ثم فصل - سبحانه - الحديث عن الأزواج الثالثة فقال : { فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة وَأَصْحَابُ المشأمة مَآ أَصْحَابُ المشأمة والسابقون السابقون } .
والمراد بأصحاب الميمنة ، أولئك السعداء الذين يؤتون كتبهم يوم القيامة بأيمانهم ، أو لأنهم يذهب بهم ذات اليمين إلى الجنة . .
أو سموا بذلك ، لأنهم ميامين ، أى : أصحاب بركة على أنفسهم ، لأنهم أطاعوا ربهم وخالفوا أهواءهم . . . فكانت عاقبتهم الجنة .
وسمى الآخرون بأصحاب المشأمة ، لأنهم مشائيم ، أى : أصحاب شؤم على أنفسهم ، لأنهم طغوا وآثروا الحياة الدنيا ، فكانت عاقبتهم النار .
أو سموا بذلك ، لأنهم يؤتون كتبهم بشمائلهم . أو لأنهم يذهب بهم ذات الشمال إلى النار . . والعرب تسمى الشمال شؤما ، كما تسمى اليمين يمنا .
والتعبير بقوله : { مَآ أَصْحَابُ الميمنة } للتفخيم والإعلاء من شأنهم ، كما أن التعبير بقوله - تعالى - : { مَآ أَصْحَابُ المشأمة } للتحقير والتعجيب من حالهم .
وجملة : { مَآ أَصْحَابُ الميمنة } مكونة من مبتدأ - وهو ما الاستفهامية - ، وخبر وهو ما بعدها ، وهذه الجملة خبر لقوله { فَأَصْحَابُ الميمنة } . ووضع فيها الاسم الظاهر موضع الضمير للتفخيم ، بخلاف وضعه فى أصحاب المشأمة ، فهو للتشنيع عليهم .
وشبيه بهذا الأسلوب قوله - تعالى - : { الحاقة مَا الحاقة } و { القارعة مَا القارعة }
ولا يؤتى بمثل هذا التركيب إلا فى موضاع التفخيم ، أو التعجيب .
والمعنى : فأصحاب الميمنة ، أى شىء هم فى أحوالهم وصفاتهم الكرمة ، وأصحابه المشأمة ، أى شىء هم فى أحوالهم وصفاتهم القبيحة ؟
وقد ترك هذا الاستفهام التعجيبى على إبهامه ، لتذهب النفس فيه كل مذهب من الثواب أو العقاب . .
وقوله : فأصحَابُ المَيْمَنَةِ ما أصحَابُ المَيْمَنَةِ وهذا بيان من الله عن الأزواج الثلاثة ، يقول ، جل ثناؤه : وكنتم أزواجا ثلاثة : أصحاب الميمنة ، وأصحاب المشأمة ، والسابقون ، فجعل الخبر عنهم ، مغنيا عن البيان عنهم ، على الوجه الذي ذكرنا ، لدلالة الكلام على معناه ، فقال : فَأصحَابُ المَيْمَنَةِ ما أصحَابُ المَيْمَنَةِ يعجّب نبيه محمدا منهم ، وقال : ما أصحَابُ اليَمِينِ الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة ، أيّ شيء أصحاب اليمين وأصحَابُ المَشأَمَةِ ما أصحَابُ المَشأَمَةِ يقول تعالى ذكره : وأصحاب الشمال الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار ، والعرب تسمي اليد اليسرى : الشّؤْمي ومنه قول أعشى بني ثعلبة :
فأنْحَى على شُؤمَي يَدَيهِ فَذادَها *** بأظْمأَ مِنْ فَرْغ الذّؤَابَةِ أسْحَما
وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة فأصحاب المنزلة السنية وأصحاب المنزلة الدنيئة من تيمنهم بالميامن وتشاؤمهم بالشمائل أو أصحاب الميمنة و أصحاب المشأمة الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم والذين يؤتونها بشمائلهم أو أصحاب اليمن والشؤم فإن السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم والأشقياء مشائيم عليها بمعصيتهم والجملتان الاستفهاميتان خبران لما قبلهما بإقامة الظاهر مقام الضمير ومعناهما التعجب من حال الفريقين .
وقوله تعالى : { فأصحاب الميمنة } ابتداء ، و : { ما } ابتداء ثان . و : { أصحاب الميمنة } خبرها ، والجملة خبر الابتداء الأول ، وفي الكلام معنى التعظيم ، كما تقول زيد ما زيد ، ونظير هذا في القرآن كثير ، و { الميمنة } : أظهر ما في اشتقاقها أنها من ناحية اليمين ، وقيل من اليمن ، وكذلك { المشأمة } إما أن تكون من اليد الشؤمى ، وإما أن تكون من الشؤم ، وقد فسرت هذه الآية بهذين المعنيين ، إذ { أصحاب الميمنة } الميامين على أنفسهم ، قاله الحسن والربيع ، ويشبه أن اليمن والشؤم إنما اشتقا من اليمنى والشؤمى وذلك على طريقهم في السانح والبارح{[10878]} ، وكذلك اليمن والشؤم اشتقا من اليمنى والشؤمى{[10879]} .
قد علمت عند تفسير قوله تعالى : { إذا وقعت الواقعة } [ الواقعة : 1 ] الوجه في متعلق { إذا } وإذ قد وقع قوله : { وكنتم أزواجاً ثلاثة } [ الواقعة : 7 ] عطفاً على الجمل التي أضيف إليها ( إذَا ) من قوله : { إذا رجت الأرض رجا } [ الواقعة : 4 ] كان هو محط القصد من التوقيت ب ( إذا ) الثانية الواقعة بدلاً من ( إذا ) الأولى وكلتاهما مضمن معنى الشرط ، فكان هذا في معنى الجزاء ، فلك أن تجعل الفاء لربط الجزاء مع التفصيل للإجمال ، وتكون جملة { فأصحاب الميمنة } جواباً ل ( إذا ) الثانية آئلاً إلى كونه جواباً ل ( إذا ) الأولى لأن الثانية مبدلة منها ، ولذلك جاز أن يكون هذا هو جواب ( إذا ) الأولى فتكون الفاء مستعملة في معنييها كما تقدم عند قوله تعالى : { ليس لوقعتها كاذبة } [ الواقعة : 2 ] .
وقد أفاد التفصيل أن الأصناف ثلاثة :
صنفٌ منهم أصحاب الميمنة ، وهم الذين يجعلون في الجهة اليمنى في الجنة أو في المحشر . واليمين جهة عناية وكرامة في العرف ، واشتقت من اليمْن ، أي البركة .
وصنف أصحاب المشأمة ، وهي اسم جهة مشتقة من الشؤم ، وهو ضد اليمن فهو الضر وعدم النفع وقد سميا في الآية الآتية { أصحابَ اليمين } [ الواقعة : 27 ] و { أصحاب الشمال } [ الواقعة : 41 ] ، فجعل الشمال ضدَّ اليمين كما جُعل المشأمة هنا ضد الميمنة إشعاراً بأن حالهم حال شؤم وسوء ، وكل ذلك مستعار لما عرف في كلام العرب من إطلاق هذين اللفظين على هذا المعنى الكنائي الذي شاع حتى ساوى الصريح ، وأصله جاءٍ من الزجر والعيافة إذ كانوا يتوقعون حصول خير من أغراضهم من مرور الطير أو الوحش من يمين الزاجر إلى يساره ويتوقعون الشر من مروره بعكس ذلك ، وقد تقدم تفصيله عند قوله تعالى : { قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين } في سورة الصافات ( 28 ) ، وتقدم شيء منه عند قوله تعالى : { يَطَّيَّروا بموسى ومن معه } في سورة الأعراف ( 131 ) ، وعند قوله تعالى : { قالوا إنا تَطيرنا بكم } في سورة يس ( 18 ) .
ولذلك استغني هنا عن الإخبار عن كلا الفريقين بخبر فيه وصف بعض حاليهما بذكر ما هو إجمال لحاليهما مما يشعر به ما أضيف إليه أصحابه من لفظي الميمنة والمشأمة بطريقة الاستفهام المستعمل في التعجيب من حال الفريقين في السعادة والشقاوة ، وهو تعجيب ترك على إبهامه هنا لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن من الخير والشر ، ف ( ما ) في الموضعين اسم استفهام .
و ( أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ) خبرَانِ عن ( مَا ) في الموضعين كقوله تعالى : { الحاقة ما الحاقة } [ الحاقة : 1 ، 2 ] وقوله : { القارعة ما القارعة } [ القارعة : 1 ، 2 ] .
وإظهار لفظي { أصحاب الميمنة } و { أصحاب المشئمة } بعد الاستفهامين دون الإِتيان بضميريْهما . لأن مقام التعجيب والتشهير يقتضي الإظهار بخلاف مقام قوله تعالى : { وما أدراك ماهية } [ القارعة : 10 ] .