{ وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ } أي : الأيمن من موسى في وقت . مسيره ، أو الأيمن : أي : الأبرك من اليمن والبركة . ويدل على هذا المعنى قوله تعالى : { أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا } والفرق بين النداء والنجاء ، أن النداء هو الصوت الرفيع ، والنجاء ما دون ذلك ، وفي هذه إثبات الكلام لله تعالى وأنواعه ، من النداء ، والنجاء ، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ، خلافا لمن أنكر ذلك ، من الجهمية ، والمعتزلة ، ومن نحا نحوهم .
وقوله - تعالى - : { وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور الأيمن وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } بيان لفضائل أخرى منحها الله - تعالى - لموسى - عليه السلام - .
والطور : جبل بين مصر وقرى مدين ، الأيمن : أى الذى يلى يمين موسى .
قال الآلوسى : " والأيمن " صفة لجانب ، لقوله - تعالى - فى آية أخرى : { جَانِبِ الطور الأيمن } بالنصب . أى : نادنياه من ناحيته اليمنى ، من اليمين المقابل لليسار . والمراد به يمين موسى ، أى : الناحية التى تلى يمينه " إذ الجبل نفسه لا ميمنة له ولا ميسرة " .
ويجوز أن يكون الأيمن من اليمن وهو البركة ، وهو صفة لجانب - أيضاً - أى : من جانبه الميمون المبارك . . .
والمراد من ندائه من ذلك الجانب : ظهور كلامه - تعالى - من تلك الجهة ، والظاهر أنه - عليه السلام - إنما سمع الكلام اللفظى . . . " .
وقوله { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } أى : وقربناه تقريب تشريف وتكريم حالة مناجاته لنا ، حيث أسمعناه كلامنا ، واصطفيناه لحمل رسالتنا إلى الناس .
فقوله { نَجِيّاً } من المناجاة وهى المسارة بالكلام ، وهو حال من مفعول وقربناه ، أى : وقربنا موسى منا حال كونه مناجيا لنا .
القول في تأويل قوله تعالى . { وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطّورِ الأيْمَنِ وَقَرّبْنَاهُ نَجِيّاً * وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً } .
يقول تعالى ذكره : ونادينا موسى من ناحية الجبل ، ويعني بالأيمن : يمين موسى ، لأن الجبل لا يمين له ولا شمال ، وإنما ذلك كما يقال : قام عن يمين القبلة وعن شمالها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : مِنْ جانِبِ الطّورِ الأيمَنِ قال : جانب الجبل الأيمن .
وقد بيّنا معنى الطور واختلاف المختلفين فيه ، ودللنا على الصواب من القول فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وقوله : وَقَرّبْناهُ نَجِيّا يقول تعالى ذكره : وأدنيناه مناجيا ، كما يقال : فلان نديم فلان ومنادمه ، وجليس فلان ومجالسه . وذُكر أن الله جلّ ثناؤه أدناه ، حتى سمع صريف القلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا سفيان ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس وَقَرّبْناهُ نجِيّا قال : أُدْنيَ حتى سمع صريف القلم .
حدثنا محمد بن منصور الطّوسِيّ ، قال : حدثنا يحيى بن أبي بكر ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، قال : أراه عن مجاهد ، في قوله : وَقَرّبْناهُ نَجِيّا قال : بين السماء الرابعة ، أو قال : السابعة ، وبين العرش سبعون ألف حجاب : حجاب نور ، وحجاب ظلمة ، وحجاب نور ، وحجاب ظلمة فما زال يقرب موسى حتى كان بينه وبينه حجاب ، وسمع صَريف القلم قالَ رَبّ أرِنِي أنْظُرْ إلَيْكَ .
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، قال : قرّبه منه حتى سمع صريف القلم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن ميسرة وَقَرّبْناهُ نَجِيّا قال : أُدْنِيَ حتى سمع صريف القلم في اللوح ، وقال شعبة : أردفه جبرائيل عليه السلام .
حدثنا به الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَقَرّبْناهُ نَجِيّا قال : نجا بصدقه .
جملة وناديناه عطف على جملة إنه كان مخلصاً فهي مثلها مستأنفة .
والنداء : الكلام الدال على طلب الإقبال ، وأصله : جهر الصوت لإسماع البعيد ، فأطلق على طلب إقبال أحد مجازاً مرسَلاً ، ومنه { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة } [ الجمعة : 9 ] ، وهو مشتق من الندى بفتح النون وبالقصر وهو بُعد الصوت . ولم يسمع فعله إلاّ بصيغة المفاعلة ، وليست بحصول فعل من جانبين بل المفاعلة للمبالغة ، وتقدم عند قوله تعالى : { كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء } في سورة البقرة ( 171 ) ، وعند قوله : { ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان } في سورة آل عمران ( 193 ) .
وهذا النداء هو الكلام الموجه إليه من جانب الله تعالى . قال تعالى : { إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلامي } في سورة الأعراف ( 144 ) ، وتقدم تحقيق صفته هناك ، وعند قوله تعالى : { حتى يسمع كلام اللَّه } في سورة براءة ( 6 ) .
والطّور : الجبل الواقع بين بلاد الشام ومصر ، ويقال له : طور سيناء .
وجانبه : ناحيته السفلى ، ووصفه بالأيمن لأنه الذي على يمين مستقبل مشرق الشمس ، لأن جهة مشرق الشمس هي الجهة التي يضبط بها البشر النواحي .
والتقريب : أصله الجعل بمكان القرب ، وهو الدنو وهو ضد البعد . وأريد هنا القرب المجازي وهو الوحي . فقوله : { نَجِيّاً } حال من ضمير { موسى } ، وهي حال مؤكدة لمعنى التقريب .
ونجّي : فعيل بمعنى مفعول من المناجاة . وهي المحادثة السرية ؛ شُبّه الكلام الذي لم يكلم بمثله أحداً ولا أطْلَع عليه أحداً بالمناجاة . وفعيل بمعنى مفعول ، يجيء من الفعل المزيد المجرد بحذف حرف الزيادة ، مثل جليس ونديم ورضيع .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ونادينا موسى من ناحية الجبل، ويعني بالأيمن: يمين موسى، لأن الجبل لا يمين له ولا شمال، وإنما ذلك كما يقال: قام عن يمين القبلة وعن شمالها...
وقوله:"وَقَرّبْناهُ نَجِيّا" يقول تعالى ذكره: وأدنيناه مناجيا، كما يقال: فلان نديم فلان ومنادمه، وجليس فلان ومجالسه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فإن كان الأيمن من اليمن والبركة فيكون تأويله: وناديناه من جانب الطور المبارك الميمون...
وقال بعضهم: هو يمين الجبل، وقال بعضهم: يمين موسى.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله (نجيا) معناه أنه اختصه بكلامه بحيث لم يسمع غيره، يقال: ناجاه يناجيه مناجاة إذا اختصه بإلقاء كلامه إليه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
للنجوى مزية على النداء، فجمع له الوصفَيْن: النداءَ في بدايته، والسماعَ والنجوى في نهايته؛ فوقَفَه الحقُّ وناداه، وفي جميع الحالين تولاّه. {مِن جَانِبِ الطُّورِ}: ترجع إلى موسى فموسى كان بجانب الطور...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الأيمن من اليمين: أي من ناحيته اليمنى. أو من اليمن صفة للطور، أو للجانب. شبهه بمن قربه بعض العظماء للمناجاة، حيث كلمه بغير واسطة ملك.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
قال ابن القشيري: في الكلام حذف وتقديره {وناديناه} حين أقبل من مدين ورأى النار من الشجرة وهو يريد من يهديه إلى طريق مصر {من جانب الطور} أي من ناحية الجبل.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} أي: الأيمن من موسى في وقت. مسيره، أو الأيمن: أي: الأبرك من اليمن والبركة. ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: {أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} والفرق بين النداء والنجاء، أن النداء هو الصوت الرفيع، والنجاء ما دون ذلك...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويبين فضل موسى بندائه من جانب الطور الأيمن [الأيمن بالنسبة لموسى إذ ذاك] وتقريبه إلى الله لدرجة الكلام. الكلام القريب في صورة مناجاة. ونحن لا ندري كيف كان هذا الكلام، وكيف أدركه موسى.. أكان صوتا تسمعه الأذن أم يتلقاه الكيان الإنساني كله. ولا نعلم كيف أعد الله كيان موسى البشري لتلقي كلام الله الأزلي.. إنما نؤمن أنه كان. وهو على الله هين أن يصل مخلوقه به بطريقة من الطرق، وهو بشر على بشريته، وكلام الله علوي على علويته. ومن قبل كان الإنسان إنسانا بنفخة من روح الله...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة وناديناه عطف على جملة إنه كان مخلصاً فهي مثلها مستأنفة. والنداء: الكلام الدال على طلب الإقبال، وأصله: جهر الصوت لإسماع البعيد، فأطلق على طلب إقبال أحد مجازاً مرسَلاً، ومنه {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} [الجمعة: 9]، وهو مشتق من الندى بفتح النون وبالقصر وهو بُعد الصوت. ولم يسمع فعله إلاّ بصيغة المفاعلة، وليست بحصول فعل من جانبين بل المفاعلة للمبالغة، وتقدم عند قوله تعالى: {كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء} في سورة البقرة (171)، وعند قوله: {ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان} في سورة آل عمران (193). وهذا النداء هو الكلام الموجه إليه من جانب الله تعالى. قال تعالى: {إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلامي} في سورة الأعراف (144)، وتقدم تحقيق صفته هناك، وعند قوله تعالى: {حتى يسمع كلام اللَّه} في سورة براءة (6). والطّور: الجبل الواقع بين بلاد الشام ومصر، ويقال له: طور سيناء. وجانبه: ناحيته السفلى، ووصفه بالأيمن لأنه الذي على يمين مستقبل مشرق الشمس، لأن جهة مشرق الشمس هي الجهة التي يضبط بها البشر النواحي. والتقريب: أصله الجعل بمكان القرب، وهو الدنو وهو ضد البعد. وأريد هنا القرب المجازي وهو الوحي. فقوله: {نَجِيّاً} حال من ضمير {موسى}، وهي حال مؤكدة لمعنى التقريب. ونجّي: فعيل بمعنى مفعول من المناجاة. وهي المحادثة السرية؛ شُبّه الكلام الذي لم يكلم بمثله أحداً ولا أطْلَع عليه أحداً بالمناجاة. وفعيل بمعنى مفعول، يجيء من الفعل المزيد المجرد بحذف حرف الزيادة، مثل جليس ونديم ورضيع...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقد ذكر سبحانه تعالى المكان الذي نزل عليه الوحي ابتداء فيه، وهو في أرض مدين فقال تعالى: {وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا}. كان خطاب الله تعالى لموسى بالكلام، ولذا قال تعالى، {وناديناه من جانب الطور الأيمن، أي الجهة اليمنى من الطور، أي أن مناجاة ربه كانت من جهة الطور الأيمن، واليمين ميمون، فهذه إشارة إلى اليمن، وما هنا مجمل مذكور مفصلا في سورة القصص،...
وهذا واضح في أنه تفصيل لبيان كيف كان النداء، ولم يكن تكرارا، بل كان بيانا لما أجمل هنالك، وبيان المجمل ليس تكرارا، هذه منزلة عالية، وهو أنه كليم الله، كلمه من وراء حجاب، ولذا قال تعالى: {وقربناه نجيا}، أي كان خطاب الله تعالى تقريبا إذ ناجاه وخاطبه {نجيا}، وكأنها مسارة له، لأنه لم يسمع ذلك النداء غيره في ساعة هذا النداء، تعالى الله سبحانه علوا كبيرا.
وقد قرب الله تعالى موسى ليناجيه؛ لأن هذه خصوصية لموسى عليه السلام، فكلام الله لموسى خاص به وحده لا يسمعه أحد غيره، فإن قلت: فكيف يكلمه الله بكلام، ويسمى مناجاة؟ قالوا: لأنه تعالى أسمعه موسى، وأخفاه عن غيره، فصار مناجاة كما يتناجى اثنان سراً. وهذا من طلاقة قدرته تعالى أن يسمع هذا، ولا يسمع ذلك...
وهكذا جمع الحق تبارك وتعالى لموسى عدة خصال، حيث جعله مخلصاً ورسولاً ونبياً، وخصه بالكلام والمناجاة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وأشارت الآية التالية إلى بداية رسالة موسى، فقالت: (وناديناه من جانب الطور الأيمن) ففي تلك الليلة المظلمة الموحشة، حيث قطع موسى صحارى مدين متوجهاً إلى مصر، أخذ زوجته الطلق وألم الولادة، وكان البرد شديداً، فكان يبحث عن شعلة نار، وفجأة سطع نور من بعيد، وسمع نداء يبلغه رسالة الله، وكان هذا أعظم وسام وألذ لحظة في حياته. إِضافة إلى ذلك (وقربناه نجياً) فإنّ النداء كان موهبة، والتكلم موهبة أُخرى...