31- اتخذوا رجال دينهم أرباباً ، يشرعون لهم ، ويكون كلامهم ديناً ، ولو كان يخالف قول رسولهم ، فاتبعوهم في باطلهم ، وعبدوا المسيح ابن مريم ، وقد أمرهم الله في كتبه على لسان رسله ألا يعبدوا إلا إلهاً واحداً ، لأنه لا يستحق العبادة في حكم الشرع والعقل إلا الإله الواحد ، تنزه الله عن الإشراك في العبادة والخلق والصفات .
وهذا -وإن كان يستغرب على أمة كبيرة كثيرة ، أن تتفق على قول- يدل على بطلانه أدنى تفكر وتسليط للعقل عليه ، فإن لذلك سببا وهو أنهم : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ } وهم علماؤهم { وَرُهْبَانَهُمْ } أي : العُبَّاد المتجردين للعبادة .
{ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } يُحِلُّون لهم ما حرم اللّه فيحلونه ، ويحرمون لهم ما أحل اللّه فيحرمونه ، ويشرعون لهم من الشرائع والأقوال المنافية لدين الرسل فيتبعونهم عليها .
وكانوا أيضا يغلون في مشايخهم وعبادهم ويعظمونهم ، ويتخذون قبورهم أوثانا تعبد من دون اللّه ، وتقصد بالذبائح ، والدعاء والاستغاثة .
{ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } اتخذوه إلها من دون اللّه ، والحال أنهم خالفوا في ذلك أمر اللّه لهم على ألسنة رسله فما { أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } فيخلصون له العبادة والطاعة ، ويخصونه بالمحبة والدعاء ، فنبذوا أمر اللّه وأشركوا به ما لم ينزل به سلطانا .
{ سُبْحَانَهُ } وتعالى { عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : تنزه وتقدس ، وتعالت عظمته عن شركهم وافترائهم ، فإنهم ينتقصونه في ذلك ، ويصفونه بما لا يليق بجلاله ، واللّه تعالى العالي في أوصافه وأفعاله عن كل ما نسب إليه ، مما ينافي كماله المقدس .
وقوله - سبحانه { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله والمسيح ابن مَرْيَمَ } بيان للون آخر من ألوان انحراف اليهود والنصارى عن الحق إلى الباطل ، وتقرير لما سبقت حكايته عنهم من أقوال فاسدة ، وأفعال ذميمة .
والضمير في قوله { اتخذوا } يعود إلى الفريقين اللذين حكت الآية السابقة ما قالوه من باطل وبهتان .
والأحبار : علماء اليهود جمع حبر ، بكسر الحاء وفتحها - وهو الذي يحسن القول ويتقنه ، مأخوذ من التحبير بمعنى التحسين والتزيين ، ومنه ثوب محبر أى جمع الزينة والحسن ، والرهبان : علماء النصارى جمع راهب وهو الزاهد في متع الدنيا ، المنعزل عن الناس مأخوذ من الرهبة بمعنى الخشية والخوف من الله - تعالى .
والمراد باتخاذهم لأحبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله ، أنهم أطاعوهم فيها أحلوه لهم ، وفيما حرموه عليهم ، ولو كان هذا التحليل والتحريم مخالفاً لشرع الله .
وهذا التفسير مأثور " عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد روى الإِمام أحمد والترمذى وابن جرير من طرق عن عدى بن حاتم أنه لما بلغته دعوة رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فر إلى الشام : وكان قد تنصر في الجاهلية ، فاسرت أخته وجماعة من قومها ، ثم مَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أخته وأعطاها . فرجعت إلى أخيها ، فرغبته في الإِسلام وفى القدوم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقدم عدى المدينة ، وكان رئيسا في قومه طيئ وأبوه حاتم الطائى المشهور بالكرم فتحدث الناس بقدومه ، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفى عنق عدى صليب من فضة ، وكان الرسول يقرأ هذه الآية { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله . . . } " .
قال عدى : فقت ، إنهم لم يعبدوهم ، فقال ، بلى ، إنهم حرموا عليهم الحلال ، وأحلوا لهم الحرام ، فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم .
قال ابن كثير : وهكذا قال حذيفة بن اليمان وابن عباس وغيرهما في تفسير الآية : أنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا .
وقال السدى : استنصحوا الرجال ، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم .
وقال الآلوسى : وقيل اتخاذهم أرباباً بالسجود لهم ونحوه مما لا يصلح إلا لله ، تعالى ، وحينئذ فلا مجاز ، إلا أنه لا مقال لأحد بعد صحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والآية ناعية على كثير من الفرق الضالة الذين تركوا كتاب الله وسنة رسوله ، لكلام علمائهم ورؤسائهم ، والحق أحق بالاتباع ، فمتى ظهر الحق فعلى المسلم اتابعه وإن أخطأه اجتهاد مقلده .
وقوله : { والمسيح ابن مَرْيَمَ } معطوف على قوله { أَحْبَارَهُمْ } والمفعول الثانى بالنسبة إليه محذوف أى : اتخذوه رباً وإلهاً .
قال صاحب المنار ما ملخصه : جمع - سبحانه . بين اليهود والنصارى في اتخاذ رجال دينهم أربابا بأن أعطوهم حتى التشريع فيهم : وذكر بعد ذلك ما انفرد به النصارى دون اليهود من اتخاذهم المسيح ربا وإلها يعبدونه واليهود لم يعبدوا عزيرا ، ولم يؤثر عمن قال منهم إنه ابن الله ، أنهم عنوا ما يعنيه النصارى من قولهم في المسيح : إنه هو الله الخالق المدبر لأمور العباد .
وقوله : { وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } جملة حالية أى : اتخذ هؤلاء المفترون على الله الكذب من اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، بأن أطاعوهم فيما يحلونه لهم وفيا يحرمونه عليهم ولو كان مخالفاً لشرع الله ؛ وكذلك اتخذ النصارى المسيح ابن مريم رباً وإلهاً .
والحال أنهم جميعاً ما أمروا على ألسنة رسلهم إلا بعبادة الله وحده ، فهو المعبود الذي لا تعنو الوجوه إلا له ، ولا يكون الاعتماد إلا عليه ، وكل ما سواه فهو مخلوق له .
وقوله : { لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } صفة ثانية لقوله { إلها } . أو هو استئناف بيانى لتعليل الأمر بعبادة الله وحده ، وأنه - سبحانه - هو المستحق لذلك شرعا وعقلا .
وقوله : { سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } تنزيه له عن الشرك والشركاء إثر الأمر بإخلاص العبادة له .
أى : تنزه الله - عز وجل - وتقدس عن الشركاء والنظراء والأعوان والأضداد والأولاد ، فهو رب العالمين ، وخالق الخلائق أجمعين . .
قال صاحب الظلال عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : ومن النص القرآنى الواضح الدلالة ، ومن تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للآية وهو فصل الخطاب ، ثم من مفهومات المفسرين الأوائل والمتأخرين ، تخلص لنا حقائق في العقيدة والدين ذات أهمية بالغة نشير إليها هنا بغاية الاختصار وهى : أن العبادة هي الاتباع في الشرائع بنص القرآن وتفسير الرسول - صلى الله عليه وسلم - فاليهود والنصارى لم يتخذوا الأحبار والرهبان أربابا بمعنى الاعقاد في ألوهيتهم ، أو تقديم الشعائر التعبدية إليهم . . ومع هذا فقد حكم الله ، سبحانه ، عليهم بالشرك في هذه الآية ، وبالكفر في آية تالية في السياق لمجرد أنهم تلقوا منهم الشرائع فأطاعوها واتبعوها - فهذا وحده دون الاعتقاد والشعائر يكفى لاعتبار من يفعله مشركا بالله ، الشرك الى يخرجه من عداد المؤمنين ، ويدخله في عداد الكافرين .
إن النص القرآنى يسوى في الوصف بالشرك واتخاذ الأرباب من دون الله ، بين اليهود الذين قبلوا التشريع من أحبارهم وأطاعوه واتبعوه ، وبيان النصارى الذين قالوا بألوهية المسيح اعتقاد وقدموا إليه الشعائر في العبادة .
ثم ينتقل السياق القرآني إلى صفحة أخرى من صحائف الانحراف الذي عليه أهل الكتاب ؛ تتمثل في هذه المرة لا في القول والاعتقاد وحدهما ؛ ولكن كذلك في الواقع القائم على الاعتقاد الفاسد :
( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه والمسيح ابن مريم . وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً ، لا إله إلا هو ، سبحانه عما يشركون ) . .
وفي هذه الآية استمرار في وجهة السياق في هذا المقطع من السورة . من إزالة الشبهة في أن هؤلاء أهل كتاب . . فهم إذن على دين اللّه . . فهي تقرر أنهم لم يعودوا على دين اللّه ، بشهادة واقعهم - بعد شهادة اعتقادهم - وأنهم أمروا بأن يعبدوا اللّه وحده ، فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه - كما اتخذوا المسيح ابن مريم رباً - وأن هذا منهم شرك باللّه . . تعالى اللّه عن شركهم . . فهم إذن ليسوا مؤمنين باللّه اعتقاداً وتصورا ؛ كما أنهم لا يدينون دين الحق واقعاً وعملاً .
وقبل أن نقول : كيف اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً ، نحب أن نعرض الروايات الصحيحة التي تضمنت تفسير رسول اللّه - [ ص ] - للآية . وهو فصل الخطاب .
الأحبار : جمع حَبر أو حِبر بفتح الحاء أو بكسرها ، وهو العالم من أهل الكتاب وكثر إطلاقه على علماء اليهود . . والرهبان : جمع راهب ، وهو عند النصارى المتبتل المنقطع للعبادة ؛ وهو عادة لا يتزوج ، ولا يزاول الكسب ، ولا يتكلف للمعاش .
وفي " الدر المنثور " . . روى الترمذي [ وحسنه ] وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه وغيرهم عن عدي بن حاتم - رضي اللّه عنه - قال : أتيت النبي - [ ص ] - وهو يقرأ في سورة براءة : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه )فقال : " أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه . وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه " .
وفي تفسير ابن كثير : وروى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير - من طرق - عن عدي بن حاتم - رضي اللّه عنه - أنه لما بلغته دعوة رسول اللّه - [ ص ] - فر إلى الشام ، وكان قد تنصر في الجاهلية فأسرت أخته وجماعة من قومه . ثم منّ رسول اللّه - [ ص ] - على أخته وأعطاها ، فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام ، وفي القدوم على رسول اللّه - [ ص ] - فقدم عدي المدينة - وكان رئيساً في قومه طيئ وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم - فتحدث الناس بقدومه ، فدخل على رسول اللّه - [ ص ] - وفي عنق عدي صليب من فضة ، وهو يقرأ هذه الآية : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه )قال : فقلت : إنهم لم يعبدوهم . فقال : " بلى ! إنهم حرموا عليهم الحلال ، وأحلوا لهم الحرام ، فاتبعوهم : فذلك عبادتهم إياهم . . . "
وقال السدي : استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم . ولهذا قال تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً )أي الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام ، وما حلله فهو الحلال ، وما شرعه اتبع ، وما حكم به نفذ .
" الأكثرون من المفسرين قالوا : ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا أنهم آلهة العالم . بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم " . .
ومن النص القرآني الواضح الدلالة ؛ ومن تفسير رسول اللّه - [ ص ] - وهو فصل الخطاب ، ثم من مفهومات المفسرين الأوائل والمتأخرين ، تخلص لنا حقائق في العقيدة والدين ذات أهمية بالغة نشير إليها هنا بغاية الاختصار .
أن العبادة هي الاتباع في الشرائع بنص القرآن وتفسير رسول اللّه - [ ص ] - فاليهود والنصارى لم يتخذوا الأحبار والرهبان أرباباً بمعنى الاعتقاد بألوهيتهم أو تقديم الشعائر التعبدية إليهم . . ومع هذا فقد حكم اللّه - سبحانه - عليهم بالشرك في هذه الآية - وبالكفر في آية تالية في السياق - لمجرد أنهم تلقوا منهم الشرائع فأطاعوها واتبعوها . . فهذا وحده - دون الاعتقاد والشرائع - يكفي لاعتبار من يفعله مشركا بالله ، الشرك الذي يخرجه من عداد المؤمنين ويدخله في عداد الكافرين .
أن النص القرآني يسوي في الوصف بالشرك واتخاذ الأرباب من دون الله ، بين اليهود الذين قبلوا التشريع من أحبارهم وأطاعوه واتبعوه ، وبين النصارى الذين قالوا بألوهية المسيح اعتقادا وقدموا إليه الشعائر في العبادة فهذه كتلك سواء في اعتبار فاعلها مشركا بالله ، الشرك الذي يخرجه من عداد المؤمنين ويدخله في عداد الكافرين . .
أن الشرك باللّه يتحقق بمجرد إعطاء حق التشريع لغير اللّه من عباده ؛ ولو لم يصحبه شرك في الاعتقاد بألوهيته ؛ ولا تقديم الشعائر التعبدية له . . كما هو واضح من الفقرة السابقة . . ولكنا إنما نزيدها هنا بيانا
وهذه الحقائق - وإن كان المقصود الأول بها في السياق هو مواجهة الملابسات التي كانت قائمة في المجتمع المسلم يومذاك من التردد والتهيب للمعركة مع الروم ، وجلاء شبهة أنهم مؤمنون باللّه لأنهم أهل كتاب - هي كذلك حقائق مطلقة تفيدنا في تقرير " حقيقة الدين " عامة . .
إن دين الحق الذي لا يقبل اللّه من الناس كلهم ديناً غيره هو " الإسلام " . . والإسلام لا يقوم إلا باتباع اللّه وحده في الشريعة - بعد الاعتقاد بألوهيته وحده وتقديم الشعائر التعبدية له وحده - فإذا اتبع الناس شريعة غير شريعة اللّه صح فيهم ما صح في اليهود والنصارى من أنهم مشركون لا يؤمنون باللّه - مهما كانت دعواهم في الإيمان - لأن هذا الوصف يلحقهم بمجرد اتباعهم لتشريع العباد لهم من دون اللّه ، بغير إنكار منهم يثبت منه أنهم لا يتبعون إلا عن إكراه واقع بهم ، لا طاقة لهم بدفعه ، وأنهم لا يقرون هذا الافتئات على اللّه . .
إن مصطلح " الدين " قد انحسر في نفوس الناس اليوم ، حتى باتوا يحسبونه عقيدة في الضمير ، وشعائر تعبدية تقام ! وهذا ما كان عليه اليهود الذين يقرر هذا النص المحكم - ويقرر تفسير رسول اللّه [ ص ]أنهم لم يكونوا يؤمنون باللّه ، وأنهم أشركوا به ، وأنهم خالفوا عن أمره بألا يعبدوا إلا إلهاً واحداً ، وأنهم اتخذوا أحبارهم أرباباً من دون اللّه .
إن المعنى الأول للدين هو الدينونة - أي الخضوع والاستسلام والاتباع - وهذا يتجلي في اتباع الشرائع كما يتجلي في تقديم الشعائر . والأمر جد لا يقبل هذا التميع في اعتبار من يتبعون شرائع غير اللّه - دون إنكار منهم يثبتون به عدم الرضا عن الافتئات على سلطان اللّه - مؤمنين باللّه ، مسلمين ، لمجرد أنهم يعتقدون بألوهية اللّه سبحانه ويقدمون له وحده الشعائر . . وهذا التميع هو أخطر ما يعانيه هذا الدين في هذه الحقبة من التاريخ ؛ وهو أفتك الأسلحة التي يحاربه بها أعداؤه ؛ الذين يحرصون على تثبيت لافتة " الإسلام " على أوضاع ، وعلى أشخاص ، يقرر الله سبحانه في أمثالهم أنهم مشركون لا يدينون دين الحق ، وأنهم يتخذون أربابا من دون الله . . وإذا كان أعداء هذا الدين يحرصون على تثبيت لافته الإسلام على تلك الأوضاع وهؤلاء الأشخاص ؛ فواجب حماة هذا الدين أن ينزعوا هذه اللافتات الخادعة ؛ وأن يكشفوا ما تحتها من شرك وكفر واتخاذ أرباب من دون اللّه . . ( وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ) .
[ وقوله ]{[13387]} { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } روى الإمام أحمد ، والترمذي ، وابن جرير من طرق ، عن عدي بن حاتم ، رضي الله عنه ، أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرَّ إلى الشام ، وكان قد تنصر في الجاهلية ، فأسرت أخته وجماعة من قومه ، ثمَّ منَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها ، فرجعت إلى أخيها ، ورَغَّبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقدم عَدِيّ المدينة ، وكان رئيسا في قومه طيئ ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم ، فتحدَّث الناس بقدومه ، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عَدِيّ صليب من فضة ، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } قال : فقلت : إنهم لم يعبدوهم . فقال : " بلى ، إنهم حرموا عليهم الحلال ، وأحلوا{[13388]} لهم الحرام ، فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم " . وقال{[13389]} رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عدي ، ما تقول ؟ أيُفرّك{[13390]} أن يقال : الله أكبر ؟ فهل تعلم شيئًا أكبر من الله ؟ ما يُفرك ؟ أيفرّك أن يقال{[13391]} لا إله إلا الله ؟ فهل تعلم من إله إلا الله " ؟ ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم ، وشهد شهادة الحق ، قال : فلقد رأيتُ وجهه استبشر ثم قال : " إن اليهود مغضوب عليهم ، والنصارى ضالون " {[13392]}
وهكذا قال حذيفة بن اليمان ، وعبد الله بن عباس ، وغيرهما في تفسير : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا .
وقال السدي : استنصحوا الرجال ، وتركوا{[13393]} كتاب الله وراء ظهورهم .
ولهذا قال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا } أي : الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام ، وما حلله حل ، وما شرعه اتبع ، وما حكم به نفذ .
{ لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : تعالى وتقدس وتنزه عن الشركاء والنظراء والأعوان والأضداد والأولاد ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه .
القول في تأويل قوله تعالى : { اتّخَذُوَاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوَاْ إِلاّ لِيَعْبُدُوَاْ إِلََهاً وَاحِداً لاّ إِلََهَ إِلاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ } .
يقول جلّ ثناؤه : اتخذ اليهود أحبارهم ، وهم العلماء . وقد بينت تأويل ذلك بشواهده فيما مضى من كتابنا هذا . قيل واحدهم حِبْر وحَبْر بكسر الحاء منه وفتحها . وكان يونس الجرميّ فيما ذكر عنه يزعم أنه لم يسمع ذلك إلا «حِبر » بكسر الحاء ، ويحتجّ بقول الناس : هذا مداد حِبْر ، يراد به : مداد عالم . وذكر الفراء أنه سمعه حِبرا وحَبرا بكسر الحاء وفتحها . والنصارى رهبانهم ، وهم أصحاب الصوامع وأهل الاجتهاد في دينهم منهم . كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سلمة ، عن الضحاك : اتّخَذُوا أحبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ قال : قرّاءهم وعلماءهم .
أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ يعني : سادة لهم من دون الله يطيعونهم في معاصي الله ، فيحلون ما أحلوه لهم مما قد حرّمه الله عليهم ويحرّمون ما يحرّمونه عليهم مما قد أحله الله لهم . كما :
حدثني الحسن بن يزيد الطحان ، قال : حدثنا عبد السلام بن حرب الملائي ، عن غطيف بن أعين ، عن مصعب بن سعد ، عن عديّ بن حاتم ، قال : انتهيت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ في سورة براءة : اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ فقال : «أَما إنّهُمْ لم يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ ، ولَكِنْ كَانُوا يُحِلّونَ لهم فَيُحِلّونَ » .
حدثنا أبو كريب وابن وكيع ، قالا : حدثنا مالك بن إسماعيل ، وحدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد جميعا عن عبد السلام بن حرب ، قال : حدثنا غطيف بن أعين ، عن مصعب بن سعد ، عن عديّ بن حاتم ، قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب ، فقال : «يا عَدِيّ اطْرَحْ هذا الوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ » قال : فطرحته وانتهيت إليه وهو يقرأ في سورة براءة ، فقرأ هذه الآية : اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ قال : قلت : يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم فقال : «أليس يَحرّمونَ ما أحَلّ اللّهُ فَتُحَرّمُونَهُ ، ويُحِلّونَ ما حَرّمَ اللّهُ فَتُحِلّونَهُ ؟ » قال : قلت : بلى . قال : «فَتِلكَ عِبادَتُهُمْ » واللفظ لحديث أبي كريب .
حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا بقية عن قيس بن الربيع ، عن عبد السلام بن حرب النهدي ، عن غطيف ، عن مصعب بن سعد ، عن عديّ بن حاتم ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة براءة فلما قرأ : اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ قلت : يا رسول الله ، أما إنهم لم يكونوا يصلون لهم ؟ قال : «صَدَقْتَ ، ولَكِنْ كانُوا يُحِلّونَ لَهُمْ ما حَرّمَ اللّهُ فَيَسْتَحِلّونَهُ ، ويُحَرّمُونَ ما أحَلّ اللّهُ لَهُمْ فَيُحَرّمُونَهُ » .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي البختري ، عن حذيفة ، أنه سئل عن قوله : اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ كانوا يعبدونهم ؟ قال : لا ، كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه ، وإذا حرّموا عليهم شيئا حرّموه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن حبيب ، عن أبي البختريّ ، قال : قيل لأبي حذيفة فذكر نحوه ، غير أنه قال : ولكن كانوا يحلون لهم الحرام فيستحلونه ، ويحرّمون عليهم الحلال فيحرّمونه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن العوّام بن حوشب ، عن حبيب ، عن أبي البختري قال : قيل لحذيفة : أرأيت قول الله : اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ ؟ قال : أما إنهم لم يكونوا يصومون لهم ، ولا يصلون لهم ، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه ، وإذا حرّموا عليهم شيئا أحله الله لهم حرّموه ، فتلك كانت ربوبيتهم .
قال : حدثنا جرير وابن فضيل ، عن عطاء ، عن أبي البختري : اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ قال : انطلقوا إلى حلال الله فجعلوه حراما ، وانطلقوا إلى حرام الله فجعلوه حلالاً ، فأطاعوهم في ذلك ، فجعل الله طاعتهم عبادتهم ، ولو قالوا لهم اعبدونا لم يفعلوا .
حدثني الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي البختري ، قال : سأل رجل حذيفة ، فقال : يا أبا عبد الله أرأيت قوله : اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ أكانوا يعبدونهم ؟ قال : لا ، كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه ، وإذا حرّموا عليهم شيئا حرّموه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن أشعث ، عن الحسن : اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا قال : في الطاعة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ يقول : وزينوا لهم طاعتهم .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ قال عبد الله بن عباس : لم يأمروهم أن يسجدوا لهم ، ولكن أمروهم بمعصية الله ، فأطاعوهم ، فسماهم الله بذلك أربابا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية : اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا قال : قلت لأبي العالية : كيف كانت الربوبية التي كانت في بني إسرائيل ؟ قال قالوا : ما أمرونا به ائتمرنا ، وما نهونا عنا انتهينا لقولهم : وهم يجدون في كتاب الله ما أمروا به وما نهوا عنه ، فاستنصحوا الرجال ، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم .
حدثني بشر بن سويد ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي البختري ، عن حذيفة : اتّخَذُوا أحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أرْبابا مِنْ دُونِ اللّهِ قال : لم يعبدوهم ، ولكنهم أطاعوهم في المعاصي .
وأما قوله : والمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فإن معناه : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم والمسيح ابن مريم أربابا من دون الله .
وأما قوله : وَما أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا إلَها وَاحِدا فإنه يعني به : وما أمر هؤلاء اليهود والنصارى الذين اتخذوا الأحبار والرهبان والمسيح أربابا إلا أن يعبدوا معبودا واحدا ، وأن يطيعوا إلا ربّا واحدا دون أرباب شتى وهو الله الذي له عبادة كلّ شيء وطاعة كلّ خلق ، المستحقّ على جميع خلقه الدينونة له بالوحدانية والربوبية ، لا إله إلا هو . يقول تعالى ذكره : لا تنبغي الألوهة إلا لواحد الذي أمر الخلق بعبادته ، ولزمت جميع العباد طاعته . سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ يقول : تنزيها وتطهيرا لله عما يشرك في طاعته وربوبيته القائلون عزير ابن الله ، والقائلون المسيح ابن الله ، المتخذون أحبارهم أربابا من دون الله .
واحد «الأحبار » حِبر بكسر الحاء ، ويقال حَبر بفتح الحاء والأول أفصح ، ومنه مداد الحبر ، والحَبر بالفتح : العالم ، وقال يونس بن حبيب : لم أسمعه إلا بكسر الحاء ، وقال الفراء : سمعت فتح الحاء وكسرها في العالم ، وقال ابن السكيت الحِبر : بالكسر المداد والحَبر بالفتح العالم ، و «الرهبان » جمع راهب وهو الخائف من الرهبة ، وسماهم { أرباباً } وهم لا يعبدوهم لكن من حيث تلقوا الحلال والحرام من جهتهم ، وهو أمر لا يتلقى إلا من جهة الله عز وجل ونحو هذا قال ابن عباس وحذيفة بن اليمان وأبو العالية ، وحكي الطبري أن عدي بن حاتم قال : «جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب ذهب ، فقال : يا عدي اطرح هذا الصليب من عنقك ، فسمعته يقرأ { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } ، فقلت يا رسول الله وكيف ولم نعبدهم ؟ فقال أليس تستحلون ما أحلوا وتحرمون ما حرموا ؟ قلت نعم . قال فذاك »{[5613]} ، { والمسيح } عطف على الأحبار والرهبان ، و { سبحانه } نصب على المصدر والعامل فيه فعل من المعنى لأنه ليس من لفظ سبحان فعل ، والتقدير أنزهه تنزيهاً ، فمعنى { سبحانه } تنزيهاً له ، واحتج من يقول إن أهل الكتاب مشركون بقوله تعالى { عما يشركون } ، والغير يقول إن اتخاذ هؤلاء الأرباب ضرب ما من الإشراك وقد يقال في المرائي إنه أشرك وفي ذلك آثار .