ثم ذكر الوعيد الشديد على رمي المحصنات فقال : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } أي : العفائف عن الفجور { الْغَافِلَاتِ } التي لم يخطر ذلك بقلوبهن { الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } واللعنة لا تكون إلا على ذنب كبير .
وأكد اللعنة بأنها متواصلة عليهم في الدارين { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهذا زيادة على اللعنة ، أبعدهم عن رحمته ، وأحل بهم شدة نقمته .
وبعد أن أمر - سبحانه - المؤمنين بالعفو والصفح عمن استزلهم الشيطان ، فخاضوا فى حديث الإفك ثم ندموا وتابوا ، أتبع ذلك ببيان سوء عاقبة المصريين على خبثهم وعلى محبة إشاعة الفاحشة فى صفوف الجماعة الإسلامية فقال - تعالى - : { إِنَّ الذين . . . . } .
المعنى : " إن الذين يرمون " بالفاحشة النساء " المحصنات " أى : المانعات أنفسهن عن كل سوء وريبة " الغافلات " أى : الغافلات عن أن تدور الفاحشة بأذهانهن ، لأنهن طبعن على التخلق بالأخلاق الفاضلة الكريمة ، فهن فوق كونهن محصنات ، لا يخطر السوء ببالهن لطهارة معدنهن .
" المؤمنات " أى : الكاملات الإيمان بالله - تعالى - ، وبصدق رسوله صلى الله عليه وسلم ، وبكل ما يجب الإيمان به .
وقوله - سبحانه - : { لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة } أى : طردوا من رحمة الله - تعالى - فى الدنيا وفى الآخرة ، وفوق كل ذلك " لهم " منه - تعالى - " عذاب عظيم " لا تحيط العبارة بوصفه .
ذلك الغفران الذي يذكر الله المؤمنين به . إنما هو لمن تاب عن خطيئة رمي المحصنات وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا . فأما الذين يرمون المحصنات عن خبث وعن إصرار ، كأمثال ابن أبي فلا سماحة ولا عفو . ولو أفلتوا من الحد في الدنيا ، لأن الشهود لم يشهدوا فإن عذاب الله ينتظرهم في الآخرة . ويومذاك لن يحتاج الأمر إلى شهود :
( إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ، ولهم عذاب عظيم . يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون . يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ، ويعلمون أن الله هو الحق المبين ) . .
ويجسم التعبير جريمة هؤلاء ويبشعها ؛ وهو يصورها رميا للمحصنات المؤمنات وهن غافلات غارات ، غير آخذات حذرهن من الرمية . وهن بريئات الطوايا مطمئنات لا يحذرن شيئا ، لأنهن لم يأتين شيئا يحذرنه ! فهي جريمة تتمثل فيها البشاعة كما تتمثل فيها الخسة . ومن ثم يعاجل مقترفيها باللعنة . لعنة الله لهم . وطردهم من رحمته في الدنيا والآخرة .
هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات - خُرِّج مخرج الغالب - المؤمنات .
فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة ، ولا سيما التي كانت سبب النزول ، وهي عائشة بنت الصديق ، رضي الله عنهما .
وقد أجمع العلماء ، رحمهم الله ، قاطبة على أن مَنْ سَبَّها بعد هذا ورماها بما رماها به [ بعد هذا
الذي ذكر ]{[20945]} في هذه الآية ، فإنه كافر ؛ لأنه معاند للقرآن . وفي بقية أمهات المؤمنين قولان : أصحهما أنهن كهي ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } كقوله : { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا } [ الأحزاب : 57 ]{[20946]} .
وقد ذهب بعضهم إلى أنها خاصة بعائشة ، فقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عبد الله بن خِرَاش ، عن العَوَّام ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } [ قال ]{[20947]} : نزلت في عائشة خاصة .
وكذا قال [ سعيد بن جبير و ]{[20948]} مقاتل بن حيان ، وقد ذكره ابن جرير عن عائشة فقال :
حدثنا أحمد بن عَبْدَة الضَّبِّي ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن عمر بن أبي سلمة ، عن أبيه قال : قالت عائشة : رُميت بما رميت به وأنا غافلة ، فبلغني بعد ذلك . قالت : فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عندي{[20949]} إذ أوحي ، {[20950]} إليه . قالت : وكان إذا أوحي إليه أخذه كهيئة السُّبات ، وإنه أوحي إليه وهو جالس عندي ، ثم استوى جالسا يمسح على وجهه ، وقال : " يا عائشة أبشري " . قالت : قلت : بحمد الله لا بحمدك . فقرأ : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } ، حتى قرأ :{[20951]} { أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ } [ النور : 26 ]{[20952]} .
هكذا أورده ، وليس فيه أن الحكم خاص بها ، وإنما فيه أنها سبب النزول دون غيرها ، وإن كان الحكم يعمها كغيرها ، ولعله مراد ابن عباس ومن قال كقوله ، والله أعلم .
وقال الضحاك ، وأبو الجوزاء ، وسلمة بن نُبَيْط : المراد بها أزواج النبيّ خاصة ، دون غيرهن من النساء .
وقال العَوْفِيّ ، عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } الآية : يعني أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، رماهن أهل النفاق ، فأوجب الله لهم اللعنة والغضب ، وباؤوا بسخط من الله ، فكان{[20953]} ذلك في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ثم نزل بعد ذلك : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } إلى قوله : { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ، فأنزل الله الجلد والتوبة ، فالتوبة تقبل ، والشهادة تُرَدّ .
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا العوام بن حوشب ، عن شيخ{[20954]} من بني أسد ، عن ابن عباس - قال : فسر سورة النور ، فلما أتى على هذه الآية : { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا } الآية - قال : في شأن عائشة ، وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي مبهمة ، وليست لهم توبة ، ثم قرأ : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } إلى قوله : { إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا } الآية [ النور : 4 ، 5 ] ، قال : فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لمن قذف أولئك توبة ، قال : فهمّ بعضُ القوم أن يقوم إليه فيقبل رأسه ، من حسن ما فسَّر به سورة النور{[20955]} .
فقوله : " وهي مبهمة " ، أي : عامة في تحريم قذف كل محصنة ، ولَعْنته في الدنيا والآخرة .
وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هذا في عائشة ، ومن صنع مثل هذا أيضًا اليوم في المسلمات ، فله ما قال الله ، عز وجل ، ولكن عائشة كانت إمامَ ذلك .
وقد اختار ابن جرير عمومها ، وهو الصحيح ، ويعضد العموم{[20956]} ما رواه ابن أبي حاتم :
حدثنا أحمد بن عبد الرحمن - ابن أخي ابن وهب - حدثنا عمي ، حدثنا سليمان بن بلال ، عن ثور بن زيد ، عن أبي الغَيث{[20957]} عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اجتنبوا السبع الموبقات " . قيل : يا رسول الله ، وما هن ؟ قال : " الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " .
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث سليمان بن بلال ، به{[20958]} .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عَمْرو بن خالد الحَذَّاء الحراني ، حدثني أبي ، ( ح ) وحدثنا أبو شُعَيب الحراني ، حدثنا جدي أحمد بن أبي شُعَيب ، حدثنا موسى بن أعين ، عن ليث ، عن أبي إسحاق ، عن صِلَة بن زُفَر ، عن حذيفة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة " {[20959]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُواْ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : إنّ الّذِينَ يَرْمُونَ بالفاحشة المُحْصَناتِ يعني العفيفات الغافِلاتِ عن الفواحش المُؤْمِناتِ بالله ورسوله ، وما جاء به من عند الله ، لُعِنُوا فِي الدّنيْا والاَخِرَةِ يقول : أُبْعِدوا من رحمة الله في الدنيا والاَخرة . وَلَهُمْ في الاَخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ وذلك عذاب جهنم .
واختلف أهل التأويل في المحصنات اللاتي هذا حكمهن ، فقال بعضهم : إنما ذلك لعائشة خاصة ، وحكم من الله فيها وفيمن رماها ، دون سائر نساء أمة نبينا صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : حدثنا خَصِيف ، قال : قلت لسعيد بن جُبير : الزنا أشدّ أم قذف المحصَنة ؟ فقال : الزنا . فقلت : أليس الله يقول : إنّ الّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ . . . الآية ؟ قال سعيد : إنما كان هذا لعائشة خاصة .
حدثنا أحمد بن عبدة الضبي ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن عمر بن أبي سَلَمة ، عن أبيه ، قال : قالت عائشة : رُمِيت بما رُمِيت به وأنا غافلة ، فبلغني بعد ذلك ، قالت : فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي جالس ، إذ أُوحي إليه ، وكان إذا أوحي إليه أخذه كهيئة السّبات . وإنه أُوحي إليه وهو جالس عندي ، ثم استوى جالسا يمسح عن وجهه ، وقال : «يا عائشة أبْشِري » قالت : فقلت : بحمد الله لا بحمدك فقرأ : إنّ الّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ الغافِلاتِ المُؤْمِناتِ . . . حتى بلغ : أُولَئِكَ مُبَرّءُونَ مِمّا يَقُولُونَ .
وقال آخرون : بل ذلك لأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة دون سائر النساء غيرهنّ . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : إنّ الّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ الغافِلاتِ المُؤْمِناتِ . . . الآية ، أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة .
وقال آخرون : نزلت هذه الآية في شأن عائشة ، وعُني بها كلّ من كان بالصفة التي وصف الله هذه الآية . قالوا : فذلك حكم كلّ من رَمى محصنة لم تقارف سُوءا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا زيد ، عن جعفر بن برقان ، قال : سألت ميمونا ، قلت : الذي ذكر الله : الّذينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمّ لَمْ يَأْتُوا بأرْبَعَةِ شُهَدَاءَ . . . إلى قوله : إلاّ الّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلكَ وأصْلَحُوا فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فجعل في هذه توبة ، وقال في الأخرى : إنّ الّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ الغافِلاتِ . . . إلى قوله : لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ؟ قال ميمون : أما الأولى فعسى أن تكون قد قارفت ، وأما هذه فهي التي لم تقارف شيئا من ذلك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوّام بن حوشب ، عن شيخ من بني أسد ، عن ابن عباس ، قال : فسّر سورة النور ، فلما أتى على هذه الآية : إنّ الّذِينَ يرْمُونَ المُحْصَناتِ الغافِلاتِ المُؤْمِناتِ . . . الآية ، قال : هذا في شأن عائشة وأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وهي مبهمة ، وليست لهم توبة . ثم قرأ : وَالّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمّ لَمْ يَأتُوا بأرْبَعَةِ شُهَدَاءَ . . . إلى قوله : إلاّ الّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْد ذلك وأصْلَحُوا . . . الآية ، قال : فجعل لهؤلاء توبة ، ولم يجعل لمن قذف أولئك توبة . قال : فهمّ بعض القوم أن يقوم إليه فيقبل رأسه من حسن ما فسّر سورة النور .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : إنّ الّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ الغافِلاتِ المُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدّنيْا والاَخِرَةِ ولَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ قال : هذا في عائشة ، ومن صنع هذا اليومَ في المسلمات فله ما قال الله ، ولكن عائشة كانت إمام ذلك .
وقال آخرون : نزلت هذه الآية في أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فكان ذلك كذلك حتى نزلت الآية التي في أوّل السورة فأوجب الجَلْد وقبل التوبة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي قال : حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : إنّ الّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ الغافِلاتِ المُؤْمِنات . . . إلى : عَذَابٌ عَظِيمٌ يعني أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، رماهنّ أهل النفاق ، فأوجب الله لهم اللعنة والغضب وباءوا بسخط من الله . وكان ذلك في أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ثم نزل بعد ذلك : وَالّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمّ لَمْ يَأْتُوا بأرْبَعَةِ شُهَدَاءَ . . . إلى قوله : فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فأنزل الله الجلد والتوبة ، فالتوبة تُقبل ، والشهادة تردّ .
وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : نزلت هذه الآية في شأن عائشة ، والحكم بها عامّ في كلّ من كان بالصفة التي وصفه الله بها فيها .
وإنما قلنا ذلك أولى تأويلاته بالصواب ، لأن الله عمّ بقوله : إنّ الّذِينَ يَرمُونَ المُحْصَناتِ الغافِلاتِ المُؤْمِناتِ كلّ محصنة غافلة مؤمنة رماها رام بالفاحشة ، من غير أن يحضّ بذلك بعضا دون بعض ، فكلّ رام محصنة بالصفة التي ذكر الله جلّ ثناؤه في هذه الآية فملعون في الدنيا والاَخرة وله عذاب عظيم ، إلا أن يتوب من ذنبه ذلك قبل وفاته ، فإن الله دلّ باستثنائه بقوله : إلاّ الّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلكَ وأصْلَحُوا على أن ذلك حكم رامي كل محصنة بأيّ صفة كانت المحصنة المؤمنة المرمية ، وعلى أن قوله : لُعِنُوا في الدّنيْا والاَخِرَةِ ، وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ معناه : لهم ذلك إن هلكوا ولم يتوبوا .
{ إن الذين يرمون المحصنات } العفائف . { الغافلات } عما قذفن به . { المؤمنات } بالله وبرسوله استباحة لعرضهن وطعنا في الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كابن أبي . { لعنوا في الدنيا والآخرة } لما طعنوا فيهن . { ولهم عذاب عظيم } لعظم ذنوبهم ، وقيل هو حكم كل قاذف ما لم يتب ، وقيل مخصوص بمن قذف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لا توبة له ، ولو فتشت وعيدات القرآن لم تجد أغلظ مما نزل في إفك عائشة رضي الله تعالى عنها .
جملة : { إن الذين يرمون المحصنات } استئناف بعد استئناف قوله : { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا } [ النور : 19 ] والكل تفصيل للموعظة التي في قوله : { يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين } [ النور : 17 ] ؛ فابتدىء بوعيد العود إلى محبة ذلك وثُني بوعيد العود إلى إشاعة القالة ، فالمضارع في قوله : { يرمون } للاستقبال . وإنما لم تعطف هذه الجملة لوقوع الفصل بينها وبين التي تناسبها بالآيات النازلة بينهما من قوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان } [ النور : 21 ] .
واسم الموصول ظاهر في إرادة جماعة وهم عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه .
و { الغافلات } هن اللاتي لا علم لهن بما رُمين به . وهذا كناية عن عدم وقوعهن فيما رُمين به لأن الذي يفعل الشيء لا يكون غافلاً عنه فالمعنى : إن الذين يرمون المحصنات كذباً عليهن ، فلا تحسب المرادَ الغافلات عن قول الناس فيهن . وذكر وصف { المؤمنات } لتشنيع قذف الذين يقذفونهن كذباً لأن وصف الإيمان وازع لهن عن الخنى .
وقوله : { لعنوا } إخبار عن لعن الله إياهم بما قدَّر لهم من الإثم وما شَرع لهم .
واللعن : في الدنيا التفسيق ، وسلب أهلية الشهادة ، واستيحاش المؤمنين منهم ، وحد القذف ، واللعن في الآخرة : الإبعاد من رحمة الله .
والعذاب العظيم : عذاب جهنم فلا جدوى في الإطالة بذكر مسألة جواز لعن المسلم المعيّن هنا ولا في أن المقصود بها من كان من الكفرة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"إنّ الّذِينَ يَرْمُونَ" بالفاحشة "المُحْصَناتِ "يعني: العفيفات "الغافِلاتِ" عن الفواحش "المُؤْمِناتِ" بالله ورسوله، وما جاء به من عند الله، "لُعِنُوا فِي الدّنيْا والآخِرَةِ" يقول: أُبْعِدوا من رحمة الله في الدنيا والآخرة، "وَلَهُمْ" في الآخرة "عَذَابٌ عَظِيمٌ" وذلك عذاب جهنم.
واختلف أهل التأويل في المحصنات اللاتي هذا حكمهن؛
فقال بعضهم: إنما ذلك لعائشة خاصة، وحكم من الله فيها وفيمن رماها، دون سائر نساء أمة نبينا صلى الله عليه وسلم...
وقال آخرون: بل ذلك لأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة دون سائر النساء غيرهنّ..
وقال آخرون: نزلت هذه الآية في شأن عائشة، وعُني بها كلّ من كان بالصفة التي وصف الله هذه الآية، قالوا: فذلك حكم كلّ من رَمى محصنة لم تقارف سُوءا... وقال آخرون: نزلت هذه الآية في أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك كذلك حتى نزلت الآية التي في أوّل السورة فأوجب الجَلْد وقبل التوبة...
وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: نزلت هذه الآية في شأن عائشة، والحكم بها عامّ في كلّ من كان بالصفة التي وصفه الله بها فيها.
وإنما قلنا ذلك أولى تأويلاته بالصواب، لأن الله عمّ بقوله: "إنّ الّذِينَ يَرمُونَ المُحْصَناتِ الغافِلاتِ المُؤْمِناتِ" كلّ محصنة غافلة مؤمنة رماها رام بالفاحشة، من غير أن يحضّ بذلك بعضا دون بعض، فكلّ رام محصنة بالصفة التي ذكر الله جلّ ثناؤه في هذه الآية فملعون في الدنيا والآخرة وله عذاب عظيم، إلا أن يتوب من ذنبه ذلك قبل وفاته، فإن الله دلّ باستثنائه بقوله: "إلاّ الّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلكَ وأصْلَحُوا" على أن ذلك حكم رامي كل محصنة بأيّ صفة كانت المحصنة المؤمنة المرمية، وعلى أن قوله: "لُعِنُوا في الدّنيْا والآخِرَةِ، وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" معناه: لهم ذلك إن هلكوا ولم يتوبوا.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
بالغ في توعده لهم حيث ذكر لفظ اللعنة في شأنهم. ووَصَفَ المحصنات بالغفلة: أي بالغفلة عما يُنْسَبْنَ إليه؛ فليس الوصف على جهة الذمِّ، ولكن لبيان تباعدهن عمَّا قيل فيهن. واستحقاقُ القّذَفَةِ لِلعَنةِ -في الدنيا والآخرة- يدل على أنه لشؤم زلتهم تتغير عواقبهم، فيخرجون من الدنيا لا على الإسلام.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
قوله تعالى:"إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات" أي: الغافلات عن الفواحش، والغافلة عن الفاحشة أن لا يقع في قلبها فعل الفاحشة، وكانت عائشة -رضي الله عنها- هكذا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{الغافلات} السليمات الصدور، النقيات القلوب، اللاتي ليس فيهن دهاء، ولا مكر، لأنهنّ لم يجربن الأمور ولم يرزن الأحوال، فلا يفطنّ لما تفطن له المجربات العرافات.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
فان قيل: لم اقتصر على ذكر المحصنات دون الرجال؟ فالجواب: أن من رمى مؤمنة فلا بد أن يرمي معها مؤمنا، فاستغني عن ذكر المؤمنين.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
وأجمع العلماء على أن حكم المحصنين في القذف كحكم المحصنات قياسا واستدلالا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان الختم بهذين الوصفين بعد الأمر بالعفو ربما جرّأ على مثل هذه الإساءة، وصل به مرهباً من الوقوع في مثل ذلك قوله معمماً للحكم: {إن الذين يرمون} أي بالفاحشة {المحصنات} أي اللائي جعلن أنفسهن من العفة في مثل الحصن. ولما كان الهام بالسيئ والمقدم عليه عالماً بما يرمي به منه، جاعلاً له نصب عينه، أكد معنى الإحصان بقوله: {الغافلات} أي عن السوء حتى عن مجرد ذكره. ولما كان وصف الإيمان حاملاً على كل خير ومانعاً من كل سوء، نبه على أن الحامل على الوصفين المتقدمين إنما هو التقوى، وصرف ما لهن من الفطنة إلى ما لله عليهن من الحقوق فقال: {المؤمنات}.
ولما ثبت بهذه الأوصاف البعد عن السوء، ذكر جزاء القاذف كفّاً عنه وتحذيراً منه بصيغة المجهول، لأن المحذور اللعن لا كونه من معين، وتنبيهاً على وقوع اللعن من كل من يتأتى منه فقال: {لعنوا} أي أبعدوا عن رحمة الله، وفعل معهم فعل المبعد من الحد وغيره {في الدنيا والآخرة} ثم زاد في تعظيم القذف لمن هذه أوصافها فقال: {ولهم} أي في الآخرة {عذاب عظيم} وقيد بوصف الإيمان لأن قذف الكافرة وإن كان محرماً ليس فيه هذا المجموع، وهذا الحكم وإن كان عاماً فهو لأجل الصديقة بالذات وبالقصد الأول وفيما فيه من التشديد الذي قل أن يوجد مثله في القرآن من الإعلام بعلي قدرها، وجلي أمرها، في عظيم فخرها، ما يجل عن الوصف.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ذلك الغفران الذي يذكر الله المؤمنين به، إنما هو لمن تاب عن خطيئة رمي المحصنات وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا. فأما الذين يرمون المحصنات عن خبث وعن إصرار، كأمثال ابن أبي فلا سماحة ولا عفو، ولو أفلتوا من الحد في الدنيا، لأن الشهود لم يشهدوا فإن عذاب الله ينتظرهم في الآخرة. ويومذاك لن يحتاج الأمر إلى شهود:
(إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة، ولهم عذاب عظيم. يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون. يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق، ويعلمون أن الله هو الحق المبين)..
ويجسم التعبير جريمة هؤلاء ويبشعها؛ وهو يصورها رميا للمحصنات المؤمنات وهن غافلات غارات، غير آخذات حذرهن من الرمية. وهن بريئات الطوايا مطمئنات لا يحذرن شيئا، لأنهن لم يأتين شيئا يحذرنه! فهي جريمة تتمثل فيها البشاعة كما تتمثل فيها الخسة. ومن ثم يعاجل مقترفيها باللعنة. لعنة الله لهم. وطردهم من رحمته في الدنيا والآخرة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذه الآية عامة في كل من يرمي محصنة...فهي تعم كل من ليس عفيف اللسان يرمي النساء بالفحش، لأدنى شبهة، وإن الكامل يعف لسانه عن النطق بالهجر...والمحصنة هي التي لم ترتكب الخنا، وهي عفيفة عرفت بالعفة، ولم تعرف بالفجر، {الغافلات} الغافلة هي الطيبة الطاهرة التي ليس عندها خبرة، ولا معرفة بأحوال الناس، وشأن المرأة التقية أن تكون في غفلة عما يلهو به الناس، لا تعرف الرذيلة ولا ترتكبها، فيها غرارة، وسذاجة، والمؤمن كما في الأثر: غر كريم، والمنافق خب لئيم، وليس المراد أنها بلهاء، بل تفسر الغافلة بأنها الساذجة المستقيمة النفس التي تعيش بالفطرة ولا تجانفها..
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ذكرت هذه الآية المباركة ثلاث صفات لهؤلاء النسوة، كلّ واحدة تشكل دليلا على مدى الظلم الذي تعرضن إليه باتهامهنّ في شرفهنّ: «المحصنات» أي العفيفات الطاهرات الذيل و«الغافلات» البعيدات عن كل تهمة وتلوّث و«المؤمنات». كما تكشف العذاب العظيم الذي ينتظر من يقترف هذا العمل. كما أنّ عبارة «غافلات» تلفت النظر، لأنّها تكشف عن منتهى طهارتهنّ من أي انحراف وتلوّث، أي أنهن غافلات عن كل تلوث جنسي إلى درجة وكأنّهن لا يعلمن بوجود مثل هذا العمل، فتارة يكون الإنسان في مقابل الذنب أن لا يخطر على ذهنه وجود مثل هذا الذنب في الخارج، وهذه مرحلة عالية من التقوى.