93- حتى وصل - في رحلته الثالثة - إلى مكان سحيق بين جبلين مرتفعين ، وهناك وجد قوماً لا يفقهون ما يُقال لهم إلا في عسر ومشقة{[122]} .
فوصل إلى ما بين السدين ، وهما سدان ، كانا سلاسل جبال معروفين في ذلك الزمان ، سدا بين يأجوج ومأجوج وبين الناس ، وجد من دون السدين قوما ، لا يكادون يفقهون قولا ، لعجمة ألسنتهم ، واستعجام أذهانهم وقلوبهم ، وقد أعطى الله ذا القرنين من الأسباب العلمية ، ما فقه به ألسنة أولئك القوم وفقههم ، وراجعهم ، وراجعوه ، فاشتكوا إليه ضرر يأجوج ومأجوج ، وهما أمتان عظيمتان من بني آدم فقالوا : { إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ْ } .
أى : ثم بعد أن بلغ مغرب الشمس ومشرقها . . . سار فى طريق ثالث معترض بين المشرق والمغرب ، آخذا فيه { حتى إِذَا بَلَغَ } فى مسيره ذلك { بين السدين } أى : الجبلين ، وسمى الجبل سدا ، لأنه سد فجا من الأرض .
قالوا : والسدان هما جبلان من جهة أرمينية وأذربيجان ، وقيل هما فى نهاية أرض الترك مما يلى المشرق :
{ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا } أى : من دون السدين ومن ورائهما { قوما } أى : أمة من الناس لغتهم لا تكاد تعرف لبعدهم عن بقية الناس ، ولذا قال - سبحانه - .
{ لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } أى : لا يكاد هؤلاء القوم يفهمون أو يقرءون ما يقوله الناس لهم ، لغرابة لغتهم وقلة فطنتهم ، ولا يعرف الناس - أيضا - ما يقوله هؤلاء القوم لهم ، لشدة عجمتهم .
( حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا . قالوا : يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض ، فهل نجعل لك خرجا على أن نجعل بيننا وبينهم سدا ? قال : ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما . آتوني زبر الحديد . حتى إذا ساوى بين الصدفين قال : انفخوا . حتى إذا جعله نارا قال : آتوني أفرغ عليه قطرا . فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا . قال : هذا رحمة من ربي ، فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء ، وكان وعد ربي حقا ) .
ونحن لا نستطيع أن نجزم بشيء عن المكان الذي بلغ إليه ذو القرنين ( بين السدين ) ولا ما هما هذان السدان . كل ما يؤخذ من النص أنه وصل إلى منطقة بين حاجزين طبيعيين ، أو بين سدين صناعيين . تفصلهما فجوة أو ممر . فوجد هنالك قوما متخلفين : ( لا يكادون يفقهون قولا ) .
{ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } وهما جبلان متناوحان بينهما ثُغْرة يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك ، فيعيثون فيهم فسادًا ، ويهلكون الحرث والنسل ، ويأجوج ومأجوج من سلالة آدم ، عليه السلام ، كما ثبت في الصحيحين : " إن الله تعالى يقول : يا آدم . فيقول : لبيك وسعديك . فيقول : ابعث بَعْثَ النار . فيقول : وما بَعْثُ النار ؟ فيقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار ، وواحد إلى الجنة ؟ فحينئذ يشيب الصغير ، وتضع كل ذات حمل حملها ، فيقال : إن فيكم أمّتين ، ما كانتا في شيء إلا كثرتاه : يأجوج ومأجوج " {[18483]} .
وقد حكى النووي{[18484]} ، رحمه الله ، في شرح " مسلم " عن بعض الناس : أن يأجوج ومأجوج خلقوا من مني خرج من آدم فاختلط بالتراب ، فخلقوا من ذلك{[18485]} فعلى هذا يكونون مخلوقين من آدم ، وليسوا من حواء . وهذا قول غريب جدًا ، [ ثم ]{[18486]} لا دليل عليه لا من عقل ولا [ من ]{[18487]} نقل ، ولا يجوز الاعتماد هاهنا على ما يحكيه بعض أهل الكتاب ، لما عندهم من الأحاديث{[18488]} المفتعلة ، والله أعلم .
وفي مسند{[18489]} الإمام أحمد ، عن سَمُرَة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " وَلَدُ نوح ثلاثة : سام أبو العرب ، وحام أبو السودان ، ويافث أبو الترك " {[18490]} . قال بعض العلماء : هؤلاء من نسل يافث أبي الترك ، قال : [ إنما{[18491]} سموا هؤلاء تركًا ؛ لأنهم تركوا من وراء السد من{[18492]} هذه الجهة ، وإلا فهم أقرباء أولئك ، ولكن كان في أولئك بغي وفساد وجراءة{[18493]} . وقد ذكر ابن جرير هاهنا عن وهب بن منبه أثرًا طويلا عجيبًا في سير ذي القرنين ، وبنائه السد ، وكيفية ما جرى له ، وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم وصفاتهم ، [ وطولهم ]{[18494]} وقصر بعضهم ، وآذانهم{[18495]} . وروى ابن أبي حاتم أحاديث غريبة في ذلك لا تصح{[18496]} أسانيدها ، والله أعلم .
وقوله : { وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا } [ أي ]{[18497]} : لاستعجام كلامهم وبعدهم عن الناس .
{ حتى إذا بلغ بين السّدّين } بين الجبلين المبني بينهما سده وهما جبلا أرمينية وأذربيجان . وقيل جبلان منيفان في أواخر الشمال في منقطع أرض الترك من ورائهما يأجوج ومأجوج . وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر ويعقوب " بين السُّدَّيْنِ " بالضم وهما لغتان . وقيل المضموم لما خلقه الله تعالى والمفتوح لما عمله الناس لأنه في الأصل مصدر سمي به حدث يحدثه الناس . وقيل بالعكس وبين ها هنا مفعول به وهو من الظروف المتصرفة . { وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا } لغرابة لغتهم وقلة فطنتهم . وقرأ حمزة والكسائي " لا يفقهون " أي لا يفهمون السامع كلامهم ولا يبينونه لتلعثمهم فيه .
و «السدان » فيما ذكر أهل التفسير ، جبلان سدا مسالك تلك الناحية من الأرض ، وبين طرفي الجبلين فتح ، هو موضع الردم ، قال ابن عباس : الجبلان اللذان بينهما السد : أرمينية وأذربيجان ، وقالت فرقة : هما من وراء بلاد الترك ، ذكره المهدوي .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله غير متحقق ، وإنما هما في طريق الأرض مما يلي المشرق ويظهر من ألفاظ التواريخ ، أنه إلى ناحية الشمال ، وأما تعيين موضع فيضعف ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم{[7895]} : «السُّدين » بضم السين ، وكذلك «سُداً » حيث وقع ، وقرأ حفص عن عاصم بفتح ذلك كله من جميع القرآن ، وهي قراءة مجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي ، وقرأ ابن كثير «السَّدين » بفتح السين وضم «سداً » في يس ، واختلف بعد فقال الخليل وسيبويه : الضم هو الاسم والفتح هو المصدر ، وقال الكسائي : الضم والفتح لغتان بمعنى واحد ، وقرأ عكرمة وأبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة ما كان من خلقة الله لم يشارك فيه أحد بعمل فهو بالضم ، وما كان من صنع البشر فهو بالفتح .
قال القاضي أبو محمد : ويلزم أهل هذه المقالة أن يقرأ «بين السُّدين » بالضم وبعد ذلك «سَداً » بالفتح ، وهي قراءة حمزة والكسائي ، وحكى أبو حاتم عن ابن عباس وعكرمة عكس ما قال أبو عبيدة ، وقال ابن أبي إسحاق : وما رأته عيناك فهو «سُد » بالضم ، وما لا يرى فهو «سَد » بالفتح ، والضمير في { دونهما } عائد على الجبلين ، أي : وجدهم في الناحية التي تلي عمارة الناس إلى المغرب ، واختلف في القوم ، فقيل : هم بشر ، وقيل جن ، والأول أصح من وجوه ، وقوله { لا يكادون يفقهون قولاً } عبارة عن بعد السانهم عن ألسنة الناس ، لكنهم فقهوا وأفهموا بالترجمة ونحوها ، وقرأ حمزة والكسائي «يُفقهون » من أفقه ، وقرأ الباقون «يَفقهون » من فقه .
السدّ بضم السين وفتحها : الجبل . ويطلق أيضاً على الجدار الفاصل ، لأنه يسد به الفضاء ، وقيل : الضم في الجبل والفتح في الحاجز .
وقرأه نافع ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وأبو جعفر ، وخلف ، ويعقوب بضم السين وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص عن عاصم بفتح السين على لغة عدم التفرقة .
والمراد { بالسدين } هنا الجبلان ، وبالسد المفرد الجدار الفاصل ، والقرينة هي التي عيّنت المراد من هذا اللفظ المشترك .
وتعريف { السَّدَّيْنِ } تعريف الجنس ، أي بين سدّين معينين ، أي اتبع طريقاً آخر في غزوه حتى بلغ بين جبلين معلومين .
ويظهر أن هذا السبب اتّجه به إلى جهة غير جهتي المغرب والمشرق ، فيحتمل أنها الشمال أو الجنوب . وعينه المفسّرون أنه للشمال ، وبنوا على أن ذا القرنين هو إسكندر المقدوني ، فقالوا : إن جهة السدّين بين ( أرمينيا وأذربيجان ) . ونحن نبني على ما عيّناه في الملقب بذي القرنين ، فنقول : إن موضع السدين هو الشمال الغربي لصحراء ( قوبِي ) الفاصلة بين الصين وبلاد المغول شمال الصين وجنوب ( منغوليا ) . وقد وجد السد هنالك ولم تزل آثارهُ إلى اليوم شاهدَها الجغرافيون والسائحون وصورت صوراً شمسية في كتب الجغرافيا وكتب التاريخ العصرية .
ومعنى { لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } أنهم لا يعرفون شيئاً من قول غيرهم فلغتهم مخالفة للغات الأمم المعروفة بحيث لا يعرفها تراجمة ذي القرنين لأن شأن الملوك أن يتخذوا تراجمة ليترجموا لغات الأمم الذين يحتاجون إلى مخاطبتهم ، فهؤلاء القوم كانوا يتكلمون بلغة غريبة لانقطاع أصقاعهم عن الأصقاع المعروفة فلا يوجد من يستطيع إفهامهم مراد الملك ولا هم يستطيعون الإفهام .
ويجوز أن يكون المعنى أنهم قوم متوغلون في البداوة والبلاهة فلا يفهمون ما يقصده من يخاطبهم .
وقرأ الجمهور { يَفْقَهُونَ } بفتح الياء التحتية وفتح القاف أي لا يفهمون قول غيرهم . وقرأ حمزة ، والكسائي بضم الياء وكسر القاف أي لا يستطيعون إفهام غيرهم قولهم . والمعنيان متلازمان . وهذا كما في حديث الإيمان : « نسمع دويّ صوته ولا نفهم ما يقول » .
وهؤلاء القوم مجاورون ياجوج وماجوج ، وكانوا أضعف منهم فسألوا ذا القرنين أن يقيهم من فساد ياجوج وماجوج . ولم يذكر المفسرون تعيين هؤلاء القوم ولا أسماء قبيلهم سوى أنهم قالوا : هم في منقطع بلاد الترك نحو المشرق وكانوا قوماً صالحين فلا شك أنهم من قبائل بلاد الصين التي تتاخم بلاد المغول والتّتر .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 92]
يقول تعالى ذكره: ثم سار طرقا ومنازل، وسلك سبلاً "حَتَى إذَا بَلَغَ بينَ السّدّيْنِ"...
والسَّد والسُّد جميعا: الحاجز بين الشيئين، وهما ههنا فيما ذُكر جبلان سدّ ما بينهما، فردم ذو القرنين حاجزا بين يأجوج ومأجوج ومن وراءهم، ليقطع مادّ غوائلهم وعيثهم عنهم...
وقوله:"وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْما لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً "يقول عزّ ذكره: وجد من دون السدّين قوما لا يكادون يفقهون قول القائل سوى كلامهم.
وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله "يَفْقَهُونَ"؛
فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة "يَفْقَهُونَ قَوْلاً" بفتح القاف والياء، من فقَه الرجل يفقه فقها. وقرأ ذلك عامّة قرّاء أهل الكوفة «يُفْقِهُونَ قَوْلاً» بضمّ الياء وكسر القاف: من أفقهت فلانا كذا أفقهه إفقاها: إذا فهمته ذلك.
والصواب عندي من القول في ذلك، أنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار، غير دافعة إحداهما الأخرى وذلك أن القوم الذين أخبر الله عنهم هذا الخبر جائز أن يكونوا لا يكادون يفقهون قولاً لغيرهم عنهم، فيكون صوابا القراءة بذلك. وجائز أن يكونوا مع كونهم كذلك كانوا لا يكادون أن يفقهوا غيرهم لعلل: إما بألسنتهم، وإما بمنطقهم، فتكون القراءة بذلك أيضا صوابا.
وقوله: "إنّ يأْجُوجَ ومَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ"...
اختلف أهل التأويل في معنى الإفساد الذي وصف الله به هاتين الأمتين؛ فقال بعضهم: كانوا يأكلون الناس...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن يأجوج ومأجوج سيفسدون في الأرض، لا أنهم كانوا يومئذ يفسدون... الذين قالوا لذي القرنين "إنّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوج مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ" إنما أعلموه خوفَهم ما يُحدث منهم من الإفساد في الأرض، لا أنهم شَكَوا منهم فسادا كان منهم فيهم أو في غيرهم، والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم سيكون منهم الإفساد في الأرض، ولا دلالة فيها أنهم قد كان منهم قبل إحداث ذي القرنين السدّ الذي أحدثه بينهم وبين من دونهم من الناس في الناس غيرهم إفساد.
فإذا كان ذلك كذلك بالذي بيّنا، فالصحيح من تأويل قوله "إنّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوج مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ": إن يأجوج ومأجوج سيفسدون في الأرض.
وقوله: "فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجا" اختلفت القرّاء في قراءة ذلك؛ فقرأته عامّة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة: "فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجا" كأنهم نحوا به نحو المصدر من خَرْج الرأس، وذلك جعله. وقرأته عامّة قرّاء الكوفيين: «فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجا» بالألف، وكأنهم نحوا به نحو الاسم، وعنوا به أجرة على بنائك لنا سدّا بيننا وبين هؤلاء القوم.
وأولى القراءتين في ذلك عدنا بالصواب قراءة من قرأه: «فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرَاجا» بالألف، لأن القوم فيما ذُكر عنهم، إنما عرضوا على ذي القرنين أن يعطوه من أموالهم ما يستعين به على بناء السدّ، وقد بين ذلك بقوله: "فَأعِينُونِي بقُوّةٍ أجْعَلْ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُمْ رَدْما" ولم يعرضوا عليه جزية رؤوسهم. والخراج عند العرب: هو الغلة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 92]
{بَيْنَ السَّدَّيْنِ} بين الجبلين وهما جبلان سدّ ذو القرنين مما بينهما...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و «السدان» فيما ذكر أهل التفسير، جبلان سدا مسالك تلك الناحية من الأرض، وبين طرفي الجبلين فتح، هو موضع الردم... والضمير في {دونهما} عائد على الجبلين، أي: وجدهم في الناحية التي تلي عمارة الناس... {لا يكادون يفقهون قولاً} عبارة عن بعد لسانهم عن ألسنة الناس، لكنهم فقهوا وأفهموا بالترجمة ونحوها...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وجد من دونهما} أي بقربهما من الجانب الذي هو أدنى منهما إلى الجهة التي أتى منها ذو القرنين {قوماً} أي أقوياء لغتهم في غاية البعد من لغات بقية الناس لبعد بلادهم من بقية البلاد، فهم لذلك {لا يكادون يفقهون قولاً} أي لا يقربون من أن يفهموه ممن مع ذي القرنين فهماً جيداً كما يفهم غيرهم، ودل وصفهم بما يأتي على أنهم يفهمون فهماً ما بعد بُعد ومحاولة طويلة، لعدم ماهر بلسانهم ممن مع ذي القرنين، وعدم ماهر منهم بلسان أحد ممن معه، وهذا يدل على أن بينهم وبين بقية سكان الأرض غير يأجوج ومأجوج براري شاسعة، وفيافي واسعة، منعت من اختلاطهم بهم، وأن تطبعهم بلسان غيرهم بعيد جداً لقلة حفظهم لخروج بلادهم عن حد الاعتدال، أو لغير ذلك، ويلزم من ذلك أنهم لا يكادون يفهمون غيرهم شيئاً من كلامهم، وذلك معنى قراءة حمزة والكسائي بضم التحتانية وكسر القاف،...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ونحن لا نستطيع أن نجزم بشيء عن المكان الذي بلغ إليه ذو القرنين (بين السدين) ولا ما هما هذان السدان. كل ما يؤخذ من النص أنه وصل إلى منطقة بين حاجزين طبيعيين، أو بين سدين صناعيين. تفصلهما فجوة أو ممر. فوجد هنالك قوما متخلفين: (لا يكادون يفقهون قولا)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 92]
السدّ بضم السين وفتحها: الجبل. ويطلق أيضاً على الجدار الفاصل، لأنه يسد به الفضاء، وقيل: الضم في الجبل والفتح في الحاجز...
والمراد {بالسدين} هنا الجبلان، وبالسد المفرد الجدار الفاصل، والقرينة هي التي عيّنت المراد من هذا اللفظ المشترك.
وتعريف {السَّدَّيْنِ} تعريف الجنس، أي بين سدّين معينين، أي اتبع طريقاً آخر في غزوه حتى بلغ بين جبلين معلومين...
ومعنى {لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} أنهم لا يعرفون شيئاً من قول غيرهم فلغتهم مخالفة للغات الأمم المعروفة بحيث لا يعرفها تراجمة ذي القرنين لأن شأن الملوك أن يتخذوا تراجمة ليترجموا لغات الأمم الذين يحتاجون إلى مخاطبتهم، فهؤلاء القوم كانوا يتكلمون بلغة غريبة لانقطاع أصقاعهم عن الأصقاع المعروفة فلا يوجد من يستطيع إفهامهم مراد الملك ولا هم يستطيعون الإفهام.
ويجوز أن يكون المعنى أنهم قوم متوغلون في البداوة والبلاهة فلا يفهمون ما يقصده من يخاطبهم...
وهؤلاء القوم مجاورون ياجوج وماجوج، وكانوا أضعف منهم فسألوا ذا القرنين أن يقيهم من فساد ياجوج وماجوج...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
... ذَكر سبحانه وتعالى أنه وجد بين الجبلين قوماً {لا يكادون يَفقَهون قولاً} هذا وصفٌ لهؤلاء القوم، وهم كما يبدو أعلى درجة في الإنسانية من الذين وَجَدهم في مَطلِع الشمس الذين لم يُجعَل بينهم وبينها سِتْرٌ، ومعنى {مِن دونِهما}، أي من وراء الجبلين، فهم لم يكونوا بينهم، بل كانوا وراء هذين الجبلين، أو وراء هذه البلاد التي فيها هذان الجبلان، فهم في مُقامٍ أَوْغَرَ منهما، وهم إلى الشمال أَبْعَدُ وأعلَى...
{لا يكادون يَفقَهون قَوْلاً}... والظاهر عندي أن المراد أنهم لا يُدْرِكون مَرامِيَ الأقوالِ وأسرارَها والأحكامَ التي تُنظِّم العلاقاتِ بينهم، وهذا الذي يتّفِق مع {لا يكادون يفقهون}، لأن الفقه ليس مجرد المعرفة، إنما المعرفة التي يُشَقُّ فيها غِلافُ الأمور لإدراك الحقائق، وما وراء الألفاظ، وذلك إلى العِلم بالواجبات، وفِقهِ الأقوال أَقْرَبُ، ويكون المرادُ ليس عندهم عِلمٌ بالعَدل ونظامِ الحُكم، وما يجب لجَلْب المنافعِ ودَفْعِ المَضارِّ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 92]
في ما يوحي به ذلك من بساطتهم وسذاجة فهمهم، بحيث لا يعيشون العُمْقَ الفكريّ في مواجهتهم للمشاكل، فيحتاجون إلى الشخص الذي يُدبِّر لهم أمورَهم، ويقودُهم إلى الحلول الممكنة التي كانوا يستطيعون الوصولَ إليها بأنفسهم، لو كانوا يَملِكون الوعيَ الكامل المنطلِق من حالة المعاناة الفكرية. وهذا ما واجهوه مع أولئك الذين كانوا يعيشون في الجانب الآخر من المنطقة، وراء الجبلين، فقد كان بإمكانهم أن يَبحثوا عن الوسيلة التي يستطيعون أن يتخلَّصوا بها من ضغْطهم على واقعهم في ما يتحرّكون به من إفساد البلاد والعباد، إما بالمواجَهة، أو بالمعاهَدة، أو بغير ذلك من الأمور، ولكنهم لم يجدوا هناك إلاّ إقامةَ السّدِّ بينهم، ليكون ذلك حاجزاً طبيعياً يَمنعُهم من القُدوم إليهم، أو الهجوم عليهم. وهكذا طرحوا المسألة على ذي القرنين بسذاجةٍ وطِيبةٍ وبساطةٍ...