{ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ } والسلسلة : اسم لمجموعة من حَلَق الحديد ، يربط بها الشخص لكى لا يهرب ، أو لكى يزاد فى إذلاله وهو المراد هنا وقوله : { ذَرْعُهَا } أى : طولها ، كما فى قوله - تعالى - : { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ . . . } وقوله : { فَاسْلُكُوهُ } من السَّلك بمعنى الإِدخال فى الشئ ، كما فى قوله - تعالى - { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } أى : ما أدخلكم فيها .
أى : خذوا هذا الكافر ، فقيدوه ثم أعدوه للنار المحرقة . ثم اجعلوه مغلولا فى سلسلة طولها سبعين ذرعا ، بحيث تكون محيطة به إحاطة تامة . أى ألقوا به فى الجحيم وهو مكبل فى أغلاله .
و { ثم } فى كل آية جئ بها للتراخى الرتبى ، لأن كل عقوبة أشد من سابقتها . إذ إدخاله فى السلسلة الطويلة . أعظم من مطلق إلقائه فى الجحيم كما أن إلقاءه فى الجحيم ، أشد من مطلق أخذه وتقييده .
وفى هذه الآيات ما فيها من تصوير يبعث فى القلوب الخوف الشديد ، ويحملها على حسن الاستعداد لهذا اليوم . الذى لا تغنى فيه نفس عن نفس شيئا .
وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات بعض الأحاديث والآثار ، منها : ما رواه ابن أبى حاتم ، عن المنهال بن عمرو قال : إذا قال الله - عز وجل - { خُذُوهُ . . } ابتدره سبعون ألف ملك ، وإن الملك منهم ليقول هكذا - أى : ليفعل هكذا - فيلقى سبعين ألفا فى النار .
ولا يقطع هذه الرنة الحزينة المديدة إلا الأمر العلوي الجازم ، بجلاله وهوله وروعته :
( خذوه . فغلوه . ثم الجحيم صلوه . ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه ) . .
يا للهول الهائل ! ويا للرعب القاتل ! ويا للجلال الماثل !
كلمة تصدر من العلي الأعلى . فيتحرك الوجود كله على هذا المسكين الصغير الهزيل . ويبتدره المكلفون بالأمر من كل جانب ، كما يقول ابن أبي حاتم بإسناده عن المنهال بن عمرو : " إذا قال الله تعالى : خذوه ابتدره سبعون ألف ملك . إن الملك منهم ليقول هكذا فيلقي سبعين ألفا في النار " . . كلهم يبتدر هذه الحشرة الصغيرة المكروبة المذهولة !
فأي السبعين ألفا بلغه جعل الغل في عنقه . . !
ونكاد نسمع كيف تشويه النار وتصليه . .
( ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه ) . .
وذراع واحدة من سلاسل النار تكفيه ! ولكن إيحاء التطويل والتهويل ينضح من وراء لفظ السبعين وصورتها .
وقوله : خُذُوهُ فَغُلّوهُ يقول تعالى ذكره لملائكته من خزّان جهنم : خُذُوهُ فَغُلّوهُ ثُمّ الجَحِيمَ صَلّوهُ يقول : ثم في جهنم أوردوه ليصلى فيها ثُمّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِرَاعا فاسْلُكُوهُ يقول : ثم اسكلوه في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا بذراعٍ اللّهٌ أعلم بقدر طولها . وقيل : إنها تدخل في دُبُره ، ثم تخرج من منخريه . وقال بعضهم : تدخل في فيه ، وتخرج من دبره . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن نسير بن دعلوق ، قال : سمعت نَوْفا يقول : فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِرَاعا قال : كلّ ذراع سبعون باعا ، الباع : أبعد ما بينك وبين مكة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا سفيان ، قال : ثني نسير ، قال : سمعت نوفا يقول في رحبة الكوفة في إمارة مصعب بن الزبير في قوله فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِرَاعا قال : الذراع : سبعون باعا ، الباع : أبعد ما بينك وبين مكة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن نسير بن ذعلوق أبي طعمة ، عن نوف البكالي فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعا قال : كلّ ذراع سبعون باعا ، كلّ باع أبعد مما بينك وبين مكة وهو يومئذٍ في مسجد الكوفة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس .
قوله : فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِرَاعا فاسْلُكُوهُ قال : بذراع الملك فاسلكوه ، قال : تسلك في دُبره حتى تخرج من منخريه ، حتى لا يقوم على رجليه .
حدثنا بن المثنى ، قال : حدثنا يعمر بن بشير المنقري ، قال : حدثنا ابن المبارك ، قال : أخبرنا سعيد بن يزيد ، عن أبي السمح ، عن عيسى بن هلال الصدفي ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَوْ أنّ رَصَاصَةً مِثْلَ هَذِهِ ، وأشار إلى جمجمة ، أُرْسلَتْ مِنَ السّماءِ إلى الأرْضِ ، وَهيَ مَسِيرَةُ خَمْسِ مِئَةِ سَنَةٍ ، لَبَلَغَتِ الأرْضَ قَبْل اللّيْل ، وَلَوْ أنّها أُرْسِلَتْ مِنْ رأسِ السّلْسِلَةِ لَسارَتْ أرْبَعِينَ خَرِيفا اللّيْلَ والنّهارَ قَبْلَ أّ تَبْلُغَ قَعْرَها أوْ أصْلَها » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن ابن المبارك ، عن مجاهد ، عن جُويبر ، عن الضحاك ، فاسْلُكُوهُ قال : السلك : أن تدخل السلسلة في فيه ، وتخرج من دبره .
وقيل : ثُمّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِرَاعا فاسْلُكُوهُ وإنما تسلك السلسلة في فيه ، كما قالت العرب : أدخلت رأسي في القلنسوة ، وإنما تدخل القلنسوة في الرأس ، وكما قال الأعشي :
*** إذَا ما السّرَابُ ارْتَدَى بالأَكَمْ ***
وإنما يرتدي الأكم بالسراب وما أشبه ذلك ، وإنما قيل ذلك كذلك لمعرفة السامعين معناه ، وإنه لا يشكل على سامعه ما أراد قائله .
و { ذرعها } معناه مبلغ أذرع كيلها ، وقد جعل الله تعالى السبعمائة والسبعين والسبعة مواقف ونهايات لأشياء عظام ، فذلك مشي البشر : العرب وغيرهم على أن يجعلوها نهايات ، وهذه السلسلة من الأشياء التي جعل فيها السبعين نهاية . وقرأ السدي : «ذرعها سبعين » بالياء ، وهذا على حذف خبر الابتداء ، واختلف الناس في قدر هذا الذراع{[11296]} ، فقال محمد بن المنكدر وابن جرير وابن عباس : هو بذراع الملك ، وقال نوف البكالي وغيره : الذراع سبعون باعاً في كل باع كما بين الكوفة ومكة ، وهذا يحتاج إلى سند ، وقال حذاق من المفسرين : هي بالذراع المعروفة هنا ، وإنما خوطبنا بما نعرفه ونحصله ، وقال الحسن : الله أعلم بأي ذراع هي : وقال السويد بن نجيح في كتاب الثعلبي : إن جميع أهل النار في تلك السلسلة ، وقال ابن عباس : لو وضع حلقة منها على جبل لذاب كالرصاص ، وقوله تعالى : { فاسلكوه } معناه : ادخلوه ، ومنه قول أبي وجزة السعدي يصف حمر وحش : [ البسيط ]
حتى سلكن الشوى منهن في مسك*** من نسل جوابة الآفاق مهداج{[11297]}
وروي أن هذه السلسلة تدخل في فم الكافر وتخرج من دبره فهي في الحقيقة التي سلك فيها لكن الكلام جرى مجرى قولهم : أدخلت فمي في الحجر والقلنسوة في رأسي ، وروي أن هذه السلسلة تلوى حول الكافر حتى تغمه وتضغطه ، فالكلام على هذا على وجهه وهو المسلوك .
و { ثم } من قوله : { ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه } للتراخي الرتبي بالنسبة لمضمون الجملتين قبلها لأن مضمون { في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً } أعظم من مضمون { فغلوه .
ومضمون { فاسلكوه } دل على إدخاله الجحيم فكان إسلاكه في تلك السلسلة أعظم من مطلق إسلاكه الجحيم .
ومعنى { اسلكوه } : اجعلوه سالِكاً ، أي داخلاً في السلسلة وذلك بأن تَلف عليه السلسلة فيكون في وسطها ، ويقال : سلَكه ، إذا أدخله في شيء ، أي اجعلوه في الجحيم مكبَّلاً في أغلاله .
وتقديم { الجحيمَ } على عامله لتعجيل المساءة مع الرعاية على الفاصلة وكذلك تقديم { في سلسلة } على عامله .
واقتران فعل { اسلكوه } بالفاء إمَّا لتأكيد الفاء التي اقترنت بفعل { فَغلّوه } ، وإما للايذان بأن الفعل منزل منزلة جزاء شرط محذوف ، وهذا الحذف يشعر به تقديم المعمول غالباً كأنه قيل : مهما فعلتم به شيئاً فاسلكوه في سلسلة ، أو مهما يكن شيء فاسلكوه .
والمقصود تأكيد وقوع ذلك والحثُّ على عدم التفريط في الفعل وأنه لا يرجى له تخفيف ، ونظيره قوله تعالى : { وربَّك فكبّر وثِيابَك فطهّر والرِّجز فاهجر } [ المدثر : 35 ] ، وتقدم عند قوله تعالى : { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا } في سورة [ يونس : 58 ] .
والسلسلة : اسم لمجموع حَلَققٍ من حديد داخللٍ بعضُ تلك الحَلَق في بعض تجعل لِوثاق شخص كي لا يزول من مكانه ، وتقدم في قوله تعالى : { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل } في سورة غافر ( 71 ) .
وجملة { ذرعها سبعون ذراعاً } صفة { سِلْسلة } وهذه الصفة وقعت معترضة بين المجرور ومتعلَّقِهِ للتهويل على المشركين المكذبين بالقارعة ، وليست الجملة مما خوطب الملائكة الموكلون بسوْق المجرمين إلى العذاب ، ولذلك فعَدَدُ السبعين مستعمل في معنى الكثرة على طريقة الكناية مثل قوله تعالى : { إِنْ تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } [ التوبة : 80 ] .
والذَّرع : كيلُ طوللِ الجسم بالذراع وهو مقدار من الطول مقدر بذراع الإِنسان ، وكانوا يقدرون بمقادير الأعضاء مثل الذراع ، والأصبَع ، والأنملة ، والقَدم ، وبالأبعاد التي بين الأعضاء مثل الشِبْر ، والفِتْر ، والرتب ( بفتح الراء والتاء ) ، والعَتَب ، والبُصْم ، والخُطوة .