{ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }
أي : لكل مطلقة متاع بالمعروف حقا على كل متق ، جبرا لخاطرها وأداء لبعض حقوقها ، وهذه المتعة واجبة على من طلقت قبل المسيس ، والفرض سنة في حق غيرها كما تقدم ، هذا أحسن ما قيل فيها ، وقيل إن المتعة واجبة على كل مطلقة احتجاجا بعموم هذه الآية ، ولكن القاعدة أن المطلق محمول على المقيّد ، وتقدم أن الله فرض المتعة للمطلقة قبل الفرض والمسيس خاصة .
ثم بين - سبحانه - حق المطلقات فقال : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين } أي وللمطلقات على أزواجهن الذين طلقوهن متاع بالمعروف أي شيء ينتفع به انتفاعاً ممتدا لمدة من الوقت مما تعارف العقلاءي عليه وعلى فائدته للمرأة ، وهذا المتاع جعله الله حقا على المتقين الذين يصونون أنفسهم عن كل ما يبغضه الله - تعالى - .
وقد جعل الله هذا الحق للمطلقة على مطلقها جبراً لوحشة الفراق وإزالة لما قد يكون بين الزوجين من شقاق ، وتخفيفاً لما قد يحيط بجو الطلاق من تنافر وتخاصم وعدم وفاق .
وقال ابن كثير : وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى وجوب المتعة لكل مطلقة سواء أكانت مفوضة ، أو مفروضاً لها ، أو مطلقة قبل المسيس ، أو مدخولا بها . وإليه ذهب سعيد بن جبير وغيره من السلف واختاره ابن جرير ، وهو قول عن الشافعي .
وعلى هذا التفسير يكون المراد بالمتاع ما يعطيه الرجل لامرأته التي طلقها زيادة عن الحقوق المقررة لها شرعا ليكون التسريح بإحسان .
ومن العلماء من يرى أن المراد بالمتاع هنا النفقة التي تكون للمطلقة في العدة قال الفخر الرازي : واعلم أن المراد بالمتاع ههنا فيه قولان :
أنه هو المتعة فظاهر هذه الآية يقتضي وجوب هذه المتعة لكل المطلقات .
والقول الثاني " أن المراد بهذه المتعة النفقة ، والنفقة قد تسمى متاعا ، وإذا حملنا هذا المتاع على النفقة اندفع التكرار فكان ذلك أولى " .
ويظهر أن مراد الفخر الرازي بقوله : " اندفع التكرار " أي ما بين هذه الآية التي سبقة وهي قوله - تعالى - : { وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ مَتَاعاً بالمعروف حَقّاً عَلَى المحسنين } ولك أن تقول : إنه لا تكرار مع إرادة المتعة التي ليست هي النفقة لأنه في السابقة بين أنها حق للمرأة حين تلطق ولم يكن قد قدر لها حق في المتعة إذا لم يوص لها زوجها بالنفقة .
والآية الثانية تقرر حق المتاع للمطلقات عامة ، وتعلق الأمر كله بالتقوى :
( وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين ) .
وبعضهم يرى أنها منسوخة كذلك بالأحكام السابقة . . ولا حاجة لافتراض النسخ . فالمتاع غير النفقة . . ومما يتمشى مع الإيحاءات القرآنية في هذا المجال تقرير المتعة لكل مطلقة . المدخول بها وغير المدخول بها . المفروض لها مهر وغير المفروض لها . لما في المتعة من تندية لجفاف جو الطلاق ، وترضية للنفوس الموحشة بالفراق . وفي الآية استجاشة لشعور التقوى ، وتعليق الأمر به . وهي الضمان الأكيد والضمان الوحيد .
وقوله : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : لما نزل قوله : { مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ } [ البقرة : 236 ] قال رجل : إن شئتُ أحسنت ففعلت وإن شئتُ لم أفعل . فأنزل الله هذه الآية : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ } وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى وجوب المتعة لكل مطلقة ، سواء كانت مفوضة أو مفروضًا لها أو مطلقًا{[4192]} قبل المسيس أو مدخولا بها ، وهو قول عن الشافعي ، رحمه الله . وإليه ذهب سعيد بن جبير . وغيره من السلف واختاره ابن جرير . ومن لم يوجبها مطلقا يخصص من هذا العموم بمفهوم قوله : { لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ } وأجاب الأولون : بأن هذا من باب ذكر بعض أفراد العموم فلا تخصيص على المشهور المنصور ، والله أعلم .
القول في تأويل قوله جل ذكره ( وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بذلك : ولمن طلق من النساء على مطلقها من الأزواج ، " متاع " . يعني بذلك : ما تستمتع به من ثياب وكسوة أو نفقة أو خادم ، وغير ذلك مما يستمتع به . وقد بينا فيما مضى قبل معنى ذلك ، واختلاف أهل العلم فيه ، والصواب من القول من ذلك عندنا ، بما فيه الكفاية من إعادته .
وقد اختلف أهل العلم في المعنية بهذه الآية من المطلقات .
فقال بعضهم : عني بها الثيِّبات اللواتي قد جومعن . قالوا : وإنما قلنا ذلك ، لأن [ الحقوق اللازمة للمطلقات ] غير المدخول بهن في المتعة ، قد بينها الله تعالى ذكره في الآيات قبلها ، فعلمنا بذلك أن في هذه الآية بيان أمر المدخول بهن في ذلك .
5590- حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء في قوله : " وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين " ، قال : المرأة الثيب يمتعها زوجها إذا جامعها بالمعروف .
5591- حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله وزاد فيه : ذكره شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء .
وقال آخرون : بل في هذه الآية دلالة على أن لكل مطلقة متعة ، وإنما أنزلها الله تعالى ذكره على نبيه صلى الله عليه وسلم ، لما فيها من زيادة المعنى الذي فيها على ما سواها من آي المتعة ، إذ كان ما سواها من آي المتعة إنما فيه بيان حكم غير الممسوسة إذا طلقت ، وفي هذه بيان حكم جميع المطلقات في المتعة .
5592- حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الوهاب قال ، حدثنا أيوب ، عن سعيد بن جبير في هذه الآية : " وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين " ، قال : لكل مطلقة متاع بالمعروف حقا على المتقين .
5593- حدثنا المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، أخبرنا يونس ، عن الزهري- في الأمة يطلقها زوجها وهي حبلى- قال : تعتد في بيتها . وقال : لم أسمع في متعة المملوكة شيئا أذكره ، وقد قال الله تعالى ذكره : " متاع بالمعروف حقا على المتقين " ، ولها المتعة حتى تضع .
5594- حدثني المثنى قال ، حدثنا حبان بن موسى قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، أخبرنا ابن جريج ، عن عطاء قال : قلت له : أللأمة من الحر متعة ؟ قال : لا . قلت : فالحرة عند العبد ؟ قال : لا= وقال عمرو بن دينار : نعم ، " وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين " .
وقال آخرون : إنما نزلت هذه الآية ، لأن الله تعالى ذكره لما أنزل قوله : وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ، قال رجل من المسلمين : فإنا لا نفعل إن لم نرد أن نحسن . فأنزل الله : " وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين " ، فوجب ذلك عليهم .
5595- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ، فقال رجل : فإن أحسنت فعلت ، وإن لم أرد ذلك لم أفعل ! فأنزل الله : " وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين " .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ما قاله سعيد بن جبير ، من أن الله تعالى ذكره أنزلها دليلا لعباده على أن لكل مطلقة متعة . لأن الله تعالى ذكره ذكر في سائر آي القرآن التي فيها ذكر متعة النساء ، خصوصا من النساء ، فبين في الآية التي قال فيها : لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ، وفي قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ، ما لهن من المتعة إذا طلقن قبل المسيس ، وبقوله : يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ ، حكم المدخول بهن ، وبقي حكم الصبايا إذا طلقن بعد الابتناء بهن ، وحكم الكوافر والإماء . فعم الله تعالى ذكره بقوله : " وللمطلقات متاع بالمعروف " ذكر جميعهن ، وأخبر بأن لهن المتاع ، كما خص المطلقات الموصوفات بصفاتهن في سائر آي القرآن ، ولذلك كرر ذكر جميعهن في هذه الآية .
وأما قوله : ( حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) ، فإنا قد بينا معنى قوله : " حقا " ، ووجه نصبه ، والاختلاف من أهل العربية في قوله : حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ، ففي ذلك مستغنى عن إعادته في هذا الموضع .
فأما " المتقون " : فهم الذين اتقوا الله في أمره ونهيه وحدوده ، فقاموا بها على ما كلفهم القيام بها خشية منهم له ، ووجلا منهم من عقابه .
{ وللمطلقات متاع بالمعروف حَقّا عَلَى المتقين } أثبت المتعة للمطلقات جميعاً بعدما أوجبها لواحدة منهن ، وإفراد بعض العام بالحكم لا يخصصه إلا إذا جوزنا تخصيص المنطوق بالمفهوم ولذلك أوجبها ابن جبير لكل مطلقة ، وأول غيره بما يعم التمتيع الواجب والمستحب . وقال قوم المراد بالمتاع نفقة العدة ، ويجوز أن تكون اللام للعهد والتكرير للتأكيد أو لتكرر القضية .
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ( 241 )
اختلف الناس في هذه الآية ، فقال أبو ثور : «هي محكمة ، والمتعة لكل مطلقة دخل بها أو لم يدخل ، فرض لها أو لم يفرض ، بهذه الآية » ، وقال الزهري : «لكل مطلقة متعة ، وللأمة يطلقها زوجها » . وقال سعيد بن جبير : «لكل مطلقة متعة » . وقال ابن القاسم في إرخاء الستور من المدونة : «جعل الله تعالى المتاع لكل مطلقة بهذه الآية ، ثم استثنى في الآية الأخرى التي قد فرض لها ولم يدخل بها فأخرجها من المتعة ، وزعم زيد بن أسلم أنها نسختها » .
قال القاضي أبو محمد : ففر ابن القاسم رحمه الله من لفظ النسخ إلى لفظ الاستثناء ، والاستثناء لا يتجه في هذا الموضع ، بل هو نسخ محض كما قال زيد بن أسلم . وإذا التزم ابن القاسم أن قوله { وللمطلقات } عمَّ كل مطلقة لزمه القول بالنسخ ولا بد . وقال عطاء بن أبي رباح وغيره . هذه الآية في الثيب( {[2347]} ) اللواتي قد جومعن إذ قد تقدم في غير هذه الآية ذكر المتعة للواتي لم يدخل بهن .
قال القاضي أبو محمد : فهذا قول بأن التي قد فرض لها قبل المسيس لم تدخل قط في هذا العموم ، فهذا يجيء قوله على أن قوله تعالى : { فإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } [ البقرة : 237 ] مخصصة لهذا الصنف من النساء ، ومتى قيل إن العموم تناولها فذلك نسخ لا تخصيص( {[2348]} ) ، وقال ابن زيد : «هذه الآية نزلت مؤكدة لأمر المتعة ، لأنه نزل قبل { حقاً على المحسنين } [ البقرة : 236 ] فقال رجل : فإن لم أرد أن أحسن لم أمتع ، فنزلت : { حقاً على المتقين } فوجب ذلك عليهم » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : هذا الإيجاب هو من تقويل الطبري لا من لفظ ابن زيد .
وقوله تعالى : { حقاً } نصب على المصدر ، و { المتقين } هنا ظاهره أن المراد من تلبس بتقوى الله ( {[2349]} )تعالى .
عطف على جملة : { والذين يتوفون منكم } [ البقرة : 240 ] جُعل استيفاء لأحكام المتعة للمطلقات ، بعد أن تقدم حكم متعة المطلقات قبل المسيس وقبل الفرض ، فعمم بهذه الآية طلب المتعة للمطلقات كلهن ، فاللام في قوله : { وللمطلقات متاع } لام الاستحقاق .
والتعريف في المطلقات يفيد الاستغراق ، فكانت هذه الآية قد زادت أحكاماً على الآية التي سبقتها . وعن جابر بن زيد قال : لما نزل قوله تعالى : { ومتعوهن على الموسع قدره } إلى قوله : { حقا على المحسنين } [ البقرة : 236 ] قال رجل : إن أحسنت فعلت وإن لم أرد ذلك لم أفعل ، فنزل قوله تعالى : { وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين } فجعلها بيانا للآية السابقة ، إذ عوض وصف المحسنين بوصف المتقين .
والوجه أن اختلاف الوصفين في الآيتين لا يقتضي اختلاف جنس الحكم باختلاف أحوال المطلقات ، وأن جميع المتعة من شأن المحسنين والمتقين ، وأن دلالة صيغة الطلب في الآيتين سواء إن كان استحباباً أو كان إيجاباً . l فالذين حملوا الطلب في الآية السابقة على الاستحباب ، حملوه في هذه الآية على الاستحباب بالأولى ، ومعولهم في محمل الطلب في كلتا الآيتين ليس إلا على استنباط علة مشروعية المتعة وهي جبر خاطر المطلقة استبقاء للمودة ، ولذلك لم يستثن مالك من مشمولات هذه الآية إلا المختلعة ؛ لأنها هي التي دعت إلى الفرقة دون المطلق .
والذين حملوا الطلب في الآية المتقدمة على الوجوب ، اختلفوا في محمل الطلب في هذه الآية فمنهم من طرد قوله بوجوب المتعة لجميع المطلقات ، ومن هؤلاء عطاء وجابر بن زيد وسعيد ابن جبير وابن شهاب والقاسم بن محمد وأبو ثور ، ومنهم من حمل الطلب في هذه الآية على الاستحباب وهو قول الشافعي ، ومرجعه إلى تأويل ظاهر قوله : { وللمطلقات } بما دل عليه مفهوم قوله في الآية الأخرى { ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة } [ البقرة : 236 ] .