قوله : { فَأَصْحَابُ الميمنة مَا أَصْحَابُ الميمنة } .
«أصحاب » الأول مبتدأ ، و«ما » استفهامية - فيه تعظيم - مبتدأ ثاني ، و«أصحاب » الثاني خبره ، والجملة خبر الأول ، وتكرار المبتدأ الأول هنا بلفظه مغنٍ عن الضمير ، ومثله : { الحاقة مَا الحاقة } [ الحاقة : 1 ، 2 ] ، { القارعة مَا القارعة } [ القارعة : 1 ، 2 ] ولا يكون ذلك إلا في مواضع التَّعظيم{[54708]} .
فإن قيل : إن «ما » نكرة وما بعدها معرفة ، فكان ينبغي أن يقال : «ما » خبر مقدم ، و«أصحاب » الثاني وشبهه مبتدأ ؛ لأن المعرفة أحق بالابتداء من النكرة ؟ وهذا السؤال واردٌ على سيبويه{[54709]} في مثل هذا .
وفي قولك : «كَمْ مالك ، ومرَرْتُ بِرَجُلٍ خَيْرٍ منهُ أبُوه » فإنه يعرب «ما » الاستفهامية ، و«كم » و«أفعل » مبتدأ وما بعدها خبرها .
والجواب : أنه كثر وقوع النكرة خبراً عن هذه الأشياء كثرة متزايدة ، فاطَّرد الباب ، ليجري على سنن واحدة ، هكذا أجابوا .
وهذا لا ينهض مانعاً من جواز أن يكون «ما » و«كَمْ » و«أفْعَل » خبراً مقدماً ولو قيل به لم يكن خطأ ، بل أقرب إلى الصَّواب{[54710]} .
و«الميمنة » «مَفْعَلَة » من لفظ اليمين ، وكذلك «المشأمة » من اليد الشؤمى وهي الشمال لتشاؤم العرب بها ، أو من الشُّؤم{[54711]} .
فصل في تحرير معنى الآية{[54712]}
قال السدي : «أصحاب الميمنةِ » هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة ، و«أصحاب المَشْأمة » هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النَّار{[54713]} .
و«المَشْأمة » : الميسرة ، وكذلك الشَّأمة ، يقال : قعد فلان شأمة .
ويقال : شائم بأصحابك أي : خذ بهم شأمة أي : ذات الشمال والعرب تقول لليد الشمال : الشؤمى ، وللجانب الشمال : الأشأم .
وكذلك يقال لما جاء عن اليمين : اليمن ، ولما جاء عن الشمال : الشُّؤم .
قال البغوي{[54714]} : «ومنه سمي «الشَّام واليمن » ؛ لأن «اليمن » عن يمين الكعبة ، و«الشام » عن شمالها » .
قال ابن عباس والسدي : «أصْحَابُ المَيْمَنَةِ » هم الذين كانوا عن يمين آدم حين أخرجت الذُّرية من صلبه ، فقال الله لهم : «هؤلاء في الجنة ولا أبالي »{[54715]} .
وقال زيد بن أسلم : هم الذين أخذوا من شق آدم الأيمن يومئذ ، وأصحاب المشأمة الذين أخذوا من شق آدم الأيسر{[54716]} .
وقال عطاء ومحمد بن كعب : «أصْحَابُ الميمنةِ من أوتي كتابه بيمينه ، وأصحاب المشأمة من أوتي كتابه بشماله »{[54717]} .
وقال ابن جريج : «أصحاب الميمنة » هم أصحاب الحسنات ، وأصحاب المشأمة ؛ هم أهل السيئات .
وقال الحسن والربيع : «أصحاب الميمنة » الميامين على أنفسهم بالأعمال الصالحة ، وأصحاب المشأمة : المشائيم على أنفسهم بالأعمال السيئة .
وفي صحيح مسلم من حديث «الإسراء » عن أبي ذرٍّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «فَلمَّا عَلوْنَا السَّماء الدُّنيا ، فإذَا رجلٌ عن يَمينهِ أسْودةٌ ، وعنْ يَسارِهِ أسودةٌ ، قال فإذَا نظر قبل يَمينِه ضَحِكَ ، وإذَا نَظَرَ قبلَ شمالِهِ بكَى ، قال : فقال : مَرْحَباً بالنبيِّ الصَّالحِ والابْنِ الصَّالح ، قال : فقُلْتُ : يا جِبْريلُ منْ هذَا ؟ .
قال : هذا آدمُ - عليه الصلاة والسلام - وهذه الأسودةُ عن يمينه وعن شمالهِ بَنُوه فأهْلُ اليَمِينِ أهْلُ الجنَّةِ ، والأسودةُ الَّتي عن شمالهِ أهْلُ النَّارِ » وذكر الحديث{[54718]} .
وقال المبردُ : «أصحاب الميمنة » أصحاب التقدم ، وأصحاب المشأمة أصحاب التأخُّر والعرب تقول : اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك أي : اجعلني من المتقدمين ولا تجعلني من المتأخرين{[54719]} .
ثم عجب نبيه صلى الله عليه وسلم فقال : { مَا أَصْحَابُ الميمنة } وهذا كما يقال : «زَيْدٌ مَا زَيْدٌ » ، يريد «زيد شديد » فالتكرير في { مَا أَصْحَابُ الميمنة } ، و{ مَا أَصْحَابُ المشأمة } للتَّفخيم والتعجُّب ، كقوله : { الحاقة مَا الحاقة } ، و{ القارعة مَا القارعة } كما يقال : «زَيْدٌ ما زيدٌ » .
وفي حديث أم زرع رضي الله عنها : «مالك ، وما مالك ؟ »{[54720]} .
والمقصود : تكثير ما لأصحاب الميمنة في الثواب ، وأصحاب المشأمة من العقاب .
والفاء في قوله : «فأصْحَاب » تدل على التقسيم ، وبيان ما ورد عليه التقسيم ، كأنه قال : أزواجاً ثلاثة : أصحاب الميمنة ، وأصحاب المشأمة ، والسابقون ، وبين حال كل قسم فقال : { مَا أَصْحَابُ الميمنة } وترك التقسيم أولاً ، واكتفى بما يدل عليه بأن تُذكر الأقسام الثلاثة مع أحوالها .
فإن قيل : ما الحكمة في اختيار لفظ «المشأمة » في مقابلة «الميمنة » مع أنه قال في بيان أحوالهم { وَأَصْحَابُ الشمال مَا أَصْحَابُ الشمال } ؟
فالجواب : أنَّ اليمين وضع للجانب المعروف ، واستعملوا منها ألفاظاً في مواضع فقالوا : «هذا ميمون » تيمناً به ، ووضعوا مقابلة اليمين اليسار من الشيء اليسير إشارة إلى ضعفه ، ولفظ الشمال في مقابلته ، واستعملوا منه ألفاظاً تشاؤماً به ، فذكر «المشأمة » [ في ]{[54721]} مقابلة [ «الميمنة » ]{[54722]} [ وذكر الشمال في مقابلة اليمين ]{[54723]} فاستعمل كل لفظ مع ما يقابله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.