اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ بَيۡنَ ٱلسَّدَّيۡنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوۡمٗا لَّا يَكَادُونَ يَفۡقَهُونَ قَوۡلٗا} (93)

و { بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } " بين " هنا يجوز أن يكون ظرفاً ، والمفعول محذوف ، أي : بلغ غرضه ومقصوده ، وأن يكون مفعولاً به على الاتِّساع ، أي : بلغ المكان الحاجز بينهما .

وقرأ{[21309]} ابن كثير ، وأبو عمرو ، بفتح سين " السِّدَّين " و " سَدًّا " في هذه السورة ، وحفصٌ فتح الجميع ، أعني موضعي هذه السورة ، وموضعي سورة يس [ الآية : 9 ] ، وقرأ الأخوان بالفتح في " سدًّا " في سورتيه ، وبالضمِّ في " السُّدَّين " والباقون بالضمِّ في الجميع ، فقيل : هما بمعنى واحدٍ ، وقيل : لمضمومُ : ما كان من فعل الله تعالى ، والمفتوحُ ما كان من فعل النَّاس ، وهذا مرويٌّ عن عكرمة ، و الكسائي ، وأبي عبيد وابن الأنباريِّ .

قال الزمخشري : لأنَّ السُّدَّ ، بالضمِّ : " فُعْل " بمعنى " مفْعُول " أي : هو مما فعله الله ، وخلقه ، والسَّدُّ ، بالفتح : مصدر حدث يحدثه الناس . وهو مردودٌ : بأنَّ السدَّين في هذه السورة جبلان ، سدَّ ذو القرنين بينهما بسدٍّ ، فهما من فعلِ الله ، والسدُّ الذي فعله ذو القرنين من فعل المخلوق ، و " سدًّا " في يس من فعلِ الله تعالى ؛ لقوله : " وجعلنا " ومع ذلك قرئ في الجميع ، بالفتح ، والضمِّ ، فعلم أنَّهما لغتان ؛ كالضَّعف ، والضُّعف ، والفَقر ، والفُقر ، وقال الخليل : المضموم اسمٌ ، والمفتوح مصدر ، وهذا هو الاختيار .

فصل في مكان السد

الأظهرُ : أنَّ موضع السدَّين في ناحية الشَّمال ، وقيل : جبلان بين أرمينيَّة ، وأذربيجان .

وقيل : هذا المكان في مقطع أرض التُّرك .

وحكى محمد بن جرير الطبريُّ في تاريخه : أنَّ صاحب أذربيجان أيَّام فتحها ، وجَّه إنساناً إليه من ناحية الخزر ، فشاهده ، ووصف أنَّه بنيانٌ رفيعٌ وراء خندقٍ وثيقٍ منيعٍ ، وذكر ابن خرداذبة في كتابه " المسالك والممالك " أن الواثق بالله رأى في المنام كأنَّه فتح هذا الردم ، فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه ، فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه ، فوصفوا أنه بنيانٌ من لبنٍ من حديد مشدود بالنُّحاس المذاب ، وعليه بابٌ مقفلٌ ، ثم إنَّ ذلك الإنسان لمَّا حاول الرُّجوع ، أخرجهم الدليل إلى البقاع المحاذية لسمرقند .

فصل في مقتضى هذا الخبر

قال أبو الرَّيحان{[21310]} البيرونيُّ : مقتضى هذا الخبر أنَّ موضعه في الربع الشماليِّ الغربيِّ من المعمورة .

قوله : { يَفْقَهُونَ } : قرأ الأخوان{[21311]} بضمِّ الياء ، وكسر القاف ، من أفقه غيره ، فالمفعول محذوف ، أي : لا يفقهون غيرهم قولاً ، والباقون بفتحهما ، أي : لا يفهمون كلام غيرهم ، وهو بمعنى الأول ، وقيل : ليس بمتلازمٍ ؛ إذ قد يفقه الإنسان كلام غيره ، ولا يفقه قوله غيره ، وبالعكس .

فصل في كيفية فهم ذي القرنين كلام أولئك القوم

لمَّا بلغ ذو القرنين ما بين السَّدين { وَجَدَ مِن دُونِهِمَا } [ أي ] من ورائهما مجاوزاً عنهما " قوماً " ، أي : أمَّة من الناس { لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } .

فإن قيل : كيف فهم ذو القرنين منهم هذا الكلام ، بعد أن وصفهم الله تعالى بقوله : { لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } ؟ .

فالجواب من وجوه :

أحدها : قيل : كلّم عنهم مترجمٌ{[21312]} ؛ ويدل عليه قراءة ابن مسعودٍ{[21313]} : لا يكادون يفقهون قولاً ، قال الذين من دونهم : يا ذا القرنين { إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوج } .

وثانيها{[21314]} : أن قوله : { لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } يدلُّ على أنَّهم قد يفقهون بمشقَّة وصعوبة [ من إشارة ونحوها ]{[21315]} .

وثالثها : أنَّ " كاد " معناه المقاربة ؛ وعلى هذا ، فلابدَّ من إضمارٍ ، تقديره : لا يكادون يفقهون إلاَّ بمشقةٍ ؛ من إشارة ونحوها .


[21309]:ينظر: السبعة 399، والنشر 2/315، والتيسير 145، والحجة 431، والحجة للقراء السبعة 5/170، 171، وإعراب القراءات 1/417، والإتحاف 2/225.
[21310]:ينظر: الفخر الرازي 21/144.
[21311]:ينظر: السبعة 399، والتيسير 145، والحجة 431، والنشر 2/315، والحجة للقراء السبعة 5/172، والإتحاف 2/225، وإعراب القراءات 1/417، والبحر 6/154.
[21312]:ينظر: معالم التنزيل 3/180.
[21313]:ينظر: تفسير البغوي 3/180.
[21314]:ينظر: الفخر الرازي 21/145.
[21315]:سقط من أ.