{ وَقَالَ } يوسف { لِفِتْيَانِهِ } الذين في خدمته : { اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ } أي : الثمن الذي اشتروا به من الميرة . { فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا } أي : بضاعتهم إذا رأوها بعد ذلك في رحالهم ، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } لأجل التحرج من أخذها على ما قيل ، والظاهر أنه أراد أن يرغبهم في إحسانه إليهم بالكيل لهم كيلا وافيا ، ثم إعادة بضاعتهم إليهم على وجه لا يحسون بها ، ولا يشعرون لما يأتي ، فإن الإحسان يوجب للإنسان تمام الوفاء للمحسن .
ثم بين - سبحانه - ما فعله يوسف مع إخوته وهم على وشك الرحيل فقالك { وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجعلوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } .
والفتيان : جمع فتى والمراد بهم هنا من يقومون بخدمته ومساعدته في عمله .
والبضاعة في الأصل : القطعة الوفيرة من الأموال التي تقتنى للتجارة ، مأخوذة من البضع بمعنى القطع .
والمراد بها هنا : أثمان الطعام الذي أعطاه لهم يوسف - عليه السلام - .
والرحال : جمع رحل ، وهو ما يوضع على البعير من متاع الراكب .
والمعنى : وقال يوسف - عليه السلام - لفتيانه الذين يقومون بتلبية مطالبه : أعيدوا إلى رحال هؤلاء القوم - وهم إخوته - الأثمان التي دفعوها لنا في مقابل ما أخذوه منا من طعام ، وافعلوا ذلك دون أن يشعروا بكم ، لعل هؤلاء القوم عندما يعودون إلى بلادهم ، ويفتحون أمتعتهم ، فيجدون فيها الأثمان التي دفعوها لنا في مقابل ما أخذوه من طعام غيره .
لعلهم حينئذ يرجعون إلينا مرة أخرى ، ليدفعوها لنا في مقابل ما أخذوه .
وكأن يوسف - عليه السلام - أراد بفعله هذا حملهم على الرجوع إليه ومعهم " بنيامين " لأن من شأن النفوس الكبيرة أن تقابل الإِحسان بالإِحسان وأن تأنف من أخذ المبيع دون أن تدفع لصاحبه ثمنه .
وقوله { لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ } تعليل لأمره فتيانه يجعل البضاعة في رحال إخوته .
إذ أن معرفتهم بأن بضاعتهم قد ردت إليهم لا يتم إلا بعد انقلابهم - أى رجوعهم - إلى أهلهم ، وبعد تفريغها عندهم .
وقوله { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } جواب للأمر . أى : اجعلوها كذلك ، لعلهم بعد اكتشافهم أنهم ما دفعوا لنا ثمن ما أخذوه ، يرجعون إلينا ليدفعوا لنا حقنا .
وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد حدثتنا عما دار بين يوسف وإخوته بعد أن دخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون ، وبعد أن طلب منهم بقوة أن يعودوا إليه ومعهم أخوهم لأبيهم . . . فماذا كان بعد ذلك ؟
أما يوسف فقد أمر غلمانه أن يدسوا البضاعة التي حضر بها إخوته ليستبدلوا بها القمح والعلف . وقد تكون خليطا من نقد ومن غلات صحراوية أخرى من غلات الشجر الصحراوي ، ومن الجلود والشعر وسواها مما كان يستخدم في التبادل في الأسواق . . أمر غلمانه بدسها في رحالهم - والرحل متاع المسافر - لعلهم يعرفون حين يرجعون أنها بضاعتهم التي جاءوا بها :
( وقال لفتيانه : اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون ) .
{ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ } أي : غلمانه { اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ } وهي التي قدموا بها ليمتاروا عوضا عنها { فِي رِحَالِهِمْ } أي : في أمتعتهم من حيث لا يشعرون ، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } بها .
قيل : خشي يوسف ، عليه السلام ، ألا يكون عندهم بضاعة أخرى يرجعون للميرة بها . وقيل : تذمم أن يأخذ من أبيه وإخوته عوضا عن الطعام . وقيل : أراد أن يردهم إذا وجدوها في متاعهم تحرجًا وتورعًا لأنه يعلم ذلك منهم{[2]} والله أعلم .
{ وقال لفتيانه } لغلمانه الكيالين جمع فتى . وقرأ حمزة والكسائي وحفص " لفتيانه " على أنه جمع الكثرة ليوافق قوله : { اجعلوا بضاعتهم في رحالهم } فإنه وكل بكل رحل واحدا يعني فيه بضاعتهم التي شروا بها الطعام ، وكانت نعالا وأدماً وإنما فعل ذلك توسيعا وتفضلا عليهم وترفعا من أن يأخذ ثمن الطعام منهم ، وخوفا من أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به . { لعلهم يعرفونها } لعلهم يعرفون حق ردها . أو لكي يعرفوها . { إذا انقلبوا } انصرفوا ورجعوا . { إلى أهلهم } وفتحوا أوعيتهم . { لعلهم يرجعون } لعل معرفتهم ذلك تدعوهم إلى الرجوع .
قرأ الجمهور { لفتيته } بوزن فعلة جمع تكسير فتى مثل أخ وإخوة .
وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وخلف { لفتيانه } بوزن إخوان . والأول صيغة قلة والثاني صيغة كثرة وكلاهما يستعمل في الآخر . وعدد الفتيان لا يختلف .
والفتى : من كان في مبدإ الشباب ، ومؤنثه فتاة ، ويطلق على الخادم تلطفاً ، لأنهم كانوا يستخفون بالشباب في الخدمة ، وكانوا أكثر ما يستخدمون العبيد .
والبضاعة : المال أو المتاع المعدّ للتجارة . والمراد بها هنا الدراهم التي ابتاعوا بها الطعام كما في التوراة .
وقوله : { لعلهم يعرفونها } رجاء أن يعرفوا أنها عين بضاعتهم إما بكونها مسكوك سكة بلادهم وإما بمعرفة الصَّرر التي كانت مصرورة فيها كما في التوراة ، أي يعرفون أنها وضعت هنالك قصداً عطية من عزيز مصر .
والرحال : جمع رحْل ، وهو ما يوضع على البعير من متاع الراكب ، ولذا سمي البعير راحلة .
والانقلاب : الرجوع ، وتقدم عند قوله تعالى : { انقلبتم على أعقابكم } في [ سورة آل عمران : 144 ] .
وجملة { لعلهم يرجعون } جواب للأمر في قوله : { اجعلوا بضاعتهم في رحالهم } لأنه لمّا أمرهم بالرجوع استشعر بنفاذ رأيه أنهم قد يكونون غير واجدين بضاعة ليبتاعوا بها الميرة لأنه رأى مخايل الضيق عليهم .