{ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ } وسميت الجنة دار السلام ، لسلامتها من كل عيب وآفة وكدر ، وهم وغم ، وغير ذلك من المنغصات ، ويلزم من ذلك ، أن يكون نعيمها في غاية الكمال ، ونهاية التمام ، بحيث لا يقدر على وصفه الواصفون ، ولا يتمنى فوقه المتمنون ، من نعيم الروح والقلب والبدن ، ولهم فيها ، ما تشتهيه الأنفس ، وتلذ الأعين ، وهم فيها خالدون .
{ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ } الذي يتولى تدبيرهم وتربيتهم ، ولطف بهم في جميع أمورهم ، وأعانهم على طاعته ، ويسر لهم كل سبب موصل إلى محبته ، وإنما تولاهم ، بسبب أعمالهم الصالحة ، ومقدماتهم التي قصدوا بها رضا مولاهم ، بخلاف من أعرض عن مولاه ، واتبع هواه ، فإنه سلط عليه الشيطان فتولاه ، فأفسد عليه دينه ودنياه .
ثم بين - سبحانه - ما أعده للمتذكرين فقال : { لَهُمْ دَارُ . . . } .
أى : أن هؤلاء المتذكرين المتقين لهم جنة عرضها السموات والأرض فى جوار ربهم وكفالته ، وهو - سبحانه - { وَلِيُّهُمْ } أى : متولى إيصال الخير إليهم ، أو محبهم أو ناصرهم بسبب أعمالهم الصالحة . وسميت الجنة بدار السلام ، لأن جميع حالاتها مقرونة بالسالمة من جميع المكاره .
قال الجمل : وقوله { عِندَ رَبِّهِمْ } فى المراد بهذه العندية وجوه :
أحدها : أنها معدة عنده كما تكون الحقوق معدة مهيأة حاضرة كقوله { جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } وثانيها : أن هذه العندية تشعر بأن هذا الأمر المدخر موصوف بالقرب من الله بالشرف والرتبة لا بالمكان والجهة لتنزهه - تعالى - عنهما .
وثالثهما : هى كقوله - تعالى - فى صفة الملائكة { وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } وقوله : أنا عند المنكسر قلوبهم وأنا عند ظن عبدى بى " .
ثم بين - سبحانه - جانبا من أحوال الظالمين يوم القيامة عند ما يقفون أمام ربهم للحساب فقال : { وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَامَعْشَرَ الجن قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإنس } .
ففى هذه الآيات عرض مؤثر زاخر بالحوار والاعتراف والمناقشة والحكم تحكيه السورة الكريمة وهى تصور مشاهد المجرمين يوم القيامة .
والذين يتذكرون ، لهم دار السلام عند ربهم . . دار الطمأنينة والأمان . . مضمونة عند ربهم لا تضيع . . وهو وليهم وناصرهم وراعيهم وكافلهم . . ذلك بما كانوا يعملون . . فهو الجزاء على النجاح في الابتلاء .
ومرة أخرى نجدنا أمام حقيقة ضخمة من حقائق هذه العقيدة . حيث يتمثل صراط الله المستقيم في الحاكمية والشريعة . ومن ورائهما يتمثل الإيمان والعقيدة . . إنها طبيعة هذا الدين كما يقررها رب العالمين . .
{ لَهُمْ دَارُ السَّلامِ } وهي : الجنة ، { عِنْدَ رَبِّهِمْ } أي : يوم القيامة . وإنما وصف الله الجنة هاهنا بدار السلام لسلامتهم فيما سلكوه من الصراط المستقيم ، المقتفي أثر الأنبياء وطرائقهم ، فكما سلموا من آفات الاعوجاج أفْضَوا إلى دار السلام .
{ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ } أي : والسلام - وهو الله - وليهم ، أي : حافظهم وناصرهم ومؤيدهم ، { بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : جزاء [ على ]{[11213]} أعمالهم الصالحة تولاهم وأثابهم الجنة ، بمنّه وكرمه .
القول في تأويل قوله تعالى : { لَهُمْ دَارُ السّلاَمِ عِندَ رَبّهِمْ وَهُوَ وَلِيّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .
يعني تعالى ذكره بقوله لهم للقوم الذين يذكرون آيات الله فيعتبرون بها ويوقنون بدلالتها على ما دلت عليه من توحيد الله ، ومن نبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وغير ذلك ، فيصدّقون بما وصلوا بها إلى علمه من ذلك . وأما دار السلام ، فهي دار الله التي أعدّها لأوليائه في الاَخرة جزاء لهم على ما أبلوا في الدنيا في ذات الله وهي جنته . والسلام : اسم من أسماء الله تعالى ، كما قال السديّ .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : لَهُمْ دَارُ السّلامِ عِنْدَ رَبّهِمْ الله هو السلام ، والدار : الجنة .
وأما قوله : وَهُوَ وَلِيّهُمْ فإنه يقول : والله ناصر هؤلاء القوم الذين يذكرون آيات الله . بِمَا كانُوا يَعْمَلُونَ يعني جزاء بما كانوا يعملون من طاعته الله ، ويتبعون رضوانه .
الضّمير في : { لهم دار السلام } عائد إلى { قوم يذّكَّرون } [ الأنعام : 126 ] .
والجملة إمّا مستأنفة استئنافاً بيانياً : لأنّ الثّناء عليهم بأنّهم فُصّلت لهم الآيات ويتذكّرون بها يثير سؤال مَن يسأل عن أثر تبيين الآيَات لهم وتذكُّرهم بها ، فقيل : { لهم دار السلام } .
وإمّا صفة : { لقوم يذّكّرون } [ الأنعام : 126 ] . وتقديم المجرور لإفادة الاختصاص للقوم الذين يذكّرون لا لغيرهم .
والدّارُ : مكان الحلول والإقامة ، ترادف أو تقارب المحلّ من الحُلول ، وهو مؤنّث تقديراً فيصغَّر على دويرة . والدّار مشتقّة من فعل دار يدور لكثرة دوران أهلها ، ويقال لها : دارة ، ولكن المشهور في الدارة أنّها الأرض الواسعة بين جبال .
والسّلام : الأمان ، والمراد به هنا الأمان الكامل الّذي لا يعتري صاحِبه شيء ممّا يُخاف من الموجودات جواهرها وأعراضها ، فيجوز أن يراد بدار السّلام الجنّة سمّيت دار السّلام لأنّ السّلامة الحقّ فيها ، لأنَّها قرار أمن من كلّ مكروه للنّفس ، فتمحّضت للنَّعيم الملائم ، وقيل : السّلام ، اسم من أسماء الله تعالى ، أي دار الله تعظيماً لها كما يقال للكعبة : بيت الله ، ويجوز أن يراد مكانة الأمان عند الله ، أي حالة الأمان من غضبه وعذابه ، كقول النّابغة :
كم قد أحلّ بدار الفقر بعد غنىً *** عمرو وكم راش عمرو بعد إقتار
و { عند } مستعارة للقرب الاعتباري ، أريد به تشريف الرتبة كما دلّ عليه قوله عَقِبه : { وهو وليّهم } ، ويجوز أن تكون مستعارة للحفظ لأنّ الشيء النّفيس يُجعل في مكان قريب من صاحبه ليحفظه ، فيكون المعنى تحقيق ذلك لهم ، وأنَّه وعد كالشّيء المحفوظ المدّخر ، كما يقال : إن فعلت كذا فلك عندي كذا تحقيقاً للوعد . والعدول عن إضافة { عند } لضمير المتكلّم إلى إضافته للاسم الظاهر : لقصد تشريفهم بأنّ هذه عطيّة مَن هو مولاهم . فهي مناسبة لفضله وبرّه بهم ورضاه عنهم كعكسه المتقدّم آنفاً في قوله تعالى : { سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله } [ الأنعام : 124 ] .
وعطف على جملة : { لهم دار السلام } جملة : { وهو وليهم } تعميماً لولاية الله إيَّاهم في جميع شؤونهم ، لأنَّها من تمام المنّة . والوليّ يطلق بمعنى النّاصر وبمعنى الموالي .
وقوله : { بما كانوا يعملون } يجوز أن يتعلّق بما في معنى الخبر في قوله : { لهم دار السلام } ، من مفهوم الفعل ، أي ثبت لهم ذلك بما كانوا يعملون ، فتكون الباء سببيّة ، أي بسبب أعمالهم الحاصلة بالإسلام ، أو الباء للعوض : أي لهم ذلك جَزاء بأعمالهم ، وتكون جملة : { وهو وليهم } معترضة بين الخبر ومتعلِّقه ، ويجوز أن يَكون : { بما كانوا يعملون } متعلِّقا ب { وليّهم } أي وهو ناصرهم ، والباء للسّببيّه : أي بسبب أعمالهم تولاّهم ، أو الباء للملابسة ، ويكون : { بما كانوا يعملون } مراداً به جزاء أعمالهم ، على حذف مضاف دلّ عليه السّياق .
وتعريف المسند بالإضافة في قوله : { وليهم } أفاد الإعلام بأنّ الله وليّ القوم المتذكّرين ، ليعلموا عظم هذه المنّة فيشكروها ، وليعلم المشركون ذلك فيغيظهم .
وذلك أنّ تعريف المسند بالإضافه يخالف طريقة تعريفه بغير الإضافة ، من طرق التّعريف ، لأنّ التّعريف بالإضافة أضعف مراتب التّعريف ، حتّى أنَّه قد يقرب من التّنكير على ما ذكره المُحقّقون : من أنّ أصل وضع الإضافة على اعتبار تعريف العهد ، فلا يُقال : غلام زيد ، إلاّ لغلام معهود بين المتكلّم والمخاطب بتلك النّسبة ، ولكن الإضافة قد تخرج عن ذلك في الاستعمال فتجيء بمنزلة النكرة المخصوصة بالوصف ، فتقول : أتاني غلامُ زيد بكتاب منه وأنت تريد غلاماً له غير معيَّن عند المخاطب ، فيصير المعرّف بالإضافة حينئذ كالمعرّف بلام الجنس ، أي يفيد تعريفاً يميّز الجنس من بين سائر الأجناس ، فالتّعريف بالإضافة يأتي لما يأتي له التّعريف باللام . ولهذا لم يكن في قوله : { وهو وليهم } قَصْر ولا إفاده حُكم معلوم على شيء معلوم . وممّا يزيدك يقينا بهذا قوله تعالى : { ذلك بأنّ الله مولى الذين آمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم } [ محمد : 11 ] فإنّ عطف : { وأنّ الكافرين لا مولى لهم } على قوله : { بأنّ الله مولى الذين آمنوا } أفاد أنّ المراد بالأوّل إفادة ولاية الله للّذين آمنوا لا الإعلام بأنّ من عرف بأنَّه مولى الّذين آمنوا هو الله .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله لهم للقوم الذين يذكرون آيات الله فيعتبرون بها ويوقنون بدلالتها على ما دلت عليه من توحيد الله، ومن نبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك، فيصدّقون بما وصلوا بها إلى علمه من ذلك. وأما دار السلام، فهي دار الله التي أعدّها لأوليائه في الآخرة جزاء لهم على ما أبلوا في الدنيا في ذات الله وهي جنته. والسلام: اسم من أسماء الله تعالى...
وأما قوله:"وَهُوَ وَلِيّهُمْ" فإنه يقول: والله ناصر هؤلاء القوم الذين يذكرون آيات الله. "بِمَا كانُوا يَعْمَلُونَ "يعني: جزاء بما كانوا يعملون من طاعته الله، ويتبعون رضوانه.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
وقيل: سميت الجنة دار السلام لسلامتها من الآفات والعاهات. وقيل: لأن من دخلها سلم من البلايا والرزايا أجمع.
وقيل: لأنها سلمت من دخول أعداء اللّه كيلا ينتغص أولياء الله فيها كما يُنغّص مجاورتهم في الدنيا.
وقيل: سميت بذلك لأن كل حالة من حالات أهلها مقرونة بالسلام؛ فأما ابتداء دخولها فقوله: {لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ} وبعد ذلك قوله: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ} الآية [الرعد: 23]. وبعده قوله {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} [يونس: 10] وبعده قوله {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً} [مريم: 62] وقوله {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً} [الواقعة: 25-26] وبعده قوله {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ} [الأحزاب: 44] وبعد ذلك {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 58]. فلما كان حالات أهل الجنة مقرونة بالسلام إما من الخلق وإما من الحق سمّاها اللّه دار السلام.
{وَهُوَ وَلِيُّهُمْ} ناصرهم ومعينهم {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}. قال الحسن بن الفضل: يعني يتولاهم في الدنيا بالتوفيق وفي الآخرة بالجزاء...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
دار السلام أي: دار السلامة، ومَنْ كان في رِقِّ شيء من الأغراض والمخلوقات لم يجد السلامة، وإنما يجد السلامة مَنْ تحرر عن رِقِّ المُكُوِّنَات، والآية تشير إلى أنَّ القومَ في الجنة لكنهم ليسوا في أَسْرِ الجنة، بل تحرروا من رِقِّ كل مُكَوَّن... ويقال دار السلام غداً لمن سَلِمَ -اليوم- لسانُه عن الغيبة، وجَنانه عن الغيبة، وأبشاره وظواهره من الزَّلَّة، وأسراره وضمائره من الغفلة، وعقله من البدعة، ومعاملته من الحرام والشبهة، وأعماله من الرياء والمصانعة، وأحواله من الإعجاب...
ويقال شرفُ قَدْرِ تلك الدار لكونها في محل الكرامة، واختصاصها بِعِنْدية الزُّلفة، وإلا فالأقطار كلها ديار، ولكن قيمة الدار بالجار... هو وليُّهم في دنياهم، ووليُّهم في عقباهم، هو وليهم في أولاهم وفي أخراهم، وليهم الذي استولى حديثه على قلوبهم، فلم يَدَعْ فيها لغيره نصيباً ولا سِوىً، وليهم الذي هو أَوْلَى بهم منهم وليُّهم الذي آثرهم على أضرابهم وأشكالهم فآثروه في جميع أحوالهم وليهم الذي تطلب رضاهم، وليهم الذي لم يَكْلهُم إلى هواهم، ولا إلى دنياهم، ولا إلى عقباهم. وليُّهم الذي بأفضاله يلاطفهم، وبجماله وجلاله يكاشفهم...وليُّهم الذي ليس لهم سواه، وليهم الذي لا يشهدون إلا إياه، ولا يجدون إلا إياه، لا في بدايتهم يقصدون غيره، ولا في نهايتهم يجدون غيره، ولا في وسائلهم يشهدون غيره...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَهُمْ} لقوم يذكرون {دَارُ السلام} دار الله، يعني الجنة أضافها إلى نفسه تعظيماً لها أو دار السلامة من كل آفة وكدر {عِندَ رَبّهِمْ} في ضمانه كما تقول لفلان عندي حق لا ينسى، أو ذخيرة لهم لا يعلمون كنهها، كقوله: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]، {وَهُوَ وَلِيُّهُم} مواليهم ومحبهم أو ناصرهم على أعدائهم {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} بسبب أعمالهم، أو متوليهم بجزاء ما كانوا يعملون.
اعلم أنه تعالى لما بين عظيم نعمه في الصراط المستقيم وبين أنه تعالى معد مهيئ لمن يكون من المذكورين بين الفائدة الشريفة التي تحصل من التمسك بذلك الصراط المستقيم، فقال: {لهم دار السلام عند ربهم} وفي هذه الآية تشريفات...
قوله: {لهم دار السلام} وهذا يوجب الحصر، فمعناه: لهم دار السلام لا لغيرهم،... من الفوائد المذكورة في هذه الآية قوله: {عند ربهم} وفي تفسيره وجوه: الوجه الأول: المراد أنه معد عنده تعالى كما تكون الحقوق معدة مهيأة حاضرة، ونظيره قوله تعالى: {جزاؤهم عند ربهم} وذلك نهاية في بيان وصولهم إليها، وكونهم على ثقة من ذلك. الوجه الثاني: وهو الأقرب إلى التحقيق أن قوله: {عند ربهم} يشعر بأن ذلك الأمر المدخر موصوف بالقرب من الله تعالى، وهذا القرب لا يكون بالمكان والجهة، فوجب كونه بالشرف والعلو والرتبة، وذلك يدل على أن ذلك الشيء بلغ في الكمال والرفعة إلى حيث لا يعرف كنهه إلا الله تعالى، ونظيره قوله تعالى: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين}...
فقوله: {عند ربهم} يدل على قربهم من الله تعالى، وقوله: {وهو وليهم} يدل على قرب الله منهم، ولا نرى في العقل درجة للعبد أعلى من هذه الدرجة،...، وأيضا فقوله: {وهو وليهم} يفيد الحصر، أي لا ولي لهم إلا هو،... وهذا إخبار بأنه تعالى متكفل بجميع مصالحهم في الدين والدنيا، ويدخل فيها الحفظ والحراسة والمعونة والنصرة وإيصال الخيرات ودفع الآفات والبليات...
ثم قال تعالى: {بما كانوا يعملون} وإنما ذكر ذلك لئلا ينقطع المرء عن العمل، فإن العمل لا بد منه...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي: يوم القيامة...
وإنما وصف الله الجنة هاهنا بدار السلام لسلامتهم فيما سلكوه من الصراط المستقيم، المقتفي أثر الأنبياء وطرائقهم، فكما سلموا من آفات الاعوجاج أفْضَوا إلى دار السلام...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الضّمير في: {لهم دار السلام} عائد إلى {قوم يذّكَّرون} [الأنعام: 126].
والجملة إمّا مستأنفة استئنافاً بيانياً: لأنّ الثّناء عليهم بأنّهم فُصّلت لهم الآيات ويتذكّرون بها يثير سؤال مَن يسأل عن أثر تبيين الآيَات لهم وتذكُّرهم بها، فقيل: {لهم دار السلام}.
وإمّا صفة: {لقوم يذّكّرون} [الأنعام: 126]. وتقديم المجرور لإفادة الاختصاص للقوم الذين يذكّرون لا لغيرهم.
والدّارُ: مكان الحلول والإقامة، ترادف أو تقارب المحلّ من الحُلول...
والسّلام: الأمان، والمراد به هنا الأمان الكامل الّذي لا يعتري صاحِبه شيء ممّا يُخاف من الموجودات جواهرها وأعراضها، فيجوز أن يراد بدار السّلام الجنّة سمّيت دار السّلام لأنّ السّلامة الحقّ فيها، لأنَّها قرار أمن من كلّ مكروه للنّفس، فتمحّضت للنَّعيم الملائم، وقيل: السّلام، اسم من أسماء الله تعالى، أي دار الله تعظيماً لها كما يقال للكعبة: بيت الله، ويجوز أن يراد مكانة الأمان عند الله، أي حالة الأمان من غضبه وعذابه..
و {عند} مستعارة للقرب الاعتباري، أريد به تشريف الرتبة كما دلّ عليه قوله عَقِبه: {وهو وليّهم}، ويجوز أن تكون مستعارة للحفظ لأنّ الشيء النّفيس يُجعل في مكان قريب من صاحبه ليحفظه، فيكون المعنى تحقيق ذلك لهم، وأنَّه وعد كالشّيء المحفوظ المدّخر، كما يقال: إن فعلت كذا فلك عندي كذا تحقيقاً للوعد. والعدول عن إضافة {عند} لضمير المتكلّم إلى إضافته للاسم الظاهر: لقصد تشريفهم بأنّ هذه عطيّة مَن هو مولاهم. فهي مناسبة لفضله وبرّه بهم ورضاه عنهم كعكسه المتقدّم آنفاً في قوله تعالى: {سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله} [الأنعام: 124].
وعطف على جملة: {لهم دار السلام} جملة: {وهو وليهم} تعميماً لولاية الله إيَّاهم في جميع شؤونهم، لأنَّها من تمام المنّة. والوليّ يطلق بمعنى النّاصر وبمعنى الموالي.
وقوله: {بما كانوا يعملون} يجوز أن يتعلّق بما في معنى الخبر في قوله: {لهم دار السلام}، من مفهوم الفعل، أي ثبت لهم ذلك بما كانوا يعملون، فتكون الباء سببيّة، أي بسبب أعمالهم الحاصلة بالإسلام، أو الباء للعوض: أي لهم ذلك جَزاء بأعمالهم، وتكون جملة: {وهو وليهم} معترضة بين الخبر ومتعلِّقه، ويجوز أن يَكون: {بما كانوا يعملون} متعلِّقا ب {وليّهم} أي وهو ناصرهم، والباء للسّببيّه: أي بسبب أعمالهم تولاّهم، أو الباء للملابسة، ويكون: {بما كانوا يعملون} مراداً به جزاء أعمالهم، على حذف مضاف دلّ عليه السّياق.
وتعريف المسند بالإضافة في قوله: {وليهم} أفاد الإعلام بأنّ الله وليّ القوم المتذكّرين، ليعلموا عظم هذه المنّة فيشكروها، وليعلم المشركون ذلك فيغيظهم.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فليس بين الله وبين أحد من عباده علاقة وولايةٌ إلاّ من خلال العمل، فهو الذي يجعل العبد قريباً من ربّه كما يحقق له ولاية الله، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الآية الثّالثة تشير إِلى نعمتين من أكبر النعم التي يهبها الله للذين يطلبون الحق، إِحداهما: (لهم دار السّلام عند ربّهم)، والثّانية: (وهو وليّهم)، أي ناصرهم وحافظهم، وكل ذلك لما قاموا به من الأعمال الصالحات: (بما كانوا يعملون). فأي فخر أجل وأرفع من أن يتولى الله أُمور الإِنسان ويتكفل بها فيكون حافظه ووليه، وأية نعمة أعظم من أن تكون له دار السلام، دار الأمن والأمان، حيث لا حرب ولا سفك دماء، ولا نزاع ولا خصام، ولا عنف ولا تنافس قاتل ومميت، ولا تضارب مصالح، ولا كذب ولا افتراء، ولا اتهام ولا حسد ولا حقد، ولا هم ولا غم، بل الهدوء والطمأنينة والهناء؟ ولكن الآية تقول أيضاً: إِنّ هذه النعم لا تأتي بمجرّد الكلام، بل هي تعطي لقاء العمل... نعم العمل!...