والمراد بالملك فى قوله - تعالى - : { والملك على أَرْجَآئِهَآ } جنس الملك ، فيشمل عدد مبهم من الملائكة . . أو جميع الملائكة إذا أردنا بأل معنى الاستغراق .
والأرجاء : الأطراف والجوانب ، جمع رَجَا بالقصر ، وألفه منقلبة عن واو ، مثل : قفا وقفوان .
أى : والملائكة فى ذلك الوقت يكونون على أرجاء السماء وجوانبها ، ينفذون أمر الله - تعالى - { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } أى : والملائكة واقفون على أطراف السماء ، ونواحيها .
ويحمل عرش ربك فوق هؤلاء الملائكة فى هذا اليوم ، ثمانية منهم ، أو ثمانية من صفوفهم التى لا يعلم عددها إلا الله - تعالى - .
وعرش الله - تعالى - مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم ، فنحن نؤمن بأن الله - عز وجل - عرشا ، إلا أننا نفوض معرفة هيئته وكنهه . . إلى الله - تعالى - .
قال الألوسى ما ملخصه : قوله : { والملك على أَرْجَآئِهَآ } أى : والجنس المتعارف بالملك ، وهم الملائكة . . على جوانب السماء التى لا تتشقق . .
{ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ } أى : فوق الملائكة الذين هم على الأرجاء المدلول عليهم بالملك ، وقيل : فوق العالم كله .
{ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } أى : من الملائكة ، أو ثمانية صفوف لا يعلم عدتهم إلا الله - تعالى - .
هذا ، وقد وردت فى صفة هؤلاء الملائكة الثمانية ، أحاديث ضعيفة لذا ضربنا صفحا عن ذكرها .
ثم يغمر الجلال المشهد ويغشيه ، وتسكن الضجة التي تملأ الحس من النفخة والدكة والتشقق والانتثار . يسكن هذا كله ويظهر في المشهد عرش الواحد القهار :
( والملك على أرجائها ، ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ) . .
والملائكة على أرجاء هذه السماء المنشقة وأطرافها ، والعرش فوقهم يحمله ثمانية . . ثمانية أملاك أو ثمانية صفوف منها ، أو ثمانية طبقات من طبقاتهم ، أو ثمانية مما يعلم الله . لا ندري نحن من هم ولا ما هم . كما لا ندري نحن ما العرش ? ولا كيف يحمل ? ونخلص من كل هذه الغيبيات التي لا علم لنا بها ، ولم يكلفنا الله من علمها إلا ما قص علينا . نخلص من مفردات هذه الغيبيات إلى الظل الجليل الذي تخلعه على الموقف . وهو المطلوب منا أن تستشعره ضمائرنا . وهو المقصود من ذكر هذه الأحداث ليشعر القلب البشري بالجلال والرهبة والخشوع ، في ذلك اليوم العظيم ، وفي ذلك الموقف الجليل :
والملكُ على أرجائها يقول تعالى ذكره : والملك على أطراف السماء حين تشقق وحافاتها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : والمَلَكُ على أرْجائها يقول : والملك على حافات السماء حين تشقّق ويقال : على شقة ، كلّ شيء تشقّق عنه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَالمَلَكُ على أرْجائها قال : أطرافها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله : وَالمَلَكُ على أرْجائها قال : على حافات السماء .
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : حدثنا أبو أُسامة ، عن الأجلح ، قال : قلت للضحاك : ما أرجاؤها ، قال : حافاتها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال ثني سعيد : عن قتادة والملكُ على أرجائها على حافاتها .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر وَالمَلَكُ على أرْجائها قال : بلغني أنها أقطارها ، قال قتادة : على نواحيها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان وَالمَلَكُ على أرْجائها قال : نواحيها .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الأشيب ، قال : حدثنا ورقاء ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن المسيب : الأرجاء حافات السماء .
قال : ثنا الأشيب ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبير وَالمَلَكُ على أرْجائها قال : على ما لم يَهِ منها .
حدثنا محمد بن سنان القزاز ، قال : حدثنا حسين الأشقر ، قال : حدثنا أبو كدينة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، في قوله والمَلَكُ على أرْجائها قال : على ما لم يَهِ منها .
وقوله : وَيحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ اختلف أهل التأويل في الذي عنى بقوله ثَمانِيَةٌ فقال بعضهم : عنى به ثمانية صفوف من الملائكة ، لا يعلم عدّتهنّ إلا الله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا طلق عن ظهير ، عن السديّ ، عن أبي مالك عن ابن عباس : وَيحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ قال : ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ين عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله وَيحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ قال : هي الصفوف من وراء الصفوف .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، في قوله وَيحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ قال : ثمانية صفوف من الملائكة .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَيحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ قال بعضهم : ثمانية صفوف لا يعلم عدتهنّ إلا الله . وقال بعضهم : ثمانية أملاك على خلق الوعلة .
وقال آخرون : بل عنى به ثمانية أملاك . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَيحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةً قال : ثمانية أملاك ، وقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يَحْمِلُهُ اليَوْمَ أرْبَعَةٌ ، وَيَوْم القِيامَةِ ثَمَانِيَةٌ » ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ أقْدامَهُمْ لَفِي الأرْضِ السّابِعَةِ ، وَإنّ مَناكِبَهُمْ لخَارِجَةٌ مِنَ السّمَوَاتِ عَلَيْها العَرْشُ » قال ابن زيد : الأربعة ، قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لَمّا خَلَقَهُمُ اللّهُ قالَ : تَدْرُونَ لِمَ خَلَقْتُكُمْ ؟ قالُوا : خَلَقْتَنا رَبّنا لِمَا تَشاءُ ، قالَ لَهُمْ : تَحْمِلُونَ عَرْشِي ، ثُمّ قالَ : سَلُوني مِنَ القُوّةِ ما شِئْتُمْ أجْعَلْها فِيكُمْ ، فَقالَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ : قَدْ كانَ عَرْشُ رَبّنا على المَاءِ ، فاجَعْلْ فِيّ قُوّةَ المَاءِ ، قالَ : قَدْ جَعَلْتُ فيكَ قُوّةَ المَاءِ وقال آخَرُ : اجَعَلْ فِيّ قُوّة السّمَوَات ، قالَ : قَدْ جَعَلْتُ فِيكَ قُوّةَ السّمَوَاتِ وقالَ آخَرُ : اجْعَلْ فيّ قُوّةَ الأرْضِ ، قالَ : قَدْ جَعَلْتُ فِيكَ قُوّةَ الأرْضِ والجِبالِ وقالَ آخَرُ : اجْعَلْ فِيّ قُوّةَ الرّياح ، قالَ : قَدْ جَعَلْتُ فِيكَ قُوّةَ الرّياحِ ثُمّ قال : احْمِلُوا ، فَوَضَعُوا العَرْش على كَوَاهِلِهِمْ ، فَلَمْ يَزُولُوا قالَ : فَجاءَ عِلْمٌ آخَرُ ، وإنّمَا كانَ عِلْمُهُمُ الّذِي سأَلُوهُ القُوّةَ ، فَقالَ لَهُمْ : قُولُوا : لا حَوْلَ وَلا قُوّةَ إلاّ باللّهِ ، فَقالُوا : لا حَوْلَ وَلا قُوّةَ إلاّ باللّهِ ، فَجَعَلَ اللّهُ فِهِمْ مِنَ الْحَوْلِ والقُوّةِ ما لمْ يَبْلُغْهُ عِلْمُهُمْ ، فَحَمَلُوا » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «هُمُ اليَوْمَ أرْبَعَةٌ » ، يعني حملة العرش «وَإذَا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ أيّدَهُمُ اللّهُ بأرْبَعَةٍ آخَرِينَ فَكانُوا ثَمانِيَةً وَقَدْ قالَ اللّهُ : وَيحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن ميسرة ، قوله : وَيحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ قال : أرجلهم في التخوم لا يستطيعون أن يرفعوا أبصارهم من شعاع النور :
والرجا : الجانب من الحائط والبئر ونحوه ومنه قول الشاعر [ المرادي ] : [ الطويل ]
كأن لم تري قبلي أسيراً مقيداً*** ولا رجلاً يرعى به الرجوان{[11288]}
أي يلقى في بئر فهو لا يجد ما يتمسك به . وقال الضحاك أيضاً{[11289]} وابن جبير : الضمير في { أرجائها } عائد على الأرض وإن كان لم يتقدم لها ذكر قريب لأن القصة واللفظ يقتضي إفهام ذلك ، وفسر هذه الآية بما روي أن الله تعالى يأمر ملائكة سماء الدنيا فيقفون صفاً على حافات الأرض ثم يأمر ملائكة السماء الثانية فيصفون خلفهم ثم كذلك ملائكة كل سماء ، فكلما فر أحد من الجن والإنس وجد الأرض قد أحيط بها{[11290]} ، قالوا فهذا تفسير هذه الآيات ، وهو أيضاً معنى قوله تعالى :
{ وجاء ربك والملك صفاً صفاً }{[11291]} [ الفجر : 22 ] وهو أيضاً تفسير قوله { يوم التناد يوم تولون مدبرين }{[11292]} [ غافر : 32-33 ] على قراءة من شد الدال ، وهو تفسير قوله : { يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا }{[11293]} [ الرحمن : 33 ] ، واختلف الناس في الثمانية الحاملين للعرش ، فقال ابن عباس : هي ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم أحد عدتهم . وقال ابن زيد : هم ثمانية أملاك على هيئة الوعول ، وقال جماعة من المفسرين : هم على هيئة الناس ، أرجلهم تحت الأرض السفلى ورؤوسهم وكواهلهم فوق السماء السابعة . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «هم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة قواهم الله بأربعة سواهم »{[11294]} . والضمير في قوله : { فوقهم } للملائكة الحملة ، وقيل للعالم كله وكل قدرة كيفما تصورت فإنما هي بحول الله وقوته .
وجملة { والمَلَك على أرجائها } ، حال من ضمير { فهي } ، أي ويومئذٍ الملك على أرجائها .
و { المَلك } : أصله الواحد من الملائكة ، وتعريفه هنا تعريف الجنس وهو في معنى الجمع ، أي جنس المَلَك ، أي جماعة من الملائكة أو جميع الملائكة إذا أريد الاستغراق ، واستغراق المفرد أصرح في الدلالة على الشمول ، ولذلك قال ابن عباس : الكتابُ أكْثَرُ من الكُتب ، ومنه { ربّ إني وهَن العظمُ منّي } [ مريم : 4 ] .
والأرجاء : النواحي بلُغة هذيل ، واحدُها رجَا مقصوراً وألفه منقلبة عن الواو .
وضمير { أرجائها } عائد إلى { السماء .
والمعنى : أن الملائكة يعملون في نواحي السماء ينفّذون إنزال أهل الجنة بالجنة وسَوق أهل النار إلى النار .
وعرش الرب : اسم لما يحيط بالسماوات وهو أعظم من السماوات .
والمراد بالثمانية الذين يحملون العرش : ثمانيةٌ من الملائكة ، فقيل : ثمانية شخوص ، وقيل : ثمانية صُفوف ، وقيل ثمانية أعشار ، أي نحو ثمانين من مجموع عدد الملائكة ، وقيل غير ذلك ، وهذا من أحوال الغيب التي لا يتعلق الغرض بتفصيلها ، إذ المقصود من الآية تمثيل عظمة الله تعالى وتقريب ذلك إلى الأفهام كما قال في غير آية .
ولعل المقصود بالإِشارة إلى ما زاد على الموعظة ، هو تعليم الله نبيئه شيئاً من تلك الأحوال بطريقة رمزية يفتح عليه بفهم تفصيلها ولم يُرد تشغيلنا بعلمها .
وكأنَّ الدَّاعي إلى ذكرهم إجمالاً هو الانتقال إلى الأخبار عن عرش الله لئلا يكون ذكره اقتضاباً بعد ذكر الملائكة .
وروى الترمذي عن العباس بن عبد المطلب عن النبي حديثاً ذكر فيه أبْعَادَ ما بين السماوات ، وفي ذكر حملة العرش رموز ساقها الترمذي مساق التفسير لهذه الآية ، وأحد رواتِه عبد الله بن عُميرة عن الأحْنف بن قيس قال البخاري : لا نعلم له سماعاً عن الأحنف .
وهنالك أخبار غير حديث العباس لا يعبأ بها ، وقال ابن العربي فيها : إنها متلفقات من أهل الكتاب أو من شعر لأمية بن أبي الصلت ، ولم يصح أن النبي أنشد بين يديه فصدّقه . اه .
وضمير فوقهم } يعود إلى { المَلك } .
ويتعلق { فوقَهم } ب { يحمل عرش ربّك } وهو تأكيد لما دّل عليه يحمل من كون العرش عالياً فهو بمنزلة القيدين في قوله : { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه } [ الأنعام : 38 ] .
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وإضافة عرش إلى الله إضافة تشريف مثل إضافة الكعبة إليه في قوله : { وطهر بيتي للطائفين } الآية [ الحج : 26 ] ، والله منزه عن الجلوس على العرش وعن السكنى في بيت .
والخطاب في قوله : { تُعرضون } لجميع الناس بقرينة المقام وما بعد ذلك من التفصيل .
والعرض : أصله إمْرار الأشياء على من يريد التأمل منها مثل عرض السلعة على المشتري وعرض الجيش على أميره ، وأطلق هنا كناية عن لازمه وهو المحاسبة معَ جواز إرادة المعنى الصريح .
ومعنى { لا تخفى منكم خافية } : لا تخفى على الله ولا على ملائكته .
وتأنيث { خافية } لأنه وصف لموصوف مؤنث يقدر بالفَعلة من أفعال العباد ، أو يقدر بنفْس ، أي لا تختبىء من الحساب نفس أي أحد ، ولا يلتبس كافر بمؤمن ، ولا بارٌّ بفاجر .