وقوله - سبحانه - : { والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون } إبطال لشبهة أخرى من شبهاتهم وهى زعمهم أنه صلى الله عليه وسلم شاعر .
والشعراء : جمع شاعر كعالم وعلماء . والغاوون : جمع غاو وهو الضال عن طريق الحق .
أى : ومن شأن الشعراء أن الذين يتبعونهم من البشر ، هم الضالون عن الصراط المستقيم ، وعن جادة الحق والصواب .
وقوله : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني : الكفار يتبعهم ضلال الإنس والجن . وكذا قال مجاهد ، رحمه الله ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيرهما .
وقال عكرمة : كان الشاعران يتهاجيان ، فينتصر لهذا فِئَامٌ من الناس ، ولهذا فئَامٌ من الناس ، فأنزل الله : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } .
وقال الإمام أحمد : حدثنا قُتَيْبَةُ ، حدثنا لَيث ، عن ابن الهاد ، عن يُحَنَّس{[21926]} - مولى مصعب بن الزبير - عن أبي سعيد قال : بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعَرْج ، إذ عَرَض شاعر يُنشد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " خذوا الشيطان - أو امسكوا الشيطان - لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا خير له من أن يمتلئ شعرًا " {[21927]} .
ولما ذكر الكهنة بإفكهم وكذبهم الذي يقتضي نفي كلامهم عن كلام الله تعالى عقب ذلك بذكر { الشعراء } وحالهم لينبه على بعد كلامهم من كلام الله تعالى في القرآن ، إذ قال في القرآن بعض الكفرة إنه شعر ، وهذه الكناية هي عن شعراء الجاهلية ، حكى النقاش عن السدي أنها في ابن الزبعرى وأبي سفيان بن الحارث وهبيرة بن أبي وهب ومسافع الجمحي وأبي عزة{[8972]} وأمية بن أبي الصلت .
قال القاضي أبو محمد : والأولان ممن تاب رضي الله عنهما ، ويدخل في الآية كل شاعر مخلط يهجو ويمدح شهوة ويقذف المحصنات ويقول الزور ، وقرأ نافع «يتْبعهم » بسكون التاء وهي قراءة أبي عبد الرحمن والحسن بخلاف عنه ، وقرأ الباقون بشد التاء وكسر الباء . واختلف الناس في قوله { الغاوون } ، فقال ابن عباس هم الرواة وقال ابن عباس أيضاً هم المستحسنون لأشعارهم المصاحبون لهم ، وقال عكرمة هم الرعاع الذي يتبعون الشاعر ويتغنمون إنشاده وهذا أرجح الأقوال ، وقال مجاهد وقتادة { الغاوون } الشياطين .
كان مما حوته كِنانةُ بهتان المشركين أن قالوا في النبي صلى الله عليه وسلم هو شاعر ، فلما نَثلَتْ الآيات السابقة سِهام كنانتهم وكسرتها وكان منها قولهم : هو كاهن ، لم يبق إلا إبطالُ قولهم : هو شاعر ، وكان بين الكهانة والشعر جامع في خيال المشركين إذ كانوا يزعمون أن للشاعر شيطاناً يملي عليه الشعر وربما سموه الرَّئِيّ ، فناسب أن يقارَن بين تزييف قولهم في القرآن : هو شعر ، وقولهم في النبي صلى الله عليه وسلم هو شاعر ، وبين قولهم : هو قول كاهن ، كما قرن بينهما في قوله تعالى : { وما هو بقول شاعِر قليلاً ما تُؤمنون ولا بقولِ كاهن قليلاً ما تذّكّرون } [ الحاقة : 41 ، 42 ] ؛ فعُطف هنا قوله : { والشعراء يتبعهم الغاون } على جملة : { تنزل على كل أفّاك أثيم } [ الشعراء : 222 ] .
ولمّا كان حال الشعراء في نفس الأمر مخالفاً لحال الكهان إذ لم يكن لملكة الشعر اتصال مّا بالنفوس الشيطانية وإنما كان ادعاء ذلك من اختلاق بعض الشعراء أشاعوه بين عامة العرب ، اقتصرت الآية على نفي أن يكون الرسول شاعراً ، وأن يكون القرآنُ شعراً . دون تعرض إلى أنه تنزيل الشياطين كما جاء في ذكر الكهانة .
وقد كان نفر من الشعراء بمكة يهجون النبي صلى الله عليه وسلم وكان المشركون يُعْنَون بمجالسهم وسماعِ أقوالهم ويجتمع إليهم الأعراب خارج مكة يستمعون أشعارهم وأهاجيَهم ، أدمجت الآية حال من يتَّبع الشعراء بحالهم تشويهاً للفريقين وتنفيراً منهما . ومن هؤلاء : النضْر بن الحارث ، وهبيرة بن أبي وهب ومُسافع بن عبد مناف ، وأبو عَزة الجمحِي ، وابن الزِّبَعْرَى ، وأميةُ بن أبي الصَّلْت ، وأبو سفيان ابن الحارث ، وأمُّ جميل العوراء بنت حرب زوُج أبي لهب التي لَقبها القرآن : { حمَّالة الحطب } [ المسد : 4 ] وكانت شاعرة وهي التي قالت :
مُذَمَّماً عَصَيْنا *** وأمرَه أبينا **** ودينَه قَلَيْنَا
فكانت هذه الآية نفياً للشعر أن يكون من خُلُق النبي صلى الله عليه وسلم وذماً للشعراء الذين تصدوا لهجائه .
فقوله : { يتبعهم الغاوون } ذمّ لأتباعهم وهو يقتضي ذم المتبوعين بالأحرى . والغاوي : المتصف بالغي والغواية ، وهي الضلالة الشديدة ، أي يتبعهم أهل الضلالة والبطالة الراغبون في الفسق والأذى . فقوله : { يتبعهم الغاوون } خبر ، وفيه كناية عن تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون منهم فإن أتباعه خيرة قومهم وليس فيهم أحد من الغاوين ، فقد اشتملت هذه الجملة على تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم وتنزيه أصحابه وعلى ذم الشعراء وذمّ أتباعهم وتنزيه القرآن عن أن يكون شعراً .
وتقديمُ المسند إليه على المسند الفعلي هنا يظهر أنه لمجرد التقوّي والاهتمام بالمسند إليه للفت السمع إليه والمقام مستغن عن الحصر لأنه إذا كانوا يتبعهم الغاوون فقد انتفى أتباعهم عن الصالحين لأن شأن المجالس أن يتحد أصحابها في النزعة كما قيل :
عن المرء لا تَسْألْ وسَلْ عن قرينه
وجعله في « الكشاف » للحصر ، أي لا يتبعهم إلاّ الغاوون ، لأنه أصرح في نفي اتِّباع الشعراء عن المسلمين . وهذه طريقتُهُ باطراد في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي أنه يفيد تخصيصه بالخبر ، أي قصْر مضمون الخبر عليه ، أي فهو قصر إضافي كما تقدم بيانه عند قوله تعالى : { الله يستهزىء بهم } في سورة البقرة ( 15 ) .