فالعذاب لا بد أن يقع عليهم من الله ، فإما أن يعجل لهم في الدنيا ، وإما أن يؤخر عنهم إلى الآخرة{[1224]} ، فلو عرفوا الله تعالى ، وعرفوا عظمته ، وسعة سلطانه وكمال أسمائه وصفاته ، لما استعجلوا ولاستسلموا وتأدبوا ، ولهذا أخبر تعالى من عظمته ما يضاد أقوالهم القبيحة فقال : { ذِي الْمَعَارِجِ }
ثم وصف - سبحانه - العذاب بصفات أخرى ، غير الوقوع فقال : { لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِّنَ الله ذِي المعارج } واللام فى قوله { لِّلْكَافِرِينَ } بمعنى على . أو للتعليل .
أى : سأل سائل عن عذاب واقع على الكافرين ، هذا العذاب ليس له دافع يدفعه عنهم ، لأنه واقع من الله - تعالى - { ذِي المعارج } .
والمعارج جمع معرج ، وهو المصعد ، ومنه قوله - تعالى -
{ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } وقد ذكر المفسرون فى المراد بالمعارج وجوها منها : أن المراد بها السموات ، فعن ابن عباس أنه قال أى : ذى السموات ، وسماها معارج لأن الملائكة يعرجون فيها .
ومنها : أن المراد بها : النعم والمنن . فعن قتادة أنه قال : ذى المعارج ، أى : ذى الفواضل والنعم . وذلك لأن لأياديه ووجوه إنعامه مراتب ، وهى تصل إلى الناس على مراتب مختلفة .
ومنها : أن المراد بها الدرجات التى يعطيها لأوليائه فى الجنة .
وفى وصفه - سبحانه - ذاته ب { ذِي الْمَعَارِجِ } : استحضار لصورة عظمة جلاله ، وإشعار بكثرة مراتب القرب من رضاه وثوابه ، فإن المعارج من خصائص منازل العظماء .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد وصف هذا العذاب الواقع على الكافرين . بجملة من الصفات ، لتكون رداً فيه ما فيه من التهديد والوعيد للجاحدين ، الذى استهزأوا به وأنكروه .
سأل سائل بعذاب واقع ، للكافرين ليس له دافع ، من الله ذي المعارج ، تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، فاصبر صبرا جميلا ، إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا ، يوم تكون السماء كالمهل ، وتكون الجبال كالعهن ، ولا يسأل حميم حميما ، يبصرونهم ، يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه ، وصاحبته وأخيه ، وفصيلته التي تؤويه ، ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه . كلا ! إنها لظى ، نزاعة للشوى ، تدعو من أدبر وتولى ، وجمع فأوعى . .
كانت حقيقة الآخرة من الحقائق العسيرة الإدراك عند مشركي العرب ؛ ولقد لقيت منهم معارضة نفسية عميقة ، وكانوا يتلقونها بغاية العجب والدهش والاستغراب ؛ وينكرونها أشد الإنكار ، ويتحدون الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] في صور شتى أن يأتيهم بهذا اليوم الموعود ، أو أن يقول لهم : متى يكون .
وفي رواية عن ابن عباس أن الذي سأل عن العذاب هو النضر بن الحارث . وفي رواية أخرى عنه : قال : ذلك سؤال الكفار عن عذاب الله وهو واقع بهم .
وعلى أية حال فالسورة تحكي أن هناك سائلا سأل وقوع العذاب واستعجله . وتقرر أن هذا العذاب واقع فعلا ، لأنه كائن في تقدير الله من جهة ، ولأنه قريب الوقوع من جهة أخرى . وأن أحدا لا يمكنه دفعه ولا منعه . فالسؤال عنه واستعجاله - وهو واقع ليس له من دافع - يبدو تعاسة من السائل المستعجل ؛ فردا كان أو مجموعة !
وهذا العذاب للكافرين . . إطلاقا . . فيدخل فيه أولئك السائلون المستعجلون كما يدخل فيه كل كافر . وهو واقع من الله ( ذي المعارج ) . . وهو تعبير عن الرفعة والتعالي ، كما قال في السورة الأخرى : ( رفيع الدرجات ذو العرش ) . .
وقوله : ذِي المَعارِجِ يعني : ذا العلوّ والدرجات والفواضل والنعم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : ذِي المَعارِج يقول : العلوّ والفواضل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة مِنَ اللّهِ ذِي المَعارِجِ : ذي الفواضل والنّعم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : مِنَ اللّهِ ذِي المَعارِجِ قال معارج السماء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ذِي المَعارِجِ قال : الله ذو المعارج .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن رجل ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ذِي المَعارِجِ قال : ذي الدرجات .
وقوله : { من الله } يتنازع تعلقه وصفا { واقع ودافع . } و { مِن } للابتداء المجازي على كلا التعلقين مع اختلاف العلاقة بحسب ما يقتضيه الوصف المتعلَّق به .
فابتداء الواقع استعارة لإذن الله بتسليط العذاب على الكافرين وهي استعارة شائعة تساوي الحقيقة . وأما ابتداء الدافع فاستعارة لتجاوزه مع المدفوع عنه من مكان مَجازي تتناوله قدرة القادر مثل { من } في قوله تعالى : { وظنوا أن لا ملجأ من الله إلاّ إليه } [ التوبة : 118 ] وقوله : { يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله } [ النساء : 108 ] .
وبهذا يكون حرف { مِن } مستعملاً في تعيين مجازين متقاربين .
وإجراء وصف { ذي المعارج } على اسم الجلالة لاستحضار عظمة جلالة ولإِدماج الإِشعار بكثرة مراتب القرب من رضاه وثوابه ، فإن المعارج من خصائص منازل العظماء قال تعالى : { لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون } [ الزخرف : 33 ] . ولكل درجة المعارج قوم عملوا لنوالها قال تعالى : { يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } [ المجادلة : 11 ] ، وليكون من هذا الوصف تخلص إلى ذكر يوم الجزاء الذي يكون فيه العذاب الحق للكافرين .
و { المعارج } : جمع مِعْرَج بكسر الميم وفتح الراء وهو ما يعرج به ، أي يصعد من سلم ومدرج .