد شركا{[28807]} وباليقين شكا ، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله{[28808]} وكذلك أهل الكتابين قد بدلوا كتبهم وحرفوها وغيروها وأولوها ، فبعث الله محمدًا صلوات الله وسلامه عليه بشرع عظيم كامل شامل لجميع الخلق ، فيه هدايتهم ، والبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمر معاشهم ومعادهم ، والدعوة لهم إلى ما يقربهم إلى الجنة ، ورضا الله عنهم ، والنهي عما يقربهم إلى النار وسخط الله . حاكم ، فاصل لجميع الشبهات والشكوك والريب في الأصول والفروع . وجمَعَ له تعالى ، وله الحمد والمنة ، جميع المحاسن ممن كان قبله ، وأعطاه ما لم يُعطِ أحدًا من الأولين ، ولا يعطيه أحدًا من الآخرين ، فصلوات الله وسلامه عليه [ دائمًا ] {[28809]} إلى يوم الدين .
و { الأميين } : يراد بهم العرب ، والأمي في اللغة الذي لا يكتب ولا يقرأ كتاباً ، قيل هو منسوب إلى الأم ، أي هو على الخلقة الأولى في بطن أمه ، وقيل هو منسوب إلى الأمة ، أي على سليقة البشر دون تعلم ، وقيل منسوب إلى أم القرى وهي مكة وهذا ضعيف ، لأن الوصف ب { الأميين } على هذا يقف على قريش ، وإنما المراد جميع العرب ، وفيهم قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنا أمة أمية لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا »{[11089]} .
وهذه الآية تعديد نعمة الله عندهم فيما أولاهم ، والآية المتلوة : القرآن { يزكيهم } معناه : يطهرهم من الشرك وينمي الخير فيهم ، و { الكتاب } : الوحي المتلو ، { والحكمة } : السنة التي هي لسانه عليه السلام ، ثم أظهر تعالى تأكيد النعمة بذكر حالهم التي كانت في الضد من الهداية ، وذلك في قوله تعالى : { وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } ، { وآخرين } في موضع خفض عطفاً على { الأميين } وفي موضع نصب عطفاً على الضمائر المتقدمة .