اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞لَهُمۡ دَارُ ٱلسَّلَٰمِ عِندَ رَبِّهِمۡۖ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (127)

قوله-تعالى- { لَهُمْ دَارُ السلام عِندَ رَبِّهِمْ } يحتمل أن تكُون هذه الجُمْلَة مُسْتَأنفة ، فلا مَحَلَّ لها ؛ كأن سَائِلاً سَأل عمّا أعدَّ اللَّه لهمن فَقِيل له ذلِك ، ويُحْتَمَل أن يَكُون حالاً من فَاعِل " يذِّكّرُون " ، ويُحْتَمل أن يَكُون وَصْفاً لِقَوْم ، وعلى هَذَيْن الوَجْهَيْن فَيَجُوز أن تكُون الحَالُ أو الوصْفُ الجَارُّ والمجْرُور فَقَط ، ويَرْتَفِع " دَار السَّلام " بالفَاعِليَّة ، وهذا عِنْدَهُم أوْلى ؛ لأنه أقْرَبُ إلى المُفْرَد من الجُمْلَة ، والأصْل في الوَصْفِ والحَالِ والخَبَر الإفْرَاد ، فما قَرُبَ إليه فهو أوْلَى .

و " عِنْد ربِّهِمْ " حال من " دارُ " ويجُوز أن يَنْتَصِب " عِنْدَ " بنَفْس " السَّلام " ؛ لأنه مَصْدَرٌ ، أي : يُسَلِّم عليهم عِنْدَ ربِّهِم ، أي : في جَنَّتهِ ، ويجُوز أن يَنْتَصِب بالاسْتِقْرَار في " لَهُمْ " .

وقوله : " وهُوَ وَليُّهم " يحتمل أيضاً الاسْتِئْنَاف ، وأن يكون حالاً ، أي : لهُمْ دارُ السلام ، والحال أن اللَّه وَلِيُّهم ونَاصِرُهم .

" وبما كانوا " الباء سَبَبِيَّة ، و " مَا " بمعْنَى الّذِي ، أو نَكِرة أو مَصدريَّة .

فصل في معنى السلام

قيل : السَّلام اسم من أسْمَاء الله -تعالى- والمعنى : دار الله كما قِيلَ : الكَعْبَة بَيْتُ اللَّهِ ، والخِلِيفَةُ عبدُ اللَّهِ .

وقيل : السَّلام صفة الدَّار بمعْنَى : دَارِ السَّلامةِ ، والعرب تُلْحِقُ هذه الهَاءَ في كثير من المَصَادِر وتحذفُها ، يقولون : ضَلالَ وضَلاَلة ، وسَفَاة وسَفَاهَة ، ورَضَاع ورَضَاعة ، ولَذاذ ولَذَاذَة .

وقيل : السَّلام جمع السَّلامةِ ، وإنَّما سُمّيت الجَنَّة بهذا الاسْمِ ؛ لأن أنواع السَّلامة بأسْرِها حَاصِلَة فِيهَا ، وفي المُرَاد بهذه العِنْدِيَّة وجوه :

أحدها : أنَّها مُعَدَّة عنده كما تَكُون الحُقُوقُ مُعَدَّة مهيأة حَاضِرَة ؛ كقوله : { جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } [ البينة : 8 ] .

ثانيها : أن هذه العِنْديَّة تُشْعِر بأن هذا الأمْر المؤخَّر موصُوف بالقُربِ من اللَّهِ-تبارك وتعالى- وهذا لَيْس قُرْبٌ بالمكانِ والجهة ، فوجب كَوْنُه بالشَّرْفِ والرُّتْبَة ، وذلك يَدُلُّ على أن ذَلِك الشَّيْء بَلَغ في الكمالِ والرِّفْعَة إلى حَيْثُ لا يُعْرَفُ كنْهُهُ ، إلاَّ أنه كقوله : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [ السجدة : 17 ] .

وثالثها : هي كقوله في صفة الملائكة : { وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } [ الأنبياء : 19 ] ، وقوله : " أنَا عِنْد المنْكَسِرَة قُلُوبُهُم " {[15181]} ، و " أنا عِنْد ظَنِّ عَبْدِي بِي " {[15182]} ، وقال -تعالى- : { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } [ القمر : 55 ] وقال : { جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } [ البينة : 8 ] وكل ذلك يَدُلُّ على أنَّ حُصُول كمال صِفَة العِنْديَّة بواسِطَة صِفَة العُبُوديَّة .

وقوله : " وهُوَ وَلِيُّهُم " يدل على قُرْبِهم من اللَّه ؛ لأن الوليَّ معناه القَريبُ ، لا وَلِيّ لهم إلاَّ هُو ، ثم قال : " بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " ؛ وإنما ذكر ذلِك لِئَلاً يَنْقَطِع العَبْدُ عن العَمَلِ .


[15181]:ذكره العجلوني في كشف الخفا (1/203) وقال: قال في المقاصد: ذركه في البداية للغزالي وقال القارئ عقبه: ولا يخفى أن الكلام في هذا المقام لم يبلغ الغاية.
[15182]:تقدم تخريجه.