اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَصۡحَٰبُ ٱلۡمَشۡـَٔمَةِ مَآ أَصۡحَٰبُ ٱلۡمَشۡـَٔمَةِ} (9)

قوله : { فَأَصْحَابُ الميمنة مَا أَصْحَابُ الميمنة } .

«أصحاب » الأول مبتدأ ، و«ما » استفهامية - فيه تعظيم - مبتدأ ثاني ، و«أصحاب » الثاني خبره ، والجملة خبر الأول ، وتكرار المبتدأ الأول هنا بلفظه مغنٍ عن الضمير ، ومثله : { الحاقة مَا الحاقة } [ الحاقة : 1 ، 2 ] ، { القارعة مَا القارعة } [ القارعة : 1 ، 2 ] ولا يكون ذلك إلا في مواضع التَّعظيم{[54708]} .

فإن قيل : إن «ما » نكرة وما بعدها معرفة ، فكان ينبغي أن يقال : «ما » خبر مقدم ، و«أصحاب » الثاني وشبهه مبتدأ ؛ لأن المعرفة أحق بالابتداء من النكرة ؟ وهذا السؤال واردٌ على سيبويه{[54709]} في مثل هذا .

وفي قولك : «كَمْ مالك ، ومرَرْتُ بِرَجُلٍ خَيْرٍ منهُ أبُوه » فإنه يعرب «ما » الاستفهامية ، و«كم » و«أفعل » مبتدأ وما بعدها خبرها .

والجواب : أنه كثر وقوع النكرة خبراً عن هذه الأشياء كثرة متزايدة ، فاطَّرد الباب ، ليجري على سنن واحدة ، هكذا أجابوا .

وهذا لا ينهض مانعاً من جواز أن يكون «ما » و«كَمْ » و«أفْعَل » خبراً مقدماً ولو قيل به لم يكن خطأ ، بل أقرب إلى الصَّواب{[54710]} .

و«الميمنة » «مَفْعَلَة » من لفظ اليمين ، وكذلك «المشأمة » من اليد الشؤمى وهي الشمال لتشاؤم العرب بها ، أو من الشُّؤم{[54711]} .

فصل في تحرير معنى الآية{[54712]}

قال السدي : «أصحاب الميمنةِ » هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة ، و«أصحاب المَشْأمة » هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النَّار{[54713]} .

و«المَشْأمة » : الميسرة ، وكذلك الشَّأمة ، يقال : قعد فلان شأمة .

ويقال : شائم بأصحابك أي : خذ بهم شأمة أي : ذات الشمال والعرب تقول لليد الشمال : الشؤمى ، وللجانب الشمال : الأشأم .

وكذلك يقال لما جاء عن اليمين : اليمن ، ولما جاء عن الشمال : الشُّؤم .

قال البغوي{[54714]} : «ومنه سمي «الشَّام واليمن » ؛ لأن «اليمن » عن يمين الكعبة ، و«الشام » عن شمالها » .

قال ابن عباس والسدي : «أصْحَابُ المَيْمَنَةِ » هم الذين كانوا عن يمين آدم حين أخرجت الذُّرية من صلبه ، فقال الله لهم : «هؤلاء في الجنة ولا أبالي »{[54715]} .

وقال زيد بن أسلم : هم الذين أخذوا من شق آدم الأيمن يومئذ ، وأصحاب المشأمة الذين أخذوا من شق آدم الأيسر{[54716]} .

وقال عطاء ومحمد بن كعب : «أصْحَابُ الميمنةِ من أوتي كتابه بيمينه ، وأصحاب المشأمة من أوتي كتابه بشماله »{[54717]} .

وقال ابن جريج : «أصحاب الميمنة » هم أصحاب الحسنات ، وأصحاب المشأمة ؛ هم أهل السيئات .

وقال الحسن والربيع : «أصحاب الميمنة » الميامين على أنفسهم بالأعمال الصالحة ، وأصحاب المشأمة : المشائيم على أنفسهم بالأعمال السيئة .

وفي صحيح مسلم من حديث «الإسراء » عن أبي ذرٍّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «فَلمَّا عَلوْنَا السَّماء الدُّنيا ، فإذَا رجلٌ عن يَمينهِ أسْودةٌ ، وعنْ يَسارِهِ أسودةٌ ، قال فإذَا نظر قبل يَمينِه ضَحِكَ ، وإذَا نَظَرَ قبلَ شمالِهِ بكَى ، قال : فقال : مَرْحَباً بالنبيِّ الصَّالحِ والابْنِ الصَّالح ، قال : فقُلْتُ : يا جِبْريلُ منْ هذَا ؟ .

قال : هذا آدمُ - عليه الصلاة والسلام - وهذه الأسودةُ عن يمينه وعن شمالهِ بَنُوه فأهْلُ اليَمِينِ أهْلُ الجنَّةِ ، والأسودةُ الَّتي عن شمالهِ أهْلُ النَّارِ » وذكر الحديث{[54718]} .

وقال المبردُ : «أصحاب الميمنة » أصحاب التقدم ، وأصحاب المشأمة أصحاب التأخُّر والعرب تقول : اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك أي : اجعلني من المتقدمين ولا تجعلني من المتأخرين{[54719]} .

ثم عجب نبيه صلى الله عليه وسلم فقال : { مَا أَصْحَابُ الميمنة } وهذا كما يقال : «زَيْدٌ مَا زَيْدٌ » ، يريد «زيد شديد » فالتكرير في { مَا أَصْحَابُ الميمنة } ، و{ مَا أَصْحَابُ المشأمة } للتَّفخيم والتعجُّب ، كقوله : { الحاقة مَا الحاقة } ، و{ القارعة مَا القارعة } كما يقال : «زَيْدٌ ما زيدٌ » .

وفي حديث أم زرع رضي الله عنها : «مالك ، وما مالك ؟ »{[54720]} .

والمقصود : تكثير ما لأصحاب الميمنة في الثواب ، وأصحاب المشأمة من العقاب .

والفاء في قوله : «فأصْحَاب » تدل على التقسيم ، وبيان ما ورد عليه التقسيم ، كأنه قال : أزواجاً ثلاثة : أصحاب الميمنة ، وأصحاب المشأمة ، والسابقون ، وبين حال كل قسم فقال : { مَا أَصْحَابُ الميمنة } وترك التقسيم أولاً ، واكتفى بما يدل عليه بأن تُذكر الأقسام الثلاثة مع أحوالها .

فإن قيل : ما الحكمة في اختيار لفظ «المشأمة » في مقابلة «الميمنة » مع أنه قال في بيان أحوالهم { وَأَصْحَابُ الشمال مَا أَصْحَابُ الشمال } ؟

فالجواب : أنَّ اليمين وضع للجانب المعروف ، واستعملوا منها ألفاظاً في مواضع فقالوا : «هذا ميمون » تيمناً به ، ووضعوا مقابلة اليمين اليسار من الشيء اليسير إشارة إلى ضعفه ، ولفظ الشمال في مقابلته ، واستعملوا منه ألفاظاً تشاؤماً به ، فذكر «المشأمة » [ في ]{[54721]} مقابلة [ «الميمنة » ]{[54722]} [ وذكر الشمال في مقابلة اليمين ]{[54723]} فاستعمل كل لفظ مع ما يقابله .


[54708]:ينظر: الدر المصون 6/253.
[54709]:ينظر: "الكتاب" 1/291.
[54710]:ينظر الدر المصون 6/253، 254.
[54711]:السابق.
[54712]:ينظر: القرطبي 17/129.
[54713]:ينظر القرطبي 17/129.
[54714]:ينظر: معالم التنزيل 4/280.
[54715]:ذكره البغوي في "تفسيره" (4/279).
[54716]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (17/129) عن زيد بن أسلم.
[54717]:ينظر المصدر السابق.
[54718]:تقدم.
[54719]:ينظر: القرطبي 17/129.
[54720]:أخرجه البخاري (9/163) كتاب النكاح، باب: حسن المعاشرة مع الأهل رقم (5189) ومسلم (4/1896) كتاب فضائل الصحابة، باب ذكر حديث أمر زرع حديث (92/2448) من حديث عائشة.
[54721]:في ب: إلى.
[54722]:في ب: اليمين.
[54723]:سقط من ب.