الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَٰتِ ٱلۡغَٰفِلَٰتِ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ لُعِنُواْ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (23)

فيه مسألتان :

الأولى-قوله تعالى : " المحصنات " تقدم في " النساء " {[11852]} . وأجمع العلماء على أن حكم المحصنين في القذف كحكم المحصنات قياسا واستدلالا ، وقد بيناه أول السورة والحمد لله . واختلف فيمن المراد بهذه الآية ، فقال سعيد بن جبير : هي في رماة عائشة رضوان الله عليها خاصة . وقال قوم : هي في عائشة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، قاله ابن عباس والضحاك وغيرهما . ولا تنفع التوبة . ومن قذف غيرهن من المحصنات فقد جعل الله له توبة ؛ لأنه قال : " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء - إلى قوله - إلا الذين تابوا " فجعل الله لهؤلاء توبة ، ولم يجعل لأولئك توبة ، قاله الضحاك . وقيل هذا الوعيد لمن أصر على القذف ولم يتب . وقيل : نزلت في عائشة ، إلا أنه يراد بها كل من اتصف بهذه الصفة . وقيل : إنه عام لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى ، ويكون التقدير : إن الذين يرمون الأنفس المحصنات ، فدخل في هذا المذكر والمؤنث ، واختاره النحاس . وقيل : نزلت في مشركي مكة ؛ لأنهم يقولون للمرأة إذا هاجرت إنما خرجت لتفجر .

الثانية-قوله تعالى : " لعنوا في الدنيا والآخرة " قال العلماء : إن كان المراد بهذه الآية المؤمنين من القذفة ، فالمراد باللعنة الإبعاد وضرب الحد واستيحاش المؤمنين منهم وهجرهم لهم ، وزوالهم عن رتبه العدالة والبعد عن الثناء الحسن على ألسنة المؤمنين . وعلى قول من قال : هي خاصة لعائشة تترتب هذه الشدائد في جانب عبد الله بن أبيّ وأشباهه . وعلى قول من قال : نزلت في مشركي مكة فلا كلام ، فإنهم مبعدون ، ولهم في الآخرة عذاب عظيم ، ومن أسلم فالإسلام يجب ما قبله . وقال أبو جعفر النحاس : من أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية إنه عام لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى ، ويكون التقدير : إن الذين يرمون الأنفس المحصنات ، فدخل في هذا المذكر والمؤنث ، وكذا في الذين يرمون ، إلا أنه غلب المذكر على المؤنث .


[11852]:راجع ج 5 ص 120.