مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{۞لَهُمۡ دَارُ ٱلسَّلَٰمِ عِندَ رَبِّهِمۡۖ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (127)

قوله تعالى : { لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون }

اعلم أنه تعالى لما بين عظيم نعمه في الصراط المستقيم وبين أنه تعالى معد مهيئ لمن يكون من المذكورين بين الفائدة الشريفة التي تحصل من التمسك بذلك الصراط المستقيم ، فقال : { لهم دار السلام عند ربهم } وفي هذه الآية تشريفات .

النوع الأول : قوله : { لهم دار السلام } وهذا يوجب الحصر ، فمعناه : لهم دار السلام لا لغيرهم ، وفي قوله : { دار السلام } قولان :

القول الأول : أن السلام من أسماء الله تعالى ، فدار السلام هي الدار المضافة إلى الله تعالى ، كما قيل للكعبة -بيت الله تعالى- وللخليفة -عبد الله- .

والقول الثاني : أن السلام صفة الدار ، ثم فيه وجهان : الأول : المعنى دار السلامة ، والعرب تلحق هذه الهاء في كثير من المصادر وتحذفها يقولون ضلال وضلالة ، وسفاه وسفاهة ، ولذاذ ولذاذة ، ورضاع ورضاعة . الثاني : أن السلام جمع السلامة ، وإنما سميت الجنة بهذا الاسم لأن أنواع السلامة حاصلة فيها بأسرها .

إذا عرفت هذين القولين : فالقائلون بالقول الأول قالوا به لأنه أولى ، لأن إضافة الدار إلى الله تعالى نهاية في تشريفها وتعزيمها وإكبار قدرها ، فكان ذكر هذه الإضافة مبالغة في تعظيم الأمر والقائلون بالقول الثاني رجحوا قولهم من وجهين : الأول : أن وصف الدار بكونها دار السلامة أدخل في الترغيب من إضافة الدار إلى الله تعالى ، والثاني : أن وصف الله تعالى بأنه السلام في الأصل مجاز ، وإنما وصف بذلك لأنه تعالى ذو السلام ، فإذا أمكن حمل الكلام على حقيقته كان أولى .

النوع الثاني : من الفوائد المذكورة في هذه الآية قوله : { عند ربهم } وفي تفسيره وجوه :

الوجه الأول : المراد أنه معد عنده تعالى كما تكون الحقوق معدة مهيأة حاضرة ، ونظيره قوله تعالى : { جزاؤهم عند ربهم } وذلك نهاية في بيان وصولهم إليها ، وكونهم على ثقة من ذلك .

الوجه الثاني : وهو الأقرب إلى التحقيق أن قوله : { عند ربهم } يشعر بأن ذلك الأمر المدخر موصوف بالقرب من الله تعالى ، وهذا القرب لا يكون بالمكان والجهة ، فوجب كونه بالشرف والعلو والرتبة ، وذلك يدل على أن ذلك الشيء بلغ في الكمال والرفعة إلى حيث لا يعرف كنهه إلا الله تعالى ، ونظيره قوله تعالى : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } .

الوجه الثالث : أنه قال في صفة الملائكة : { ومن عنده لا يستكبرون } وقال في صفة المؤمنين في الدنيا -أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي- وقال أيضا -أنا عند ظن عبدي بي- وقال في صفتهم يوم القيامة : { في مقعد صدق عند مليك مقتدر } وقال في دارهم : { لهم دار السلام عند ربهم } وقال في ثوابهم :

{ جزاؤهم عند ربهم } وذلك يدل على أن حصول كمال صفة العبودية بواسطة صفة العندية .

النوع الثالث : من التشريفات المذكورة في هذه الآية قوله : { وهو وليهم } والولي معناه القريب ، فقوله : { عند ربهم } يدل على قربهم من الله تعالى ، وقوله : { وهو وليهم } يدل على قرب الله منهم ، ولا نرى في العقل درجة للعبد أعلى من هذه الدرجة ، وأيضا فقوله : { وهو وليهم } يفيد الحصر ، أي لا ولي لهم إلا هو ، وكيف وهذا التشريف إنما حصل على التوحيد المذكور في قوله : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا } فهؤلاء الأقوام قد عرفوا من هذه الآية أن المدبر والمقدر ليس إلا هو ، وأن النافع والضار ليس إلا هو ، وأن المسعد والمشقي ليس إلا هو ، وأنه لا مبدئ للكائنات والممكنات إلا هو ، فلما عرفوا هذا انقطعوا عن كل ما سواه ، فما كان رجوعهم إلا إليه ، وما كان توكلهم إلا عليه ، وما كان أنسهم إلا به ، وما كان خضوعهم إلا له ، فلما صاروا بالكلية ، لا جرم قال تعالى : { وهو وليهم } وهذا إخبار بأنه تعالى متكفل بجميع مصالحهم في الدين والدنيا ، ويدخل فيها الحفظ والحراسة والمعونة والنصرة وإيصال الخيرات ودفع الآفات والبليات .

ثم قال تعالى : { بما كانوا يعملون } وإنما ذكر ذلك لئلا ينقطع المرء عن العمل ، فإن العمل لا بد منه ، وتحقيق القول فيه : أن بين النفس والبدن تعلقا شديدا ، فكما أن الهيئات النفسانية قد تنزل من النفس إلى البدن ، مثل ما إذا تصور أمرا مغضبا ظهر الأثر عليه في البدن ، فيسخن البدن ويحمى ، فكذلك الهيئات البدنية قد تصعد من البدن إلى النفس ، فإذا واظب الإنسان على أعمال البر والخير ظهرت الآثار المناسبة لها في جوهر النفس ، وذلك يدل على أن السالك لا بد له من العمل ، وأنه لا سبيل له إلى تركه البتة .