{ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا }
قيل : إن هذا خطاب لمن يحضر مَنْ حضره الموت وأجنف في وصيته ، أن يأمره بالعدل في وصيته والمساواة فيها ، بدليل قوله : { وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } أي : سدادا ، موافقا للقسط والمعروف . وأنهم يأمرون من يريد الوصية على أولاده بما يحبون معاملة أولادهم بعدهم .
وقيل : إن المراد بذلك أولياء السفهاء من المجانين والصغار والضعاف أن يعاملوهم في مصالحهم الدينية والدنيوية بما يحبون أن يعامل به مَنْ بعدهم من ذريتهم الضعاف { فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ } في ولايتهم لغيرهم ، أي : يعاملونهم بما فيه تقوى الله ، من عدم إهانتهم والقيام عليهم ، وإلزامهم لتقوى الله .
ثم أمر الله - تعالى - عباده بتقواه ، وبالتمسك بالأقوال السديدة فقال تعالى : { وَلْيَخْشَ الذين . . . } .
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ( 9 )
وللمفسرين فى تفسير هذه الآية الكريمة أقوال :
أولها : أن الآية الكريمة أمر للأوصياء بأن يخشوا الله تعالى ويتقوه فى أمر اليتامى ، فيفعلوا بهم مثل ما يحبون أن يفعل بذريتهم الضعاف بعد وفاتهم .
فقد أخرج بان جرير عن ابن عباس أنه قال فى قوله تعالى : { وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ } . . . الخ .
يعنى بذلك الرجال يموت وله أولاد صغار ضعاف يخاف عليهم العيلة والضيعة ، ويخاف بعده ألا يحسن إليهم من يليهم يقول : فإن ولى مثل ذريته ضعافا يتامى ، فليحسن إليهم ولا يأكل أموالهم إسرافا وبدارا خشية أن يكبروا . .
قال الآلوسي : والآية الكريمة على هذا الوجه تكون مرتبطة بما قبلها ، لأن قوله تعالى : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } الخ . فى معنى الأمر للورثة . أى أعطوهم حقهم دفعا لأمر الجاهلية ، وليحفظ الأوصياء ما أعطوه ويخافوا عليهم كما يخافون على أولادهم .
وعلى هذا الوجه يكون المقصود من الآية الكريمة حض الأوصياء على المحافظة على أموال اليتامى بأبلغ تعبير ، لأنه سبحانه قد نبههم بحال أنفسهم وذرياتهم من بعدهم ليتصوروها ويعرفوا مكان العبرة فيها ، ولا شك أن ذلك من أقوى الدواعى والبواعث فى هذا المقصود ؛ لأنه سبحانه كأنه يقول لهم : افعلوا باليتامى الفعل الذى تحبون أن يفعل مع ذرياتكم الضعاف من بعدكم ، فجعل - سبحانه - من شعورهم بالحنان على ذرياتهم باعثا لهم على الحنان على أيتامهم .
هذا ، ومن المفسرين الذين استحسنوا هذا القول الإِمام ابن كثير ، فقد قال بعد أن حكى هذا القول : وهو قول حسن يتأيد بما بعده من التهديد فى أكل أموال اليتامى ظلما .
أما القول الثاني : فيرى أصحابه أن الآية الكريمة أمر لمن حضر المريض من العواد عند الإيصاء بأن يخشوا ربهم ؛ فيوصوا المريض فى أولاده خيراً ويشفقوا عليهم كما يشفقون على أولادهم .
وقد وضح هذا القول الإِمام الرازي فقال : إن هذا خطاب مع الذين يجلسون عند المريض فيقولون له : إن ذريتك لا يغنون عنك من الله شيئا ، فأوص بمالك لفلان وفلان . ولا يزالون يأمرونه بالوصية إلى الأجانب إلى أن لا يبقى من ماله للورثة شئ أصلا . فقيل لهم : كما أنكم تكرهون بقاء أولادكم فى الضعف والجوع من غير مال ، فاخشوا الله ولا تحملا المريض على أن يحرم أولاده الضعفاء من ماله .
وحاصل الكلام أنك لا ترضى مثل هذا الفعل لنفسك ، فلا ترضه لأخيك المسلم . فعن أنس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " .
وقد رجح هذا الوجه الإِمام ابن جرير فقال : وأولى التأويلات بالآية قول من قال : تأويل ذلك : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم العيلة لو كانوا فرقوا أموالهم فى حياتهم ، أوقسموها وصية منهم لأولى قرابتهم ، وأهل اليتيم والمسكنة ؛ فأبقوا أموالهم لولدهم خشية العيلة عليهم من بعدهم ، فليأمروا من حضروه - وهو يوصى لذوى قرابته وفى اليتامى والمساكين وفى غير ذلك - بما له بالعدل ، وليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ، وهو ان يعرفوه ما أباحه الله له من الوصية ، وما اختاره المؤمنون من أهل الإِيمان بالله وبكتابه وسنته .
والقول الثالث : يرى أصحابه أن الخطاب فى الآية للموصين ، وأن الآية تأمرهم بأن يشفقوا على ورثتهم ، فلا يسرفوا فى الوصية لغيرهم ؛ لأن الإِسراف فى ذلك يؤدى إلى ترك الورثة فقراء . ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبى وقاص : " إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس " .
والذى نراه أن الأمر بالخشية من الله يتناول تجميع الأصناف المتقدمة : من الأوصياء ، وعواد المريض ، والموصين وغيرهم من هو أهل لهذا الخطاب ؛ لأن هؤلاء جميعا داخلون تحت الأمر بالخشية من الله - تعالى - ، وبالقول السديد الذى يحبه سبحانه ويرضاه .
وقوله تعالى { وَلْيَخْشَ } فعل مضارع مجزوم بلام الأمر . ومفعوله محذوف لتذهب نفس السامع فى تقديره كل مذهب ، فينظر كل سامع بحسب الاهم عنده مما يخشى أن يصيب ذريته .
والجملة الشرطية وهى قوله تعالى { لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ } صلة للموصول وهو قوله { الذين } وجملة { خَافُواْ عَلَيْهِمْ } جواب { لَوْ } .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما معنى وقوع { لَوْ تَرَكُواْ } وجوابه صلة للذين ؟ .
قلت : معناه : وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا من خلفهم ذرية ضعافا - وذلك عند احتضارهم - خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم .
قال صاحب الانتصاف : وإنما لجأ الزمخشري إلى تقدير { تَرَكُواْ } بقوله شارفوا أن يتركوا ؛ لأن جوابه قوله { خَافُواْ عَلَيْهِمْ } والخوف عليهم إنما يكون قبل تركهم إياهم . وذلك فى دار الدنيا . فقد دل على أن المراد بالترك الإِشراف عليه ضرورة ، وإلا لزم وقوع الجواب قبل الشرط وهو باطل . ونظيره { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } أى . شارفن بلوغ الأجل .
ثم قال : ولهذا المجاز فى التعبير عن المشارفة على الترك بالترك سر بديع . وهو التخويف بالحالة التي لا يبقى معها مطمع فى الحياة ، ولا فى الذنب عن الذرية الضعاف . وهى الحالة التى وإن كانت من الدنيا ، إلا أنها لقربها من الآخرة ، ولصوقها بالمفارقة ، صارت من حيزها ، ومعبرا عنها بما يعبر به عن الحالة الكائنة بعد المفارقة من الترك .
وقوله { ضِعَافاً } صفة لذرة . وفى وصف الذرية بذلك بعث على الترحم وحض على امتثال ما أمر الله به .
والفاء فى قوله { فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } لترتيب ما بعدها على ما قبلها .
فقد رتب الأمر بالتقوى على الأمر بالخشية وإن كانا أمرين متقاربين لأن الأمر الأول لما عضد بالحجة - وهى الخوف على ذريتهم - اعتبر كالحاصل فصح التفريع عليه .
والمعنى : فليتقوا الله فى كل شأن من شئونهم وفى أموال اليتامى فلا يعتدوا عليها . وليقولا لغيرهم قولا عادلا قويما مصيبا للحق وبعيدا عن الباطل .
قال الآلوسى وقوله { وَلْيَقُولُواْ } أى لليتامى أو للمريض أو لحاضرى القسمة ، أو ليقولوا فى الوصية { قَوْلاً سَدِيداً } فيقول الوصى لليتيم ما يقول لولده من القول الجميل الهادى له إلى حسن الآداب ومحاسن الأفعال . ويقول عائد المريض للمريض : ما يذكره بالتوبة وحسن الظن بالله ، وما يصده عن الإِسراف فى الوصية وتضييع الورثة . ويقول الوارث لحاضر القسمة : ما يزيل وحشته أو يزيد مسرته . ويقول الموصى فى إيصائه : مالا يؤدى إلى تجاوز الثلث .
ثم قال ، والسديد : المصيب العدل الموافق للشرع . يقال : سد قوله يسد - بالكسر - إذا صار سديدا والسداد - بالفتح - الاستقامة والصواب . وأما السداد - بالكسر - فهو ما يسد به الشئ .
قال بعض العلماء : وفى الآية الكريمة ما يبعث الناس كلهم على أن يغضبوا للحق من الظلم ، وأن يأخذوا على أيدى أولياء السوء ، وأن يحرسوا أموال اليتامى ، ويبلغوا حقوق الضعفاء إليه ، لأنهم إن أضاعوا ذلك يوشك أن يلحق أبناءهم وأموالهم مثل ذلك . وأن يأكل قويهم ضعيفهم ؛ فإن اعتياد السوء ينسى الناس شناعته ، ويكسب النفوس ضراوة على عمله .
وقبل أن يأخذ السياق في تحديد أنصبة الورثة ، يعود ليحذر من أكل أموال اليتامى . . يعود إليه في هذه المرة ليلمس القلوب لمستين قويتين : أولاهما تمس مكمن الرحمة الأبوية والإشفاق الفطري على الذرية الضعاف وتقوى الله الحسيب الرقيب . والثانية تمس مكان الرهبة من النار ، والخوف من السعير ، في مشهد حسي مفزع :
( وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم . فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا . إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا ، وسيصلون سعيرا ) . .
وهكذا تمس اللمسة الأولى شغاف القلوب . قلوب الآباء المرهفة الحساسية تجاه ذريتهم الصغار . بتصور ذريتهم الضعاف مكسوري الجناح ، لا راحم لهم ولا عاصم . كي يعطفهم هذا التصور على اليتامى الذين وكلت إليهم أقدارهم ، بعد أن فقدوا الآباء . فهم لا يدرون أن تكون ذريتهم غدا موكولة إلى من بعدهم من الأحياء ، كما وكلت إليهم هم أقدار هؤلاء . . مع توصيتهم بتقوى الله فيمن ولاهم الله عليهم من الصغار ، لعل الله أن يهييء لصغارهم من يتولى أمرهم بالتقوى والتحرج والحنان . وتوصيتهم كذلك بأن يقولوا في شأن اليتامى قولا سديدا ، وهم يربونهم ويرعونهم كما يرعون أموالهم ومتاعهم . .
{ وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتّقُواّ اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : { ولْيَخْشَ } : ليخف الذين يحضرون موصيا يوصي في ماله أن يأمره بتفريق ماله وصية به فيمن لا يرثه ، ولكن ليأمره أن يبقي ماله لولده ، كما لو كان هو الموصي ، يسرّه أن يحثه من يحضره على حفظ ماله لولده ، وأن لا يدعهم عالة مع ضعفهم وعجزهم عن التصرف والاحتيال . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافا خافُوا عَلَيْهِمْ } . . . إلى آخر الاَية . فهذا في الرجل يحضره الموت فيسمعه يوصي بوصية تضرّ بورثته ، فأمر الله سبحانه الذي يسمعه أن يتقي الله ويوفقه ويسدّده للصواب ، ولينظر لورثته كما كان يحب أن يصنع لورثته إذا خشي عليهم الضيعة .
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافا خافُوا عَلَيْهِمْ } يعني : الذي يحضره الموت ، فيقال له : تصدّق من مالك ، وأعتق ، وأعط منه في سبيل الله ، فنهوا أن يأمروه بذلك . يعني : أن من حضر منكم مريضا عند الموت ، فلا يأمره أن ينفق ماله في العتق أو الصدقة أو في سبيل الله ، ولكن يأمره أن يبين ماله ، وما عليه من دين ، ويوصي في ماله لذوي قرابته الذين لا يرثون ، ويوصي لهم بالخمس أو الربع . يقول : أليس يكره أحدكم إذا مات وله ولد ضعاف يعني صغار أن يتركهم بغير مال ، فيكونوا عيالاً على الناس ؟ فلا ينبغي أن تأمروه بما لا ترضون به لأنفسكم ولا أولادكم ولكن قولوا الحقّ من ذلك .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَركُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافا } قال : يقول : من حضر ميتا فليأمره بالعدل والإحسان ، ولينهه عن الحيف والجور في وصيته ، وليخش على عياله ما كان خائفا على عياله لو نزل به الموت .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { ولِيخْشَى الّذِينَ لَوْ تَركُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافا } قال : إذا حضر ت وصية ميت ، فمره بما كنت آمرا نفسك بما تتقرّب به إلى الله ، وخف في ذلك ما كنت خائفا على ضعفتك لو تركتهم بعدك . يقول : فاتق الله وقل قولاً سديدا ، إنْ هو زاغ .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { ولْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَركُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيةً ضِعافا خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتّقُوا اللّهَ وليْقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا } الرجل يحضره الموت ، فيحضره القوم عند الوصية ، فلا ينبغي لهم أن يقولوا له : أوص بمالك كله وقدم لنفسك ، فإن الله سيرزق عيالك ، ولا يتركوه يوصي بماله كله ، يقول للذين حضروا : { ولْيَخْش الّذِينَ لَوْ تَركُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافا خافُوا عَلَيْهِمْ } فيقول كما يخاف أحدكم على عياله لو مات إذ يتركهم صغارا ضعافا لا شيء لهم الضيعة بعده ، فليخف ذلك على عيال أخيه المسلم ، فيقول له القول السديد .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب ، قال : ذهبت أنا والحكم بن عيينة إلى سعيد بن جبير ، فسألناه عن قوله : { ولْيَخْش الّذِين لَوْ تَركُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافا } . . . الاَية ، قال : قال الرجل يحضره الموت ، فيقول له من يحضره : اتق الله ، صلهم ، أعطهم ، برّهم ، ولو كانوا هم الذين يأمرهم بالوصية لأحبوا أن يبقوا لأولاهم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير في قوله : { ولْيَخْش الّذِين لَوْ تَركُوا مِنْ خَلْفِهمْ ذُرّيّةً ضِعافا } قال : يحرضهم اليتامى فيقولون : اتق الله وصلهم وأعطهم ، فلو كانوا هم لأحبوا أن يبقوا لأولادهم .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوَ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافا } . . . الاَية ، يقول : إذا حضر أحدكم من حضره الموت عند وصيته ، فلا يقل : أعتق من مالك وتصدّق ، فيفرّق ماله ويدع أهله عُيّلاً ، ولكن مروه فليكتب ماله من دين وما عليه ، ويجعل من ماله لذوي قرابته خمس ماله ، ويدع سائره لورثته .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافا خافُوا عَلَيْهِمْ } . . . الاَية . قال : هذا يفرق المال حين يقسم ، فيقول الذين يحضرون : أقللت زد فلانا ! فيقول الله تعالى : { وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ } فليخش أولئك وليقولوا فيهم مثل ما يحبّ أحدهم أن يقال في ولده بالعدل إذا أكثر : أبق على ولدك .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وليخش الذين يحضرون الموصي وهو يوصي ، الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا فخافوا عليهم الضيعة من ضعفهم وطفولتهم ، أن ينهوه عن الوصية لأقربائه ، وأن يأمره بإمساك ماله والتحفظ به لولده ، وهم لو كانوا من أقرباء الموصي لسرّهم أن يوصي لهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن حبيب ، قال : ذهبت أنا والحكم بن عيينة ، فأتينا مقسما ، فسألناه ، يعني عن قوله : { وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافا } . . . الاَية ، فقال : ما قال سعيد بن جبير ؟ فقلنا : كذا وكذا . فقال : ولكنه الرجل يحضره الموت ، فيقول له من يحضره : اتق الله وأمسك عليك مالك ، فليس أحد أحقّ بمالك من ولدك ! ولو كان الذي يوصي ذا قرابة لهم ، لأحبوا أن يوصي لهم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت قال : قال مقسم : هم الذين يقولون : اتق الله وأمسك عليك مالك ، فلو كان ذا قرابة لهم لأحبوا أن يوصي لهم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : زعم حضرميّ ، وقرأ : { وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافا } قال : قالوا حقيق أن يأمر صاحب الوصية بالوصية لأهلها ، كما أن لو كانت ذرّية نفسه بتلك المنزلة لأحبّ أن يوصي لهم ، وإن كان هو الوارث فلا يمنعه ذلك أن يأمره بالذي يحقّ عليه ، فإن ولده لو كانوا بتلك المنزلة أحبّ أن يحثّ عليه ، فليتق الله هو ، فليأمره بالوصية وإن كان هو الوارث ، أو نحوا من ذلك .
وقال آخرون : بل معنى ذلك أمر من الله ولاة اليتامى أن يلوهم بالإحسان إليهم في أنفسهم وأموالهم ، ولا يأكلوا أموالهم إسرافا وبدارا أن يكبروا ، وأن يكونوا لهم كما يحبون أن يكون ولاة ولده الصغار بعدهم لهم بالإحسان إليهم لو كانوا هم الذين ماتوا وتركوا أولادهم يتامى صغارا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيّةً ضِعافا خافُوا عَلَيْهِمْ } يعني بذلك : الرجل يموت وله أولاد صغار ضعاف يخاف عليهم العيلة والضيعة ، ويخاف بعده أن لا يحسن إليه من يليهم ، يقول : فإن ولي مثل ذريته ضعافا يتامى ، فليحسن إليهم ، ولا يأكل أموالهم إسرافا وبدارا خشية أن يكبروا ، فليتقوا الله ، وليقولوا قولاً سديدا .
وقال آخرون : معنى ذلك : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم ، فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديدا ، يكفيهم الله أمر ذرّيتهم بعدهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا إبراهيم بن عطية بن دريج بن عطية ، قال : ثني عمي محمد بن دريج ، عن أبيه ، عن الشيباني ، قال : كنا بالقسطنطينية أيام مسلمة بن عبد الملك ، وفينا ابن محيريز وابن الديلمي وهانىء بن كلثوم ، قال : فجعلنا نتذاكر ما يكون في آخر الزمان ، قال : فضقت ذرعا بما سمعت ، قال : فقلت لابن الديلمي : يا أبا بشر بودّي أنه لا يولد لي ولد أبدا ! قال : فضرب بيده على منكبي وقال : يا ابن أخي لا تفعل ، فإنه ليست من نسمة كتب الله لها أن تخرج من صلب رجل ، إلا وهي خارجة إن شاء وإن أبى . قال : ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجاك الله منه ، وإن تركت ولدك من بعدك حفظهم الله فيك ؟ قال : قلت بلى ، قال : فتلا عند ذلك هذه الاَية : { وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَركُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرْيّةً ضِعافا خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا } .
قال أبو جعفر : وأولى التأويلات بالاَية قول من قال : تأويل ذلك : وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم العيلة لو كانوا فرّقوا أمولهم في حياتهم ، أو قسموها وصية منهم بها لأولي قرابتهم وأهل اليتم والمسكنة ، فأبقوا أموالهم لولدهم خشية العيلة عليهم بعدهم مع ضعفهم وعجزهم عن المطالب ، فليأمروا من حضروه ، وهو يوصي لذوي قرابته وفي اليتامى والمساكين وفي غير ذلك بماله بالعدل ، وليتقوا الله ، وليقولوا قولاً سديدا ، وهو أن يعرّفوه ما أباح الله له من الوصية وما اختاره المؤمنون من أهل الإيمان بالله وبكتابه وسنته .
وإنما قلنا ذلك بتأويل الاَية أولى من غيره من التأويلات لما قد ذكرنا فيما مضى قبل ، من أن معنى قوله : { وَإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبَى وَاليَتامَى وَالمَساكِينْ فارْزُقوهُمْ منه وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفا } وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فأوصوا لهم ، بما قد دللنا عليه من الأدلة . فإذا كان ذلك تأويل قوله : { وَإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبَى وَاليَتَامى وَالمَساكِينُ } . . . الاَية ، فالواجب أن يكون قوله تعالى ذكره : { وَلْيَخْشَ الّذِينَ لَوْ تَركُوا مِنْ خَلْفِهِمْ } تأديبا منه عباده في أمر الوصية بما أذنهم فيه ، إذ كان ذلك عقيب الاَية التي قبلها في حكم الوصية ، وكان أظهر معانيه ما قلنا ، فإلحاق حكمه بحكم ما قبله أولى مع اشتباه معانيهما من صرف حكمه إلى غيره بما هو له غير مشبه .
وبمعنى ما قلنا في تأويل قوله : { ولْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا } قال من ذكرنا قوله في مبتدأ تأويل هذه الاَية ، وبه كان ابن زيد يقول .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { ولْيَخْش الّذِينَ لَوْ تَركُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرْيّةً ضِعافا خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتّقُوا اللّهَ ولْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا } قال : يقول قولاً سديدا ، يذكر هذا المسكين وينفعه ، ولا يجحف بهذا اليتيم وارث المؤدّي ولا يضرّ به ، لأنه صغير لا يدفع عن نفسه ، فانظر له كما تنظر إلى ولدك لو كانوا صغارا .
وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم } أمر للأوصياء بأن يخشوا الله تعالى ويتقوه في أمر اليتامى فيفعلوا بهم ما يحبون أن يفعل بذراريهم الضعاف بعد وفاتهم ، أو للحاضرين المريض عند الإيصاء بأن يخشوا ربهم ، أو يخشوا على أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم فلا يتركوه أن يضر بهم بصرف المال عنهم ، أو للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين متصورين أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافا مثلهم هل يجوزون حرمانهم ، أو للموصين بأن ينظروا للورثة فلا يسرفوا في الوصية ولو بما في حيزه جعل صلة للذين على معنى وليخش الذين حالهم وصفتهم أنهم لو شارفوا أن يخلفوا ذرية ضعافا خافوا عليهم الضياع ، وفي ترتيب الأمر عليه إشارة إلى المقصود منه والعلة فيه ، وبعث على الترحم وأن يحب لأولاد غيره ما يحب لأولاده وتهديد للمخالف بحال أولاده . { فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا } أمرهم بالتقوى التي هي غاية الخشية بعدما أمرهم بها مراعاة للمبدأ والمنتهى ، إذ لا ينفع الأول دون الثاني ، ثم أمرهم أن يقولوا لليتامى مثل ما يقولون لأولادهم بالشفقة وحسن الأدب ، أو للمريض ما يصده عن الإسراف في الوصية وتضييع حق الورثة ، ويذكره التوبة وكلمة الشهادة ، أو لحاضري القسمة عذرا جميلا ووعدا حسنا ، أو أن يقولوا في الوصية ما لا يؤدي إلى مجاوزة الثلث وتضييع الورثة .
وقوله { وليخش } جزم بلام الأمر ، ولا يجوز إضمار هذه اللام عند سيبويه ، قياساً على حروف الجر ، إلا في ضرورة شعر ، ومنه قول الشاعر : [ الوافر ]
مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ . . . إذا مَا خِفْتَ مِنْ أمْرٍ تَبَالاً{[3861]}
وقرأ أبو حيوة وعيسى بن عمر والحسن والزهري : بكسر لامات الأمر في هذه الآية ، وقد تقدم الكلام على لفظ { ذرية } في سورة آل عمران ، ومفعول يخشى محذوف لدلالة الكلام عليه ، وحسن حذفه من حيث يتقدر فيه التخويف بالله تعالى . والتخويف بالعاقبة في الدنيا ، فينظر كل متأول بحسب الأهم في نفسه ، وقرأ أبو عبد الرحمن وأبو حيوة والزهري وابن محيصن وعائشة : «ضُعفاء » بالمد وضم الضاد ، وروي عن ابن محيصن «ضُعُفاُ » بضم الضاد والعين وتنوين الفاء ، وأمال حمزة { ضعافاً } وأمال - { خافوا } ، والداعي إلى إمالة { خافوا } الكسرة التي في الماضي في قولك : خفت ليدل عليها و { خافوا } جواب { لو } تقديره : لو تركوا لخافوا ويجوز حذف اللام في جواب - لو - تقول - لو قام زيد لقام عمرو ، ولو قام زيد قام عمرو ، واختلف مَن المراد بهذه الآية ؟ فقال ابن عباس وقتادة والسدي وابن جبير والضحاك ومجاهد : المراد من حضر ميتاً حين يوصي فيقول له : قدم لنفسك وأعط فلان وفلانة ويؤذي الورثة بذلك ، فكأن الآية تقول لهم : كما كنتم تخشون على ورثتكم وذريتكم بعدكم ، فكذلك فاخشوا على ورثة غيركم وذريته ، ولا تحملوه على تبذير ماله وتركهم عالة . وقال مقسم وحضرمي : نزلت في عكس ذلك ، وهو أن يقول للمحتضر : أمسك على ورثتك وأبق لولدك ، وينهاه عن الوصية فيضر بذلك ذوي القربى ، وكل من يستحق أن يوصي له ، فقيل لهم : كما كنتم تخشون على ذريتكم وتسرون بأن يحسن إليهم ، فكذلك فسددوا القول في جهة المساكين واليتامى ، واتقوا الله في ضرهم .
قال القاضي أبو محمد : وهذان القولان لا يطرد واحد منهما في كل الناس ، بل الناس صنفان يصلح لأحدهما القول الواحد ، وللآخر القول الثاني ، وذلك أن الرجل إذا ترك ورثة مستقلين بأنفسهم أغنياء حسن أن يندب إلى الوصية ، ويحمل على أن يقدم لنفسه ، وإذا ترك ورثة ضعفاء مقلين حسن أن يندب إلى الترك لهم والاحتياط فإن أجره في قصد ذلك كأجره في المساكين ، فالمراعى إنما هو الضعف ، فيجب أن يمال معه ، وقال ابن عباس أيضاً : المراد بالآية ولاة الأيتام ، فالمعنى : أحسنوا إليهم وسددوا القول لهم ، واتقوا الله في أكل أموالهم كما تخافون على ذريتكم أن يفعل بهم خلاف ذلك ، وقالت فرقة : بل المراد جميع الناس ، فالمعنى : أمرهم باتقاء الله في الأيتام وأولاد الناس وإن لم يكونوا في حجورهم ، وأن يسددوا لهم القول كما يريد كل أحد أن يفعل بولده بعده ، ومن هذا ما حكاه الشيباني قال{[3862]} : كنا على قسطنطينة في عسكر مسلمة بن عبد الملك ، فجلسنا يوماً في جماعة من أهل العلم فيهم الديلمي فتذاكروا ما يكون من أهوال آخر الزمان ، فقلت له : يا أبا بسر{[3863]} ، ودي أن لا يكون لي ولد ، فقال لي : ما عليك ، ما من نسمة قضى الله بخروجها من رجل إلا خرجت أحب أم كره ، ولكن إن أردت أن تأمن عليهم فاتق الله في غيرهم ، ثم تلا هذه الآية ، «والسديد » معناه : المصيب للحق ، ومنه قول الشاعر :
أعلمه الرماية كل يوم . . . فلما اشتد ساعده رماني{[3864]}
موعظة لكل من أمر أو نهي أو حذر أو رغب في الآي السابقة في شأن أموال اليتامى وأموال الضعفاء من النساء والصبيان فابتدئت الموعظة بالأمر بخشية الله تعالى أي خشية عذابه ثم أعقب بإثارة شفقة الآباء على ذريتهم بأن ينزلوا أنفسهم منزلة الموروثين الذين اعتدوا هم على أموالهم وينزلوا ذرياتهم منزلة الذرية الذين أكلوا هم حقوقهم وهذه الموعظة مبنية على قياس قول النبي صلى الله عليه وسلم « لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه » وزاد إثارة الشفقة التنبيه على أن المعتدى عليهم خلق ضعاف بقوله ( ضعافا ) ثم أعقب بالرجوع إلى الغرض المنتقل منه وهو حفظ أموال اليتامى بالتهديد على أكله بعذاب الآخرة بعد التهديد بسوء الحال في الدنيا . فيفهم من الكلام تعريض بالتهديد بأن نصيب أبناءهم مثلما فعلوه بأبناء غيرهم والأظهر أن مفعول ( يخش ) حذف لتذهب نفس السامع في تقديره كل مذهب محتمل فينظر كل سامع بحسب الأهم عنده مما يخشاه أن يصيب ذريته .
وجملة ( لو تركوا ) إلى ( خافوا عليهم ) صلة الموصول وجملة ( خافوا عليهم ) جواب ( لو ) .
وجيء بالموصول لأن الصلة لما كانت وصفا مفروضا حسن التعريف بها إذ المقصود تعريف من هذه حاله وذلك كاف في التعريف للمخاطبين بالخشية إذ كل سامع يعرف مضمون هذه الصلة لو فرض حصولها له إذ هي أمر يتصوره كل الناس .
ووجه اختيار ( لو ) هنا من بين أدوات الشرط أنها هي الأداة الصالحة لفرض الشرط من غير تعرض لإمكانه فيصدق معها الشرط المتعذر الوقوع والمستبعده والممكنه : فالذين بلغوا اليأس من الولادة ولهم أولاد كبار أو لا أولاد لهم يدخلون في فرض هذا الشرط لأنهم لو كان لهم أولاد صغار لخافوا عليهم والذين لهم أولاد صغار أمرهم أظهر .
وفعل ( تركوا ) ماض مستعمل في مقاربة حصول الحدث مجازا بعلاقة الأول كقوله تعالى ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم ) وقوله تعالى ( لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم ) وقول الشاعر :
إلى ملك كاد الجبال لفقده *** تزول زوال الراسيات من الصخر
أي وقاربت الراسيات الزوال إذ الخوف إنما يكون عند مقاربة الموت لا بعد الموت . فالمعنى : لو شارفوا أن يتركوا ذرية ضعافا لخافوا عليهم من أولياء السوء .
والمخاطب بالأمر من يصلح له من الأصناف المتقدمة : من الأوصياء ومن الرجال الذين يحرمون النساء ميراثهم ويحرمون صغار اخوتهم أو أبناء اخوتهم وأبناء أعمامهم من ميراث آبائهم كل أولئك داخل في الأمر بالخشية والتخويف بالموعظة ولا يتعلق هذا الخطاب بأصحاب الضمير في قوله ( فارزقوهم منه ) لأن تلك الجملة وقعت كالاستطراد ولأنه لا علاقة لمضمونها بهذا التخويف .
وفي الآية ما يبعث الناس كلهم على أن يغضبوا للحق من الظلم وأن يأخذوا على أيدي أولياء السوء وأن يحرسوا أموال اليتامى ويبلغوا حقوق الضعفاء اليهم لأنهم إن أضاعوا ذلك يوشك أن يلحق أبناءهم وأموالهم مثل ذلك وأن يأكل قويهم ضعيفهم فإن اعتياد السوء ينسي الناس شناعته ويكسب النفوس ضراوة على عمله . وتقدم تفسير الذرية عند قوله تعالى ( ذرية بعضها من بعض ) في سورة آل عمران .
وقوله ( فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ) فرع الأمر بالتقوى على الأمر بالخشية وإن كانا أمرين متقاربين : لأن الأمر الأول لما عضد بالحجة اعتبر كالحاصل فصح التفريع عليه والمعنى : فليتقوا الله في أموال الناس وليحسنوا إليهم القول .