الأولى- قوله تعالى : " والشعراء " جمع شاعر مثل جاهل وجهلاء ، قال ابن عباس : هم الكفار " يتبعهم " ضلال الجن والإنس . وقيل " الغاوون " الزائلون عن الحق ، ودل بهذا أن الشعراء أيضا غاوون ؛ لأنهم لو لم يكونوا غاوين ما كان أتباعهم كذلك . وقد قدمنا في سورة " النور " {[12242]} أن من الشعر ما يجوز إنشاده ، ويكره ، ويحرم . روي مسلم من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال : ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما{[12243]} فقال : " هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء ) قلت : نعم . قال ( هيه ) فأنشدته بيتا . فقال ( هيه ) ثم أنشدته بيتا . فقال ( هيه ) حتى أنشدته مائة بيت . هكذا صواب هذا السند وصحيح روايته . وقد وقع لبعض رواة كتاب مسلم : عن عمرو بن الشريد عن الشريد أبيه ، وهو وهم ؛ لأن الشريد هو الذي أردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم . واسم أبي الشريد سويد . وفي هذا دليل على حفظ الأشعار والاعتناء بها إذا تضمنت الحكم والمعاني المستحسنة شرعا وطبعا ، وإنما استكثر النبي صلى الله عليه وسلم من شعر أمية ؛ لأنه كان حكيما ، ألا ترى قوله عليه السلام : ( وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم ) فأما ما تضمن ذكر الله وحمده والثناء عليه فذلك مندوب إليه ، كقول القائل :
الحمد لله العلي المنَّانِ *** صار الثريد في رؤوس العيدان{[12244]}
أو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مدحه كقول العباس :
من قبلها طبت في الظلال وفي مس***تودع حيث يُخْصَفُ الورَقُ
ثم هبطت البلاد لا بشر أن***ت ولا مضغة ولا علقُ
بل نطفة تركب السَّفِينَ وقد أل***جم نسرا وأهله الغرقُ
تنقل من صالبٍ إلى رحم *** إذا مضى عالم بدا طَبَقُ{[12245]}
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يفضض الله فاك ) . أو الذب عنه كقول حسان :
هجوت محمدا فأجبت عنه *** وعند الله في ذاك الجزاء
وهي أبيات ذكرها مسلم في صحيحه وهي في السير أتم . أو الصلاة عليه ، كما روى زيد بن أسلم ، خرج عمر ليلة يحرس فرأى مصباحا في بيت ، وإذا عجوز تنفش صوفا وتقول :
على محمد صلاة الأبرار *** صلى عليه الطيبون الأخيار
قد كنت قواما بُكًا بالأسحار *** يا ليت شعري والمنايا أطوار
يعني النبي صلى الله عليه وسلم ، فجلس عمر يبكي . وكذلك ذكر أصحابه ومدحهم رضي الله عنهم ، ولقد أحسن محمد بن سابق حيث قال :
إني رضيت عليًّا للهادي عَلَمًا *** كما رضيت عتيقا صاحب الغار
وقد رضيت أبا حفص وشيعته *** وما رضيت بقتل الشيخ في الدار
كل الصحابة عندي قدوة علم *** فهل عليَّ بهذا القول من عار
إن كنت تعلم إني لا أحبهم *** إلا من أجلك فاعتقني من النار
حب النبي رسول الله مفترض *** وحب أصحابه نورٌ ببرهان
من كان يعلم أن الله خالقه *** لا يرمين أبا بكر ببهتان
ولا أبا حفص الفاروق صاحبه *** ولا الخليفة عثمان بن عفان
أما علي فمشهور فضائله *** والبيت لا يستوي إلا بأركان
قال ابن العربي : أما الاستعارات في التشبيهات فمأذون فيها وإن استغرقت الحد وتجاوزت المعتاد ، فبذلك يضرب الملك الموكل بالرؤيا المثل ، وقد أنشد كعب بن زهير النبي صلى الله عليه وسلم :
بانت سعاد فقلبي اليوم مَتْبُولُ *** متَيَّمٌ إثرَهَا لم يُفْدَ مكبُولُ
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا *** إلا أغَنُّ غَضِيضَ الطَّرْفِ مكحولُ
تجلو عوارضَ ذي ظَلْمٍ إذا ابتسمت *** كأنه منهَلٌ بالرَّاحِ معْلُولُ
فجاء في هذه القصيدة من الاستعارات والتشبيهات بكل بديع ، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ولا ينكر في تشبيهه ريقها بالراح . وأنشد أبو بكر رضي الله عنه{[12246]} :
فقدنا الوحي إذ ولَّيْتَ عنا *** وودعنا من الله الكلام
سوى ما قد تركت لنا رَهِينًا *** توارثه القراطيس الكرامُ
فقد أورثتنا ميراث صدق *** عليك به التحية والسلام
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعه وأبو بكر ينشده ، فهل للتقليد والاقتداء موضع أرفع من هذا . قال أبو عمر : ولا ينكر الحسن من الشعر أحد من أهل العلم ولا من أولي النهي ، وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدوة إلا وقد قال الشعر ، أو تمثل به أو سمعه فرضيه ما كان حكمة أو مباحا ، ولم يكن فيه فحش ولا خنا ولا لمسلم أذى ، فإذا كان كذلك فهو والمنثور من القول سواء لا يحل سماعه ولا قوله ، وروي أبو هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول : ( أصدق كلمة - أو أشعر كلمة - قالتها العرب قول لبيد :
أخرجه مسلم وزاد ( وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم ) وروي عن ابن سيرين أنه أنشد شعرا فقال له بعض جلسائه : مثلك ينشد الشعر يا أبا بكر . فقال : ويلك يا لكع ! وهل الشعر إلا كلام لا يخالف سائر الكلام إلا في القوافي ، فحسنه حسن وقبيحه قبيح ! قال : وقد كانوا يتذاكرون الشعر . قال : وسمعت ابن عمر ينشد :
يحب الخمر من مالِ النَّدَامَى *** ويكره أن يفارقه الغَلُوسُ
وكان عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد فقهاء المدينة العشرة ثم المشيخة السبعة شاعرا مجيدا مقدما فيه . وللزبير بن بكار القاضي في أشعاره كتاب ، وكانت له زوجة حسنة تسمى عثمة فعتب عليها في بعض الأمر فطلقها ، وله فيها أشعار كثيرة ، منها قوله :
تغلغل حب عَثْمَةَ في فؤادي *** فبادِيه مع الخافِي يسيرُ
تغلغل حيث لم يبلغ شراب *** ولا حزنٌ ولم يبلغ سرور
أكاد إذا ذكرت العهد منها *** أطير لوَ انَّ إنسانا يطيرُ
وقال ابن شهاب : قلت له تقول الشعر في نسكك وفضلك ! فقال : إن المصدور إذا نفث برأ .
الثانية- وأما الشعر المذموم الذي لا يحل سماعه وصاحبه ملوم ، فهو المتكلم بالباطل حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة ، وأشحهم على حاتم ، وإن يبهتوا البريء ويفسقوا التقي ، وأن يفرطوا في القول بما لم يفعله المرء ؛ رغبة في تسلية النفس وتحسين القول ، كما روي عن الفرزدق أن سليمان بن عبدالملك سمع قوله :
فبتْنَ بجانبيَّ مُصَرَّعَاتٍ{[12247]} *** وبتُّ أفضُّ أغلاقَ الخِتَامِ
فقال : قد وجب عليك الحد . فقال : يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني الحد بقوله : " وأنهم يقولون ما لا يفعلون " . وروي أن النعمان بن عدي بن نضلة كان عاملا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال :
من مبلغُ الحسناءِ أن حليلَها *** بمَيْسَانَ يُسْقَى في زجاج وحَنْتَمِ
إذا شئتُ غَنَّتْنِي دهاقينُ قريةٍ *** ورَقَّاصةٌ تَجْذُو{[12248]} على كل مَنْسِمِ
فإن كنت ندمانِي فبالأكبرِ اسقني *** ولا تسقني بالأصغر المُتَثَلَّمِ
لعل أمير المؤمنين يسوءه *** تنادمنا بالجَوْسَقِ{[12249]} المُتَهَدِّمِ
فبلغ ذلك عمر فأرسل إليه بالقدوم عليه . وقال : إي والله إني ليسوءني ذلك . فقال : يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئا مما قلت ، وإنما كانت فضلة من القول ، وقد قال الله تعالى : " والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون . وأنهم يقولون ما لا يفعلون " فقال له عمر : أما عذرك فقد درأ عنك الحد ، ولكن لا تعمل لي عملا أبدا وقد قلت ما قلت . وذكر الزبير بن بكار قال : حدثني مصعب بن عثمان أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة لم يكن له هم إلا عمر بن أبي ربيعة والأحوص فكتب إلى عامله على المدينة : إني قد عرفت عمر والأحوص بالشر والخبث فإذا أتاك كتابي هذا فاشدد عليهما وأحملهما إلي . فلما أتاه الكتاب حملهما إليه ، فأقبل على عمر ، فقال : هيه !
فلم أر كالتَّجْميرِ منظرَ ناظرٍ *** ولا كليالي الحج أفْلَتْنَ ذا هَوَى
وكم مالئٍ عينيه من شيء غيرِه *** إذا راح نحو الجمرة البيض كالدُّمَى
أما والله لو اهتممت بحجك لم تنظر إلى شيء غيرك ، فإذا لم يفلت الناس منك في هذه الأيام فمتى يفلتون ، ثم أمر بنفيه . فقال : يا أمير المؤمنين ! أو خير من ذلك ؟ فقال : ما هو ؟ قال : أعاهد الله أني لا أعود إلى مثل هذا الشعر ، ولا أذكر النساء في شعر أبدا ، وأجدد توبة ، فقال : أو تفعل ؟ قال : نعم ، فعاهد الله على توبته وخلاه ، ثم دعا بالأحوص ، فقال هيه !
الله بيني وبين قَيِّمِهَا *** يَفِرُّ منِّي بها وأتَّبِعُ
بل الله بين قيمها وبينك ! ثم أمر بنفيه ، فكلمه فيه رجال من الأنصار فأبى ، وقال : والله لا أرده ما كان لي سلطان ، فإنه فاسق مجاهر . فهذا حكم الشعر المذموم وحكم صاحبه ، فلا يحل سماعه ولا إنشاده في مسجد ولا غيره ، كمنثور الكلام القبيح ونحوه . وروي إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( حسن الشعر كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام ) رواه إسماعيل عن عبد الله الشامي وحديثه عن أهل الشام صحيح فيما قال يحيى بن معين وغيره . وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام ) .
الثالثة- روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يمتلئ شعرا ) وفي الصحيح أيضا عن أبي سعيد الخدري قال : بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عرض شاعر ينشد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خذوا الشيطان - أو أمسكوا الشيطان - لأن يمتلئ جوف رجل قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا ) قال علماؤنا : وإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا مع هذا الشاعر لما علم من حاله ، فلعل هذا الشاعر كان ممن قد عرف من حاله أنه قد اتخذ الشعر طريقا للتكسب ، فيفرط في المدح إذا أعطي ، وفي الهجو والذم إذا منع ، فيؤذي الناس في أموالهم وأعراضهم . ولا خلاف في أن من كان على مثل هذه الحالة فكل ما يكتسبه بالشعر حرام . وكل ما يقوله من ذلك حرام عليه ، ولا يحل الإصغاء إليه ، بل يجب الإنكار عليه ، فإن لم يكن ذلك لمن خاف من لسانه قطعا تعين عليه أن يداريه بما استطاع ، ويدافعه بما أمكن ، ولا يحل له أن يعطي شيئا ابتداء ؛ لأن ذلك عون على المعصية ، فإن لم يجد من ذلك بدا أعطاه بنية وقاية العرض ، فما وقى به المرء عرضه كتب له به صدقة .
قلت : قوله : ( لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه ) القيح المدة يخالطها دم . يقال منه : قاح الجرح يقيح وتقيح وقيح . و " يريه " قال الأصمعي : هو من الوري على مثال الرمي وهو أن يدوي جوفه ، يقال منه : رجل موري مشدد غير مهموز . وفي الصحاح : وروي القيح جوفه يريه وريا إذا أكله . وأنشد اليزيدي :
وهذا الحديث أحسن ما قيل في تأويله : إنه الذي قد غلب عليه الشعر ، وامتلأ صدره منه دون علم سواه ولا شيء من الذكر ممن يخوض به في الباطل ، ويسلك به مسالك لا تحمد له ، كالمكثر من اللغط والهذر والغيبة وقبيح القول . ومن كان الغالب عليه الشعر لزمته هذه الأوصاف المذمومة الدنية ، لحكم العادة الأدبية . وهذا المعنى هو الذي أشار إليه البخاري في صحيحه لما بوب على هذا الحديث " باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر " . وقد قيل في تأويله : إن المراد بذلك الشعر الذي هجي به النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره . وهذا ليس بشيء ؛ لأن القليل من هجو النبي صلى الله عليه وسلم وكثيره سواء في أنه كفر ومذموم ، وكذلك هجو غير النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين محرم قليله وكثيره ، وحينئذ لا يكون لتخصيص الذم بالكثير معني .
الرابعة- قال الشافعي : الشعر نوع من الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيح كقبيح الكلام ، يعني أن الشعر ليس يكره لذاته وإنما يكره لمضمناته ، وقد كان عند العرب عظيم الموقع . قال الأول منهم :
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الشعر الذي يرد به حسان على المشركين : ( إنه لأسرع فيهم من رشق النبل ) أخرجه مسلم . وروى الترمذي وصححه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة يمشي بين يديه ويقول :
خلوا بني الكفار عن سبيله *** اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يُزيلُ الهَامَ عن مَقِيلِهِ *** ويُذْهِلُ الخليلَ عن خليلِه
فقال عمر : يا ابن رواحة ! في حرم الله وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خل عنه يا عمر فلهو أسرع فيهم من نضح النبل ) .
الخامسة- قوله تعالى : " والشعراء يتبعهم الغاوون " لم يختلف القراء في رفع " والشعراء " فيما علمت . ويجوز النصب على إضمار فعل يفسره " يتبعهم " وبه قرأ عيسى بن عمر . قال أبو عبيد : كان الغالب عليه حب النصب ، قرأ " والسارق والسارقة " [ المائدة : 38 ] و " حمالة الحطب " [ المسد : 4 ] و " سورة أنزلناها " [ النور : 1 ] . وقرأ نافع وشيبة والحسن والسلمي : " يتبعهم " مخففا . الباقون " يتبعهم " . وقال الضحاك : تهاجى رجلان أحدهما أنصاري والآخر مهاجري على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كل واحد غواة قومه وهم السفهاء فنزلت . وقاله ابن عباس . وعنه هم الرواة للشعر . وروى عنه علي بن أبي طلحة أنهم هم الكفار يتبعهم ضلال الجن والإنس ؛ وقد ذكرناه . وروى غضيف{[12250]} عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث هجاء في الإسلام فاقطعوا لسانه ) وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة رن{[12251]} إبليس رنة وجمع إليه ذريته ، فقال ايئسوا أن تريدوا أمة محمد على الشرك بعد يومكم هذا ولكن أفشوا فيهما - يعني مكة والمدينة - الشعر .