258- ألم تر إلى من عمي عن أدلة الإيمان وجادل إبراهيم خليل الله في ألوهية ربه ووحدانيته ، وكيف أخرجه غروره بملكه - الذي وهبه ربه - من نور الفطرة إلى ظلام الكفر فعندما قال له إبراهيم : إن الله يحيي ويميت ، بنفخ الروح في الجسم وإخراجها منه ، قال : أنا أحيي وأميت بالعفو والقتل ، فقال إبراهيم ليقطع مجادلته : إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب إن كنت إلها كما تدعى . فتحير وانقطع جدله من قوة الحُجة التي كشفت عجزه وغروره ، والله لا يوفق المصرِّين المعاندين لاتباع الحق .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
يقول تعالى : { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } أي : إلى جرائته وتجاهله وعناده ومحاجته فيما لا يقبل التشكيك ، وما حمله على ذلك إلا { أن آتاه الله الملك } فطغى وبغى ورأى نفسه مترئسا على رعيته ، فحمله ذلك على أن حاج إبراهيم في ربوبية الله فزعم أنه يفعل كما يفعل الله ، فقال إبراهيم { ربي الذي يحيي ويميت } أي : هو المنفرد بأنواع التصرف ، وخص منه الإحياء والإماتة لكونهما أعظم أنواع التدابير ، ولأن الإحياء مبدأ الحياة الدنيا والإماتة مبدأ ما يكون في الآخرة ، فقال ذلك المحاج : { أنا أحيي وأميت } ولم يقل أنا الذي أحيي وأميت ، لأنه لم يدع الاستقلال بالتصرف ، وإنما زعم أنه يفعل كفعل الله ويصنع صنعه ، فزعم أنه يقتل شخصا فيكون قد أماته ، ويستبقي شخصا فيكون قد أحياه ، فلما رآه إبراهيم يغالط في مجادلته ويتكلم بشيء لا يصلح أن يكون شبهة فضلا عن كونه حجة ، اطرد معه في الدليل فقال إبراهيم : { فإن الله يأتي بالشمس من المشرق } أي : عيانا يقر به كل أحد حتى ذلك الكافر { فأت بها من المغرب } وهذا إلزام له بطرد دليله إن كان صادقا في دعواه ، فلما قال له أمرا لا قوة له في شبهة تشوش دليله ، ولا قادحا يقدح في سبيله { بهت الذي كفر } أي : تحير فلم يرجع إليه جوابا وانقطعت حجته وسقطت شبهته ، وهذه حالة المبطل المعاند الذي يريد أن يقاوم الحق ويغالبه ، فإنه مغلوب مقهور ، فلذلك قال تعالى : { والله لا يهدي القوم الظالمين } بل يبقيهم على كفرهم وضلالهم ، وهم الذين اختاروا لأنفسهم ذلك ، وإلا فلو كان قصدهم الحق والهداية لهداهم إليه ويسر لهم أسباب الوصول إليه ، ففي هذه الآية برهان قاطع على تفرد الرب بالخلق والتدبير ، ويلزم من ذلك أن يفرد بالعبادة والإنابة والتوكل عليه في جميع الأحوال ، قال ابن القيم رحمه الله : وفي هذه المناظرة نكتة لطيفة جدا ، وهي أن شرك العالم إنما هو مستند إلى عبادة الكواكب والقبور ، ثم صورت الأصنام على صورها ، فتضمن الدليلان اللذان استدل بهما إبراهيم إبطال إلهية تلك جملة بأن الله وحده هو الذي يحيي ويميت ، ولا يصلح الحي الذي يموت للإلهية لا في حال حياته ولا بعد موته ، فإن له ربا قادرا قاهرا متصرفا فيه إحياء وإماتة ، ومن كان كذلك فكيف يكون إلها حتى يتخذ الصنم على صورته ، ويعبد من دونه ، وكذلك الكواكب أظهرها وأكبرها للحس هذه الشمس وهي مربوبة مدبرة مسخرة ، لا تصرف لها بنفسها بوجه ما ، بل ربها وخالقها سبحانه يأتي بها من مشرقها فتنقاد لأمره ومشيئته ، فهي مربوبة مسخرة مدبرة ، لا إله يعبد من دون الله . " من مفتاح دار السعادة "
ثم ساق القرآن بعد ذلك بعض الأمثلة للمؤمنين المهتدين وللضالين المغرورين فقال - تعالى - :
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ . . . }
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 258 )
{ حَآجَّ } أي جادل وخاصم والمحاجة : المخاصمة والمغالبة بالقول يقال حاججته فحججته أي خاصمته بالقول فتغلبت عليه وتستعمل المحاجة كثيراً في المخاصمة بالباطل ومن ذلك قوله - تعالى - : { فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن } وقوله - تعالى - : { وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أتحاجواني فِي الله وَقَدْ هَدَانِ } والمعنى : لقد علمت أيها العاقل صفة ذلك الكافر المغرور الذي جادل إبراهيم - عليه السلام - في شأن خالقه عز وجل - ومن لم يعلم قصته فها نحن أولاء نخبره عن طريق هذا الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
والاستفهام للتعجب من شأن هذا الكافر وما صار إليه أمر غروره وبطره والمراد به - كما قال ابن كثير - نمرود بن كنعان بن كوس بن سام ابن نوح ملك بابل ، وكان معاصراً لسيدنا إبراهيم - عليه السلام - .
وأطلق القرآن على ما دار بين هذا الملك المغرور بين سيدنا إبراهيم أنها حاجة مع أنها مجادلة بالباطل من هذا الملك ، أطلق ذلك من باب المماثلة اللفظية أو هي محاجة في نظره السقيم ورأيه الباطل .
والضمير في قوله : { فِي رَبِّهِ } يعود إلى إبراهيم - عليه السلام - وقيل يعود إلى نمرود لأنه هو المتحدث عنه فالضمير يعود إليه والإِضافة - على الرأي الأول - للتشريف ، وللإِيذان من أول الأمر بأن الله - تعالى - مؤيد وناصر لعبده إبراهيم . وقوله : { أَنْ آتَاهُ الله الملك } بيان لسبب إقدام هذا الملك على ما أقدم عليه من ضلال وطغيان . أي سبب هذه المحاجة لأنه أعطاه الله - تعالى - الملك فبطر وتكبر ولم يشكره - سبحانه - على هذه النعمة ، بل استعملها في غير ما خلقت له فقوله : { أَنْ آتَاهُ } مفعول لأجله ، والكلام على تقدير حذف لام الجر ، وهو مطرد الحذف مع أن وأن .
وقوله : { إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } حكاية لما قاله إبراهيم عليه السلام لذل كالملك في مقام التدليل على وحدانية الله وأنه - سبحانه - هو المستحق للعبادة أي قال له : ربي وحده هو الذي ينشئ الحياة ويوجدها ، ويميت الأرواح ويفقدها حياتها ، ولا يوجد أحد سواه يستطيع أن يفعل ذلك .
وقول إبراهيم - كما حكاه القرآن - : { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } مفيد للقصر عن طريق تعريف المبتدأ وهو { رَبِّيَ } والخبر هو الموصول وصلته .
وعبر بالمضارع في قوله : { الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } لإفادة معنى التجدد والحدوث الذي يرى ويحس بين وقت وآخر .
أي ربي هو الذي يحيى الناس ويميتهم كما ترى ذلك مشاهداً في كثير من الأوقات ، فمن الواجب عليك أن تخصه بالعبادة والخضوع وأن تقلع عما أنت فيه من كفر وطغيان وضلال .
وقوله : { إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ } ظرف لقوله : { حَآجَّ } أو بدل اشتمال منه ، و في هذا القول الذي حكاه القرآن عن إبراهيم - عليه السلام - أوضح حجة وأقواها على وحدانية الله واستحقاقه للعبادة ، لأن كل عاقل يدرك أن الحق هو الذي يملك الإِحياء والإِماتة ويملك بعث الناس يوم القيامة ليحاسبهم على أعمالهم وهو أمر ينكره ذلك الملك الكافر .
قال الإِمام الرازي ما ملخصه : والظاهر أن قول إبراهيم { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } جواب لسؤال سابق غير مذكور . وذلك أنه من المعلوم أن الأنبياء بعثوا للدعوة إلأى الله ، ومتى ادعى الرسول الرسالة فإن المنكر يطالبه بإثبات أن للعالم إلهاً . فالظاهر هنا أن إبراهيم ادعى الرسالة فقال له نمرود : من ربك ؟ فقال إبراهيم : ربي الذي يحيى ويميت ، إلا أن تلك المقدمة حذفت لأن الواقعة تدل عليها ، ودليل إبراهيم في غاية الصحة لأن الخلق عاجزون عن الإِحياء والإِماتة وقدم ذكر الحياة على الموت هنا . لأن من شأن الدليل أن يكون في غاية الوضوح والقوة ، ولا شك أن عجائب الخلقة حال الحياة أكثر ، واطلاع الإِنسان عليها أتم فلا جرم وجب تقديم الحياة ها هنا في الذكر .
م حكى القرآن جواب نمرود على إبراهيم فقال : { قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ } أي قال ذلك الطاغية : إذا كنت يا إبراهيم تدعى أن ربك وحده الذي يحيى ويميت فأنا أعرضك في ذلك لأنى أنا - أيضاً أحيي وأميت وما دام الأمر كذلك فأنا مستحق للربوبية . قالوا : ويقصد بقوله هذا أنه يستطيع أن يعفو عمن حكم بقتله ، ويقتل من شاء أن يقتله .
ولقد كان في استطاعة إبراهيم - عليه السلام - أن يبطل قوله ، بأن يبين له بأن ما يدعيه ليس من الأحياء والإِماتة المقصودين بالاحتجاج ، لأن ما قصده إبراهيم هو إنشاء الحياة وإنشاء الموت ، كان في استطاعة الخليل - عليه السلام - أن يفعل ذلك ، ولكنه آثر ترك فتح باب الجدال والمحاورة ، وأتاه بحجة هي غاية في الإِفحام فقال له - كما حكى القرآن : { فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب } .
أي قال إبراهيم لخمه المغرور : لقد زعمت أنك تملك الإِحياء والإِماتة كما يملك الله - تعالى - ذلك ، ومن شأن هذا الزعم أن يجعلك مشاركاً لله - تعالى - في قدرته فإن كان ذلك صحيحاً فأنت ترى وغيرك يرى أن الله - تعالى - يأتي بالشمس من جهة المشرق عند شروقها فأت بها أنت من جهة المغرب في هذا الوقت فماذا كانت نتيجة هذه الحجة الدامغة التي قذفها إبراهيم - عليه السلام - في وجه خصمه ؟ كانت نتيجتها - كما حكى القرآن - { فَبُهِتَ الذي كَفَرَ } أي : غلبت وقهر ، وتحير وانقطع عن حجاجه ، واضطرب ولم يستطع أن يتكلم ، لأنه فوجئ بما لا يملك دفعه .
و ( بهت ) فعل ماض جاء على صورة الفعل المبني للمجهول - كزهي وزكم - والمعنى فيه على البناء للفاعل . وقوله : { الذي كَفَرَ } هو فاعله . والبهت : الانقطاع والحيرة ، وقرئ بوزن - علم ونصر وكرم .
والفاء في قوله : { فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس } . . إلخ فصيحة لأنها أفصحت عن جواب لشرط مقدر أي إن كنت كما تزعم أنك تحيي وتميت وأن قدرتك كقدرة الله فإن الله - تعالى - يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من الغرب .
وعبر عن هذا البهوت بقوله : { فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس } للإِشعار بأن سبب حيرته واضطرابه هو كفره وعناده .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } أي لا يهديهم إلى طريق الحق . ولا يلهمهم حجة ولا برهاناً . بسبب ظلمهم وطغيانهم وإيثارهم طريق الشيطان على طريق الرحمن .
وبذلك نرى أن الآية الكريمة قد حكت للناس لوناً من ألوان رعاية الله لأوليائه وخذلانه لأعدائه لكي يكون في ذلك عبرة وعظة لقوم يعقلون .
والآية الأولى تحكي حوارا بين إبراهيم - عليه السلام - وملك في أيامه يجادله في الله . لا يذكر السياق اسمه ، لأن ذكر اسمه لا يزيد من العبرة التي تمثلها الآية شيئا . وهذا الحوار يعرض على النبي [ ص ] وعلى الجماعة المسلمة في أسلوب التعجيب من هذا المجادل ، الذي حاج إبراهيم في ربه ؛ وكأنما مشهد الحوار يعاد عرضه من ثنايا التعبير القرآني العجيب :
( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك ؟ إذ قال إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت . قال : أنا أحيي وأميت ! قال إبراهيم : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب . فبهت الذي كفر . والله لا يهدي القوم الظالمين ) . .
إن هذا الملك الذي حاج إبراهيم في ربه لم يكن منكرا لوجود الله أصلا إنما كان منكرا لوحدانيته في الألوهية والربوبية ولتصريفه للكون وتدبيره لما يجري فيه وحده ، كما كان بعض المنحرفين في الجاهلية يعترفون بوجود الله ولكنهم يجعلون له اندادا ينسبون إليها فاعلية وعملا في حياتهم ! وكذلك كان منكرا أن الحاكمية لله وحده ، فلا حكم إلا حكمه في شؤون الأرض وشريعة المجتمع .
إن هذا الملك المنكر المتعنت إنما ينكر ويتعنت للسبب الذي كان ينبغي من أجله أن يؤمن ويشكر . هذا السبب هو ( أن آتاه الله الملك ) . . وجعل في يده السلطان ! لقد كان ينبغي أن يشكر ويعترف ، لولا أن الملك يطغي ويبطر من لا يقدرون نعمة الله ، ولا يدركون مصدر الإنعام . ومن ثم يضعون الكفر في موضع الشكر ؛ ويضلون بالسبب الذي كان ينبغي أن يكونوا به مهتدين ! فهم حاكمون لأن الله حكمهم ، وهو لم يخولهم استعباد الناس بقسرهم على شرائع من عندهم . فهم كالناس عبيد لله ، يتلقون مثلهم الشريعة من الله ، ولا يستقلون دونه بحكم ولا تشريع فهم خلفاء لا أصلاء !
ومن ثم يعجب الله من أمره وهو يعرضه على نبيه :
( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك ؟ ) . .
ألم تر ؟ إنه تعبير التشنيع والتفظيع ؛ وإن الإنكار والاستنكار لينطلقان من بنائه اللفظي وبنائه المعنوي سواء . فالفعلة منكرة حقا : أن يأتي الحجاج والجدال بسبب النعمة والعطاء ! وأن يدعي عبد لنفسه ما هو من اختصاص الرب ، وأن يستقل حاكم بحكم الناس بهواه دون أن يستمد قانونه من الله .
( قال إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت ) . .
والإحياء والإماتة هما الظاهرتان المكرورتان في كل لحظة ، المعروضتان لحس الإنسان وعقله . وهما - في الوقت نفسه - السر الذي يحير ، والذي يلجيء الإدراك البشري الجاء إلى مصدر آخر غير بشري . وإلى أمر آخر غير أمر المخاليق . ولا بد من الالتجاء إلى الألوهية القادرة على الإنشاء والإفناء لحل هذا اللغز الذي يعجز عنه كل الأحياء .
إننا لا نعرف شيئا عن حقيقة الحياة وحقيقة الموت حتى اللحظة الحاضرة . ولكننا ندرك مظاهرهما في الأحياء والأموات . ونحن ملزمون أن نكل مصدر الحياة والموت إلى قوة ليست من جنس القوى التي نعرفها على الإطلاق . . قوة الله . .
ومن ثم عرف إبراهيم - عليه السلام - ربه بالصفة التي لا يمكن أن يشاركه فيها أحد ، ولا يمكن أن يزعمها أحد ، وقال وهذا الملك يسأله عمن يدين له بالربوبية ويراه مصدر الحكم والتشريع غيره . . قال : ربي الذي يحيي ويميت فهو من ثم الذي يحكم ويشرع .
وما كان إبراهيم - عليه السلام - وهو رسول موهوب تلك الموهبة اللدنية التي أشرنا إليها في مطلع هذا الجزء - ليعني من الأحياء والإماتة إلا إنشاء هاتين الحقيقتين إنشاء . فذلك عمل الرب المتفرد الذي لا يشاركه فيه أحد من خلقه . ولكن الذي حاج إبراهيم في ربه رأى في كونه حاكما لقومه وقادرا على إنفاذ أمره فيهم بالحياة والموت مظهرا من مظاهر الربوبية . فقال لإبراهيم : أنا سيد هؤلاء القوم وأنا المتصرف في شأنهم ، فأنا إذن الرب الذي يجب عليك أن تخضع له ، وتسلم بحاكميته :
عند ذلك لم يرد إبراهيم - عليه السلام - أن يسترسل في جدل حول معنى الإحياء والإماتة مع رجل يماري ويداور في تلك الحقيقة الهائلة . حقيقة منح الحياة وسلبها . هذا السر الذي لم تدرك منه البشرية حتى اليوم شيئا . . وعندئذ عدل عن هذه السنة الكونية الخفية ، إلى سنة أخرى ظاهرة مرئية ؛ وعدل عن طريقة العرض المجرد للسنة الكونية والصفة الإلهية في قوله : ( ربي الذي يحيي ويميت ) . . إلى طريقة التحدي ، وطلب تغيير سنة الله لمن ينكر ويتعنت ويجادل في الله ؛ ليريه أن الرب ليس حاكم قوم في ركن من الأرض ، إنما هو مصرف هذا الكون كله . ومن ربوبيته هذه للكون يتعين أن يكون هو رب الناس المشرع لهم :
( قال إبراهيم : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ) . .
وهي حقيقة كونية مكرورة كذلك ؛ تطالع الأنظار والمدارك كل يوم ؛ ولا تتخلف مرة ولا تتأخر . وهي شاهد يخاطب الفطرة - حتى ولو لم يعرف الإنسان شيئا عن تركيب هذا الكون ، ولم يتعلم شيئا من حقائق الفلك ونظرياته - والرسالات تخاطب فطرة الكائن البشري في أية مرحلة من مراحل نموه العقلي والثقافي والاجتماعي ، لتأخذ بيده من الموضع الذي هو فيه . ومن ثم كان هذا التحدي الذي يخاطب الفطرة كما يتحدث بلسان الواقع الذي لا يقبل الجدل :
فالتحدي قائم ، والأمر ظاهر ، ولا سبيل إلى سوء الفهم ، أو الجدال والمراء . . وكان التسليم أولى والإيمان أجدر . ولكن الكبر عن الرجوع إلى الحق يمسك بالذي كفر ، فيبهت ويبلس ويتحير . ولا يهديه الله إلى الحق لأنه لم يتلمس الهداية ، ولم يرغب في الحق ؛ ولم يلتزم القصد والعدل :
( والله لا يهدي القوم الظالمين ) . .
ويمضي هذا الجدل الذي عرضه الله على نبيه [ ص ] وعلى الجماعة المسلمة . مثلا للضلال والعناد ؛ وتجربة يتزود بها أصحاب الدعوة الجدد في مواجهة المنكرين ؛ وفي ترويض النفوس على تعنتالمنكرين !
كذلك يمضي بتقرير تلك الحقائق التي تؤلف قاعدة التصور الإيماني الناصع : ( ربي الذي يحيي ويميت ) . .
( فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ! ) . . حقيقة في الأنفس وحقيقة في الآفاق . حقيقتان كونيتان هائلتان ؛ وهما - مع ذلك - مكرورتان معروضتان للبصائر والأبصار آناء الليل وأطراف النهار . لا تحتاجان إلى علم غزير ، ولا إلى تفكير طويل . فالله أرحم بعباده أن يكلهم في مسألة الإيمان به والاهتداء إليه ، إلى العلم الذي قد يتأخر وقد يتعثر ، وإلى التفكير الذي قد لا يتهيأ للبدائيين . إنما يكلهم في هذا الأمر الحيوي الذي لا تستغني عنه فطرتهم ، ولا تستقيم بدونه حياتهم ، ولا ينتظم مع فقدانه مجتمعهم . . ولا يعرف الناس بدونه من أين يتلقون شريعتهم وقيمهم وآدابهم . . يكلهم في هذا الأمر إلى مجرد التقاء الفطرة بالحقائق الكونية المعروضة على الجميع ، والتي تفرض نفسها فرضا على الفطرة ، فلا يحيد الإنسان عن إيحائها الملجيء إلا بعسر ومشقة ومحاولة ومحال وتعنت وعناد !
والشأن في مسألة الاعتقاد هو الشأن في كل أمر حيوي تتوقف عليه حياة الكائن البشري . فالكائن الحي يبحث عن الطعام والشراب والهواء - كما يبحث عن التناسل والتكاثر - بحثا فطريا ، ولا يترك الأمر في هذه الحيويات حتى يكمل التفكير وينضج ، أو حتى ينمو العلم ويغزر . . وإلا تعرضت حياة الكائن الحي إلى الدمار والبوار . . والإيمان حيوي للإنسان حيوية الطعام والشراب والهواء سواء بسواء . ومن ثم يكله الله فيه إلى تلاقي الفطرة بآياته المبثوثة في صفحات الكون كله في الأنفس والآفاق .
هذا الذي حاج إبراهيم في ربه وهو ملك بابل : نمروذ بن كنعان بن كُوش بن سام بن نوح . ويقال : نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح والأول قول مجاهد وغيره .
قال مجاهد : وملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة : مؤمنان وكافران فالمؤمنان : سليمان بن داود وذو القرنين . والكافران : نمرود [ بن كنعان ]{[2]} وبختنصر . فالله أعلم .
ومعنى قوله : { أَلَمْ تَرَ } أي : بقلبك يا محمد { إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ } أي : [ في ]{[3]} وجود ربه . وذلك أنه أنكر أن يكون ثم إله غيره كما قال بعده فرعون لملئه : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } [ القصص : 38 ] وما حمله على هذا الطغيان والكفر الغليظ والمعاندة الشديدة إلا تجبره ، وطول مدته في الملك ؛ وذلك أنه يقال : إنه مكث أربعمائة سنة في ملكه ؛ ولهذا قال : { أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ } وكأنه طلب من إبراهيم دليلا على وجود الرب الذي يدعو إليه فقال إبراهيم : { رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي : الدليل على وجوده حدوث هذه الأشياء المشاهدة بعد عدمها ، وعدمها بعد وجودها . وهذا دليل على وجود الفاعل المختار ضرورة ؛ لأنها لم تحدث بنفسها فلا بد لها من موجد أوجدها وهو الرب الذي أدعو إلى عبادته وحده لا شريك له . فعند ذلك قال المحاج{[4]} - وهو النمروذ - : { أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ }
قال قتادة ومحمد بن إسحاق والسدي وغير واحد : وذلك أني{[5]} أوتى بالرجلين قد استحقا القتل فآمر بقتل أحدهما فيقتل ، وبالعفو عن الآخر فلا يقتل . فذلك معنى الإحياء والإماتة .
والظاهر - والله أعلم - أنه ما أراد هذا ؛ لأنه ليس جوابًا لما قال إبراهيم ولا في معناه ؛ لأنه غير مانع لوجود الصانع . وإنما أراد أن يَدّعي لنفسه هذا المقام عنادًا ومكابرة ويوهم أنه الفاعل لذلك وأنه هو الذي يحيي ويميت ، كما اقتدى به فرعون في قوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } ولهذا قال له إبراهيم لما ادعى هذه المكابرة : { فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ } أي : إذا كنت كما تدعي من أنك [ أنت الذي ]{[6]} تحيي وتميت فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود في خلق ذواته وتسخير كواكبه وحركاته فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق ، فإن كنت إلهًا كما ادعيت تحيي وتميت فأت بها من المغرب . فلما علم عجزه وانقطاعه ، وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام بهت أي : أخرس فلا يتكلم ، وقامت عليه الحجة . قال الله تعالى{[7]} { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } أي : لا يلهمهم حجة ولا برهانًا بل حجتهم داحضة عند ربهم ، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد .
وهذا التنزيل على هذا المعنى أحسن مما ذكره كثير من المنطقيين : أن عدول إبراهيم عن المقام الأول إلى المقام الثاني انتقال من دليل إلى أوضح منه ، ومنهم من قد يطلق عبارة ردية . وليس كما قالوه بل المقام الأول يكون كالمقدمة للثاني ويُبَيّن بطلان ما ادعاه نمروذ في الأول والثاني ، ولله الحمد والمنة .
وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم ونمروذ بعد خروج إبراهيم من النار ولم يكن اجتمع بالملك إلا في ذلك اليوم فجرت بينهما هذه المناظرة .
وروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم : أن النمروذ كان عنده{[8]} طعام وكان الناس يغدون{[9]} إليه للميرة فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة فكان بينهما هذه المناظرة ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطى الناس بل خرج وليس معه شيء من الطعام ، فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب فملأ منه عدليه وقال : أشغل أهلي عني إذا قدمت عليهم فلما قدم وضع رحاله وجاء فاتكأ فنام . فقامت امرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملآنين طعامًا طيبًا فعملت منه طعاما . فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه فقال : أنى لكم هذا ؟ قالت : من الذي جئت به . فعرف أنه رزق رزقهموه الله عز وجل . قال{[10]} زيد بن أسلم : وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكا يأمره بالإيمان بالله فأبى عليه ثم دعاه الثانية فأبى ثم الثالثة فأبى وقال : اجمع جموعك وأجمع جموعي . فجمع النمروذ جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس ، وأرسل الله عليهم بابا من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم عظاما بادية ، ودخلت واحدة منها في منخري الملك فمكثت في منخريه أربعمائة سنة ، عذبه الله بها فكان يضرب رأسه بالمرازب في هذه المدة كلها حتى أهلكه الله بها .
القول في تأويل قوله ( ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك ) يعني تعالى ذكره بقوله ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه ألم تر يا محمد بقلبك الذي حاج إبراهيم يعني الذي خاصم إبراهيم يعني إبراهيم نبي الله صلى الله عليه وسلم في ربه أن آتاه الله الملك يعني بذلك حاجة فخاصمه في ربه لأن الله آتاه الملك وهذا تعجيب من الله تعالى ذكره نبيه محمدصلى الله عليه وسلم من الذي حاج إبراهيم في ربه ولذلك أدخلت إلى في قوله ألم تر إلى الذي حاج وكذلك تفعل العرب إذا أرادت التعجيب من رجل في بعض ما أنكرت من فعله قالوا ما ترى إلى هذا والمعنى هل رأيت مثل هذا أو كهذا وقيل إن الذي حاج إبراهيم في ربه جبار كان ببابل يقال له نمروذ بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح وقيل إنه نمروذ بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرقخشذ ابن سام بن نوح . ذكر من قال ذلك .
حدثني المثنى قال ثنا أبو نعيم عن سفيان عن ليث عن مجاهد مثله .
حدثنا ابن وكيع قال ثنا أبي عن النضر بن عدي عن مجاهد مثله .
حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه قال كنا نتحدث أنه ملك يقال له نمروذ وهو أول ملك تجبر في الأرض وهو صاحب الصرح ببابل .
الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة قال هو اسمه نمروذ وهو أول من تجبر في الأرض حاج إبراهيم في ربه .
حدثني المثنى قال ثنا إسحاق قال ثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع في قوله ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك قال ذكر لنا أن الذي حاج إبراهيم في ربه كان ملكاٌ يقال له نمروذ وهو أول جبار تجبر في الأرض وهو صاحب الصرح ببابل .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : هو نمروذ بن كنعان .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : هو نمروذ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : أخبرني زيد بن أسلم ، بمثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول : هو نمروذ . قال ابن جريج : هو نمروذ ، ويقال إنه أول ملك في الأرض .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبّيَ الّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِالشّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ }
يعني تعالى ذكره بذلك : ألم تر يا محمد إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه حين قال له إبراهيم : ربيَ الذي يحيي ويميت ، يعني بذلك : ربي الذي بيده الحياة والموت يحيي من يشاء ويميت من أراد بعد الإحياء ، قال : أنا أفعل ذلك ، فأحيي وأميت ، أستحيي من أردت قتله ، فلا أقتله ، فيكون ذلك مني إحياء له . وذلك عند العرب يسمى إحياء ، كما قال تعالى ذكره : { وَمَنْ أحْيَاها فَكأنّمَا أحْيا النّاسَ جَمِيعا } وأقتل آخر فيكون ذلك مني إماتة له . قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم : فإن الله الذي هو ربي يأتي بالشمس من مشرقها ، فأت بها إن كنت صادقا أنك إله من مغربها ! قال الله تعالى ذكره : { فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ } يعني انقطع وبطلت حجته ، يقال منه : بُهت يُبْهَتُ بَهْتا ، وقد حكي عن بعض العرب أنها تقول بهذا المعنى : بَهِتَ ، ويقال : بَهَتّ الرجل إذا افتريت عليه كذبا بَهْتا وَبُهْتانا وبَهَاتةً . وقد روي عن بعض القرءة أنه قرأ : «فَبَهَتَ الّذِي كَفَرَ » بمعنى : فبهت إبراهيم الذي كفر .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : { إذْ قال إبْرَاهِيمُ رَبيَ الّذِي يُحْيي ويُمِيتُ ، قال أنا أُحْيِي وأُمِيتُ } وذكر لنا أنه دعا برجلين ، فقتل أحدهما ، واستحيا الاَخر ، فقال : أنا أحيي هذا ، أنا أستحيي من شئت ، وأقتل من شئت ، قال إبراهيم عند ذلك : { فإنّ اللّه يَأْتِي بالشّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : أنا أحيي وأميت : أقتل من شئت ، وأستحيي من شئت ، أدعه حيا فلا أقتله . وقال : ملك الأرض مشرقها ومغربها أربعة نفر : مؤمنان ، وكافران ، فالمؤمنان : سليمان بن داود ، وذو القرنين والكافرون : بختنصر ونمروذ بن كنعان ، لم يملكها غيرهم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن زيد بن أسلم : أول جبار كان في الأرض نمروذ ، فكان الناس يخرجون فيمتارون من عنده الطعام ، فخرج إبراهيم يمتار مع من يمتار ، فإذا مرّ به ناس قال : من ربكم ؟ قالوا : أنت . حتى مرّ إبراهيم ، قال : من ربك ؟ قال : الذي يحيي ويميت ، قال : أنا أحيي وأميت ، { قالَ إبراهيمُ فإنّ اللّهَ يَأتِي بالشّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ } قال : فردّه بغير طعام . قال : فرجع إبراهيم على أهله فمرّ على كثيب من رمل أعفر ، فقال : ألا آخذ من هذا فآتي به أهلي فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم ؟ فأخذ منه فأتى أهله ، قال : فوضع متاعه ثم نام ، فقامت امرأته إلى متاعه ، ففتحته ، فإذا هي بأجود طعام رأته ، فصنعت له منه ، فقرّبته إليه . وكان عهده بأهله أنه ليس عندهم طعام ، فقال : من أين هذا ؟ قالت : من الطعام الذي جئت به . فعلم أن الله رزقه ، فحمد الله . ثم بعث الله إلى الجبار ملكا أن آمن بي وأتركك على ملكك ! قال : وهل ربّ غيري ؟ فجاءه الثانية ، فقال له ذلك ، فأبى عليه . ثم أتاه الثالثة فأبى عليه ، فقال له الملك : اجمع جموعك إلى ثلاثة أيام ! فجمع الجبار جموعه ، فأمر الله الملك ، ففتح عليه بابا من البعوض ، فطلعت الشمس ، فلم يروها من كثرتها ، فبعثها الله عليهم فأكلت لحومهم ، وشربت دماءهم ، فلم يبق إلى العظام ، والمِلك كما هو لم يصبه من ذلك شيء . فبعث الله عليه بعوضة ، فدخلت في منخره ، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق ، وأرْحَمُ الناس به من جَمَعَ يديه وضرب بهما رأسه . وكان جبارا أربعمائة عام ، فعذّبه الله أربعمائة سنة كملكه ، ثم أماته الله . وهو الذي بنى صرحا إلى السماء فأتى الله بنيانه من القواعد ، وهو الذي قال الله : { فَأتى اللّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ القَوَاعِدِ } .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قول الله : { ألَمْ تَرَ إلى الّذِي حاجّ إبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ } قال : هو نمروذ كان بالموصل والناس يأتونه ، فإذا دخلوا عليه ، قال : من ربكم ؟ فيقولون : أنت ، فيقول : ميروهم ! فلما دخل إبراهيم ، ومعه بعير خرج يمتار به لولده قال : فعرضهم كلهم ، فيقول : من ربكم ؟ فيقولون : أنت ، فيقول : ميروهم ! حتى عرض إبراهيم مرّتين ، فقال : من ربك ؟ قال : ربي الذي يحيي ويميت ، قال : أنا أحيي وأميت ، إن شئت قتلتك فأمتك ، وإن شئت استحييتك . { قالَ إبرَاهِيمُ فإنّ اللّهَ يَأْتِي بالشّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ } قال : أخرجوا هذا عني فلا تميروه شيئا ! فخرج القوم كلهم قد امتاروا . وجُوَالِقا إبراهيم يصطفقان ، حتى إذا نظر إلى سواد جبال أهله ، قال : ليحزنني صبياي إسماعيل وإسحاق ، لو أني ملأت هذين الجوالقين من هذه البطحاء فذهبت بهما قرّت عينا صبيّيّ ، حتى إذا كان الليل أهرقته . قال : فملأهما ثم خيطهما ، ثم جاء بهما ، فترامى عليهما الصبيان فرحا ، وألقى رأسه في حجر سارة ساعة ، ثم قالت : ما يجلسني ! قد جاء إبراهيم تعبا لغبا ، لو قمت صنعت له طعاما إلى أن يقوم ! قال : فأخذت وسادة فأدخلتها مكانها ، وانسلت قليلاً قليلاً لئلا توقظه . قال : فجاءت إلى إحدى الغِرارتين ففتقتها ، فإذا حوّاري من النقي لم يروا مثله عند أحد قط ، فأخذت منه فطحنته وعجنته . فلما أتت توقظ إبراهيم جاءته حتى وضعته بين يديه ، فقال : أيّ شيء هذا يا سارة ؟ قالت : من جُوالقك ، لقد جئت وما عندنا قليل ولا كثير . قال : فذهب ينظر إلى الجوالق الاَخر فإذا هو مثله ، فعرف من أين ذاك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : لما قال له إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت ، قال هو ، يعني نمروذ : فأنا أحيي وأميت ، فدعا برجلين ، فاستحياأحدهما ، وقتل الاَخر ، قال : أنا أحيي وأميت ، قال : أي أستحيي من شئت ، فقال إبراهيم : { فإنّ اللّهَ يَأْتِي بالشّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فأْتِ بِها مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ } .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : لما خرج إبراهيم من النار ، أدخلوه على الملك ، ولم يكن قبل ذلك دخل عليه فكلمه ، وقال له : من ربك ؟ قال : ربي الذي يحيي ويميت ، قال نمروذ : أنا أحيي وأميت ، أنا أدخل أربعة نفر بيتا ، فلا يطعمون ولا يسقون ، حتى إذا هلكوا من الجوع أطعمت اثنين وسقيتهما فعاشا ، وتركت اثنين فماتا ! فعرف إبراهيم أن له قدرة بسلطانه وملكه على أن يفعل ذلك . قال له إبراهيم : فإن ربي الذي يأتي بالشمس من المشرق ، فأت بها من المغرب ! فبهت الذي كفر ، وقال : إن هذا إنسان مجنون ، فأخرجوه ! ألا ترون أنه من جنونه اجترأ على آلهتكم فكسرها ، وأن النار لم تأكله ؟ وخشي أن يفتضح في قومه أعني نمروذ وهو قول الله تعالى ذكره : { وَتِلكَ حُجّتُنَا آتَيْنَاها إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } فكان يزعم أنه ربّ . وأمر بإبراهيم فأخرج .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول : قال : أنا أحيي وأميت ، أحيي فلا أقتل ، وأميت من قتلت . قال ابن جريج ، كان أتى برجلين ، فقتل أحدهما ، وترك الاَخر ، فقال : أنا أحيي وأميت ، قال : أقتل فأميت من قتلت ، وأحيي ، قال : أستحيي فلا أقتل .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، قال : ذكر لنا والله أعلم . أن نمروذ قال لإبراهيم فيما يقول : أرأيت إلهك هذا الذي تعبده ، وتدعو إلى عبادته ، وتذكر من قدرته التي تعظمه بها على غيره ، ما هو ؟ قال له إبراهيم : ربي الذي يحيي ويميت . قال نمروذ : فأنا أحيي وأميت . فقال له إبراهيم : كيف تحيي وتميت ؟ قال : آخذ رجلين قد استوجبا القتل في حكمي ، فأقتل أحدهما فأكون قد أمّته ، وأعفو عن الاَخر فأتركه وأكون قد أحييته . فقال له إبراهيم عند ذلك : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق ، فأت بها من المغرب ، أعرفْ أنه كما تقول ! فبهت عند ذلك نمروذ ، ولم يرجع إليه شيئا ، وعرف أنه لا يطيق ذلك . يقول تعالى ذكره : { فَبُهِتَ الّذِي كَفَرَ } يعني وقعت عليه الحجة ، يعني نمروذ
وقوله : { وَاللّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ } يقول : والله لا يهدي أهل الكفر إلى حجة يدحضون بها حجة أهل الحق عند المحاجة والمخاصمة ، لأن أهل الباطل حججهم داحضة . وقد بينا أن معنى الظلم : وضع الشيء في غير موضعه ، والكافر : وضع جحوده ما جحد في غير موضعه ، فهو بذلك من فعله ظالم لنفسه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق : { وَاللّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ } أي لا يهديهم في الحجة عند الخصومة لما هم عليه من الضلالة .