فقال زكريا من شدة فرحه { رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر } وكل واحد من الأمرين مانع من وجود الولد ، فكيف وقد اجتمعا ، فأخبره الله تعالى أن هذا خارق للعادة ، فقال : { كذلك الله يفعل ما يشاء } فكما أنه تعالى قدر وجود الأولاد بالأسباب التي منها التناسل ، فإذا أراد أن يوجدهم من غير ما سبب فعل ، لأنه لا يستعصي عليه شيء .
ثم حكى القرآن بعد ذلك ما قاله زكريا بعد أن ساقت له الملائكة تلك البشارات السارة فقال - تعالى : { قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ } أنى هنا بمعنى كيف . و " عاقر " أى عقيم لا تلد لكبر سنها من العقر وهو العقم . يقال عقرت المرأة تعقر عقراً وعقراً فهي عاقر إذا بلغت سن اليأس من الولادة . أى قال زكريا على سبيل التعجب بعد أن نادته الملائكة وبشرته بما بشرته به : يا رب كيف يكون لي غلام والحال أنني قد أدركني الكبر الكامل الذى أضعفنى ، وفوق ذلك فإن امرأتى عاقر أى عقيم لا تلد لشيخوختها وبلوغها العمر الذى ينقطع معه النسل ؟
قال بعضهم : وإنما قال ذلك استفهاما عن كيفية حدوث الحمل ، أو استبعادا من حيث العادة ، أو استعظاماً وتعجبا من قدرة الله - تعالى - لا استبعادا أو إنكارا فلا يرد : كيف قال زكريا ذلك ولم يكن شاكاً في قدرة الله - تعالى - .
والجملة الكريمة استئناف مبنى على سؤال مقدر ، كأنه قيل : فماذا قال زكريا عندما بشرته الملائكة ؟ فكان الجواب : قال رب أنى يكون لي غلام .
وقد خاطب زكريا ربه مع أن النداء له صدر من الملائكة ، للإشعار بالمبالغة في التضرع وأنه قد طرح الوسائط واتجه إلى خالقه مباشرة يشكره ويظهر التعجب من قدرته لأنه - سبحانه - أعطاه ما لم تجر العادة به .
قال الألوسي وقوله { يَكُونُ } يجوز أن تكون من كان التامة فيكون فاعلها هوقوله { غُلاَمٌ } ويكون الظرف { أنى } والجار والمجرور { لِي } متعلقان بها .
ويجوز أن تكون من كان الناقصة و { لِي } متعلق بمحذوف وقع حالا لأنه لو تأخر لكان صفة . وفى الخبر حينئذ وجهان : أحدهما { أنى } لأنها بمعنى كيف أو من أين والثانى الخبر الجار والمجرور { أنى } منصوب على الظرفية " .
وقوله { وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر } جملة حالية من ياء المتكلم ، أي أصابني الكبر وأدركني فأضعفني وأفقدني قوتي .
والكبر مصدر كبر الرجل إذا أسن . وقد قال زكريا { وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر } ولم يقل وقد بلغت الكبر للإشارة إلى أن الكبر قد تابعه ولازمه حتى أصابه بالضعف والآلام والأسقام .
وقوله { وامرأتي عَاقِرٌ } جملة حالية أيضاً إما من ياء { لِي } أو ياء { بَلَغَنِي } .
فأنت ترى أن زكريا - عليه السلام - قد أظهر التعجب عندما بشرته الملائكة بغلامه يحيى لأنه كان شيخا مسنا ولأن امرأته كانت عقيما لا تلد إما لكبر سنها - أيضاً وإما لأنها من الأصل كانت على غير استعداد للحمل والإنجاب .
قال ابن عباس : كان زكريا يوم بشر بيحيى ابن عشرين ومائة سنة وكانت أمرأته بنت ثمان وتسعين سنة " .
ثم حكى القرآن أن الله تعالى قد رد على زكريا بما يزيل عجبه ويمنع حيرته فقال تعالى ، { قَالَ كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } .
أى قال - سبحانه - : مثل ذلك الفعل العجيب والصنع البديع الذى رأيته من أن يكون لك غلام وأنت شيخ كبير وامرأتك عاقر مثل ذلك الفعل يفعل الله ما يشاء أن يفعله ، لأنه - سبحانه - هو خالق الأسباب والمسببات ولا يعجزه شىء في هذا الكون ، وبقدرته أن يغير ما جرت به العادات بين الناس .
فالجملة الكريمة بجانب تضمنها إقناع زكريا وإزالة عجبه ، تتضمن أيضاً تقرير قضية عامة وهى أن الله - تعالى - يفعل ما يشاء أن يفعله بدون تقيد بالأسباب والمسببات والعادات فهو الفعال لما يريد .
{ قَالَ رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ }
يعني أن زكريا قال إذ نادته الملائكة : { أن اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ وَسَيّدا وَحَصُورا وَنَبِيّا مِنَ الصّالِحِينَ } :
{ أنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الكِبَرُ } يعني : من بلغ من السنّ ما بلغت لم يولد له¹ { وَامْرَأتِي عاقِرٌ } والعاقر من النساء : التي لا تلد ، يقال منه : امرأة عاقر ، ورجل عاقر ، كما قال عامر بن الطفيل :
لَبِئْسَ الفَتَى أنْ كُنْتُ أعْوَرَ عَاقِرا جبَانا فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلّ محْضَرِ
وأما الكِبر : فمصدر كَبِرَ فلان فهو يَكْبَرُ كبرا . وقيل : «بلغني الكبر » ، وقد قال في موضع آخر : { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ } لأن ما بلغك فقد بلغته ، وإنما معناه : قد كبرت ، وهو كقول القائل : وقد بلغني الجهد بمعنى : أني في جهد .
فإن قال قائل : وكيف قال زكريا وهو نبيّ الله : { رَبّ أنّى يَكُونُ لي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ } وقد بشرته الملائكة بما بشرته به ، عن أمر الله إياها به ؟ أشك في صدقهم ؟ فذلك ما لا يجوز أن يوصف به أهل الإيمان بالله ، فكيف الأنبياء والمرسلون ؟ أم كان ذلك منه استنكارا لقدرة ربه ؟ فذلك أعظم في البلية ! قيل : كان ذلك منه صلى الله عليه وسلم على غير ما ظننت ، بل كان قيله ما قال من ذلك ، كما :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : لما سمع النداء يعني زكريا لما سمع نداء الملائكة بالبشارة بيحيى جاءه الشيطان فقال له : يا زكريا إن الصوت الذي سمعت ليس هو من الله ، إنما هو من الشيطان يسخر بك ، ولو كان من الله أوحاه إليك ، كما يوحي إليك في غيره من الأمر ! فشكّ مكانه ، وقال : { أنّى يَكُونُ لي غُلامٌ } ذَكَرٌ ، يقول : ومن أين
{ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الكِبَرُ وَامْرَأتي عاقِرٌ } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن عكرمة ، قال : فأتاه الشيطان ، فأراد أن يكدر عليه نعمة ربه ، فقال : هل تدري من ناداك ؟ قال : نعم ، ناداني ملائكة ربي ، قال : بل ذلك الشيطان ، لو كان هذا من ربك لأخفاه إليك كما أخفيت نداءك ، فقال : { رَبّ اجْعَلْ لي آيَة } .
فكان قوله ما قال من ذلك ، ومراجعته ربه فيما راجع فيه بقوله : { أنّى يَكُونُ لي غُلامٌ } ، للوسوسة التي خالطت قلبه من الشيطان ، حتى خيلت إليه أن النداء الذي سمعه كان نداء من غير الملائكة ، فقال : { رَبّ أنّى يَكُونُ لي غُلامٌ } مستثبتا في أمره لتقرّر عنده بآية ، يريه الله في ذلك أنه بشارة من الله على ألسن ملائكته ، ولذلك قال : { رَبّ اجْعَلْ لي آيَة } . وقد يجوز أن يكون قيله ذلك مسألة منه ربه : من أيّ وجه يكون الولد الذي بشر به ، أمن زوجته فهي عاقر ، أم من غيرها من النساء ؟ فيكون ذلك على غير الوجه الذي قاله عكرمة والسديّ ، ومن قال مثل قولهما .
القول في تأويل قوله تعالى : { قالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ } .
يعني جل ثناؤه بقوله : { كَذَلِكَ اللّهُ } أي هو ما وصف به نفسه ، أنه هين عليه أن يخلق ولدا من الكبير الذي قد يئس من الولد ، ومن العاقر التي لا يرجى من مثلها الولادة ، كما خلقك يا زكريا من قبلُ خلقَ الولد منك ولم تك شيئا ، لأنه الله الذي لا يتعذّر عليه خلق شيء أراده ، ولا يمتنع عليه فعل شيء شاءه ، لأن قدرته القدرة التي لا يشبهها قدرة . كما :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : { كَذَلِكَ اللّهُ يفْعَلُ ما يَشاءُ } وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا .
{ قال رب أنى يكون لي غلام } استبعادا من حيث العادة ، أو استعظاما أو تعجيبا أو استفهاما عن كيفية حدوثه . { وقد بلغني الكبر } أدركني كبر السن وأثر في . وكان له تسع وتسعون ولامرأته ثمان وتسعون سنة . { وامرأتي عاقر } لا تلد ، من العقر وهو القطع لأنها ذات عقر من الأولاد .
{ قال كذلك الله يفعل ما يشاء } أي يفعل ما يشاء من العجائب مثل ذلك الفعل ، وهو إنشاء الولد من شيخ فان وعجوز عاقر ، أو كما أنت عليه وزوجك من الكبر والعقر يفعل ما يشاء من خلق الولد أو كذلك الله مبتدأ وخبر أي الله على مثل هذه الصفة ، ويفعل ما يشاء بيان له أو كذلك خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك ، والله يفعل ما يشاء بيان له .
قوله : { أنى يكون لي غلام } استفهام مراد منه التعجّب ، قَصَد منه تعرُّف إمكان الولد ، لأنّه لما سأل الولد فقد تهيّأ لحصول ذلك فلا يكون قوله أنّى يكون لي غلام إلاّ تطلباً لمعرفة كيفية ذلك على وجه يحقّق له البشارة ، وليس من الشك في صدق الوعد ، وهو كقول إبراهيم : { ليطمئنّ قلبي } [ البقرة : 260 ] ، فأجيب بأنّ الممكنات داخلة تحت قدرة الله تعالى وإنْ عز وقوعها في العادة .
و ( أنّى ) فيه بمعنى كيف ، أو بمعنى المكان ، لتعذّر عمل المكانين اللذين هما سبب التناسل وهما الكِبَر والعَقْرَة . وهذا التعجّب يستلزم الشكر على هذه المنّة فهو كناية عن الشكر . وفيه تعريض بأن يكون الولد من زوجه العاقر دون أن يؤمر بتزوّج امرأة أخرى وهذه كرامة لامرأة زكرياء .
وقوله : { وقد بلغني الكبر } جاء على طريق القلب ، وأصله وقد بلغتُ الكبرَ ، وفائدته إظهار تمكّن الكبر منه كأنَه يتطلبه حتى بلغه كقوله تعالى : { أينما تكونوا يدرككم الموت } ( النساء : 78 )
( والعاقر المرأة التي لا تلد عَقَرَت رحمَها أي قطعته . ولأنه وصف خاص بالأنثى لم يؤنّث كقولهم حائض ونافس ومُرضع ، ولكنه يؤنث في غير صيغة الفاعل فمنه قولهم عَقْرى دُعاء على المرأة ، وفي الحديث : « عَقْرَى حَلْقَى » وكذلك نُفَساء .
وقوله : { كذلك الله يفعل ما يشاء } أي كهذا الفعل العجيب وهو تقدير الحمل من شيخ هرِم لم يسبق له ولد وامرأةٍ عاقر كذلك ، ولعلّ هذا التكوين حصل بكون زكرياء كان قبل هرمه ذا قوة زائدة لا تستقرّ بسببها النطفة في الرحم فلما هرم اعتدلت تلك القوة فصارت كالمتعارف ، أو كان ذلك من أحوال في رحم امرأته ولذلك عبر عن هذا التكوين بجملة { يفعل ما يشاء } أي هو تكوين قدّره الله وأوجد أسبابه ومن أجل ذلك لم يقل هنا يخلق ما يشاء كما قاله في جانب تكوين عيسى .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني أن زكريا قال إذ نادته الملائكة: {أن اللّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدّقا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللّهِ وَسَيّدا وَحَصُورا وَنَبِيّا مِنَ الصّالِحِينَ}: {أنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الكِبَرُ}: من بلغ من السنّ ما بلغت لم يولد له، {وَامْرَأتِي عاقِرٌ}؛ والعاقر من النساء: التي لا تلد.
وأما "الكِبر": فمصدر كَبِرَ فلان فهو يَكْبَرُ كبَرا. وقيل: «بلغني الكبَر»، وقد قال في موضع آخر: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ} لأن ما بلغك فقد بلغته، وإنما معناه: قد كبِرت.
فإن قال قائل: وكيف قال زكريا وهو نبيّ الله: {رَبّ أنّى يَكُونُ لي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ} وقد بشرته الملائكة بما بشرته به عن أمر الله إياها به؟ أشك في صدقهم؟ فذلك ما لا يجوز أن يوصف به أهل الإيمان بالله، فكيف الأنبياء والمرسلون؟ أم كان ذلك منه استنكارا لقدرة ربه؟ فذلك أعظم في البلية! قيل: كان ذلك منه، صلى الله عليه وسلم، على غير ما ظننت، بل كان قيله ما قال من ذلك، كما [روي] عن السدي: لما سمع النداء، يعني زكريا، لما سمع نداء الملائكة بالبشارة بيحيى، جاءه الشيطان، فقال له: يا زكريا إن الصوت الذي سمعت ليس هو من الله، إنما هو من الشيطان يسخر بك، ولو كان من الله أوحاه إليك، كما يوحي إليك في غيره من الأمر! فشكّ مكانه، وقال: {أنّى يَكُونُ لي غُلامٌ} ذَكَرٌ، يقول: ومن أين {وَقَدْ بَلَغَنِيَ الكِبَرُ وَامْرَأتي عاقِرٌ}.
فكان قوله ما قال من ذلك، ومراجعته ربه فيما راجع فيه بقوله: {أنّى يَكُونُ لي غُلامٌ}، للوسوسة التي خالطت قلبه من الشيطان، حتى خيلت إليه أن النداء الذي سمعه كان نداء من غير الملائكة، فقال: {رَبّ أنّى يَكُونُ لي غُلامٌ} مستثبتا في أمره لتقرّر عنده بآية، يريه الله في ذلك أنه بشارة من الله على ألسن ملائكته، ولذلك قال: {رَبّ اجْعَلْ لي آيَة}. وقد يجوز أن يكون قيله ذلك مسألة منه ربه: من أيّ وجه يكون الولد الذي بشر به، أمن زوجته فهي عاقر، أم من غيرها من النساء؟ فيكون ذلك على غير الوجه الذي قاله عكرمة والسديّ، ومن قال مثل قولهما.
{قالَ كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ}: أي هو ما وصف به نفسه، أنه هين عليه أن يخلق ولدا من الكبير الذي قد يئس من الولد، ومن العاقر التي لا يرجى من مثلها الولادة، كما خلقك يا زكريا من قبلُ خلقَ الولد منك ولم تك شيئا، لأنه الله الذي لا يتعذّر عليه خلق شيء أراده، ولا يمتنع عليه فعل شيء شاءه، لأن قدرته القدرة التي لا يشبهها قدرة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر} الآية؛ يحتمل هذا الكلام وجوها: أحدها: لا على الإنكار، أي لا يكون، لكن ههنا يحتمل لأنه كان أعلم بالله وقدرته أن ينطق به، أو يخطر بباله. والثاني: {أنى يكون لي غلام} أي كيف وجهه وسببه؟ وكذلك قوله: {أنى لك هذا} وقوله: {أنى يحيي هذه الله بعد موتها} [البقرة: 259] وقوله: {أنى يكون له الملك علينا} [البقرة: 247] أي كيف وجهه؟ وما سببه؟ والثالث: {أنى يكون لي غلام} في الحال التي أنا عليها، أو أرد إلى الشباب، فيكون لي الولد...
{وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر} وذكر في سورة مريم {رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغني من الكبر عتيا} [الآية 8] ذكر على التقديم والتأخير،... وكذلك قوله: {ثلاثة أيام إلا رمزا} [آل عمران: 41] وقوله: {ثلاث ليال سويا} [مريم: 10]، والقصة واحدة، وذكر على التقديم والتأخير وعلى اختلاف الألفاظ واللسان. دل أنه ليس على الخلق حفظ اللفظ واللسان [وإنما] عليهم حفظ المعاني المدرجة المودعة فيها... {قال كذلك الله يفعل ما يشاء} كقوله: {قال كذلك قال ربك هو على هين} [مريم: 21] وإن اختلف اللسان...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أنى يَكُونُ لِي غلام}: استبعاد من حيث العادة كما قالت مريم.
{وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر}... والمعنى أثر فيّ الكبر فأضعفني،... {كذلك} أي يفعل الله ما يشاء من الأفعال العجيبة مثل ذلك الفعل، وهو خلق الولد بين الشيخ الفاني والعجوز العاقر، أو كذلك الله مبتدأ وخبر، أي على نحو هذه الصفة الله، ويفعل ما يشاء بيان له، أي يفعل ما يريد من الأفاعيل الخارقة للعادات...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان مطلوبه ولداً يقوم مقامه فيما هو فيه من النبوة التي لا يطيقها إلا الذكور الأقوياء الكملة، وكانت العادة قاضية بأن ولد الشيخ يكون ضعيفاً لا سيما إن كان حرثه مع الطعن في السن في أصله غير قابل للزرع، أحب أن يصرح له بمطلوبه فقال: {أنّى} أي كيف ومن أين {يكون لي} وعبر بما تدور مادته على الغلبة والقوة زيادة في الكشف فقال: {غلام} وفي تعبيره به في سياق الحصور دليل على أنه في غاية ما يكون من صحة الجسم وقوته اللازم منه شدة الداعية إلى النكاح، وهو مع ذلك يمنع نفسه منه منعاً زائداً على الحد، لما عنده من غلبة الشهود اللازم منه الإقبال على العبادة بكليته والإعراض عن كل ما يشغل عنها جملة لا سيما النكاح، بحيث يظن أنه لا إرب له فيه، وهذا موافق للتعبير الأول للحصور في القاموس، وهو الذي ينبغي ألا يعرج على غيره لأنه بناء مبالغة من متعد، ولأنه أمدح له صلى الله عليه وسلم، ومهما دار الشيء على صفة الكمال في الأنبياء عليهم السلام وجب أن لا يعدل عنه، وما ورد -كما يأتي إن شاء الله تعالى في سورة مريم عليها السلام- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ذكره مثل هذه القذاة" فقد ضعفوه، وعلى تقدير صحته فيكون ذلك إخباراً عن أنه لما أعرض عنه رأساً ضعف ما معه لذلك، فهو إخبار عن آخر أمره الذي أدت إليه عزيمته، والآية مشيرة إلى ما اقتضته خلقته وغريزته وإن كان الجمع لكمال الوجود الإنساني بالنكاح أكمل كما وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم ويقع لعيسى عليه السلام بعد نزوله... {وامرأتى عاقر} قال الحرالي: من العقر وهو البلوغ إلى حد انقطاع النسل هرماً... وقال الإمامان أبو عبد الله القزاز في ديوانه وعبد الحق في واعيه: والعقر بضم العين وسكون القاف مصدر العاقر من النساء وهي التي لا تحمل من غير داء ولا كبر، يقال: امرأة عاقر، وبها عقر، سميت بذلك كأن في رحمها عقرا يمنعها من الولادة،... وقال الإمام أبو غالب ابن التياني في كتابه "الموعب": العقر مصدر العاقر من النساء وهي التي لا تحمل من غير داء ولا كبر، لكن خلقة،... ثم وصل به قوله: {قال كذلك} أي مثل هذا الفعل الجليل البعيد الرتبة. ولما كان استنباؤه عن القوة والكمال لا عن الخلق عبر سبحانه في تعليل ذلك بالفعل بخلاف ما يأتي في قصة مريم عليها السلام فقال: {الله يفعل ما يشاء} لأنه المحيط بكل شيء قدرة وعلماً...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر}... لا يمنع مانع ما أن يكون الاستفهام على ظاهره، وأن يكون قد قاله تشوفا إلى معرفة الكيفية التي يكون بها الإنتاج، مع عدم توفر الأسباب العادية له بكبر سنه وعقر زوجه.
قال تعالى، والظاهر أنه بواسطة الملائكة،: {كذلك الله يفعل ما يشاء}، فإنه متى شاء أمرا أوجد له سببه، أو خلقه بغير الأسباب المعروفة، لا يحول دون مشيئته شيء، فعليك ان تفوض الأمر إليه في هذه الكيفية.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{كذلك الله يفعل ما يشاء} فكما أنه تعالى قدر وجود الأولاد بالأسباب التي منها التناسل، فإذا أراد أن يوجدهم من غير ما سبب فعل، لأنه لا يستعصي عليه شيء...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(قال: كذلك الله يفعل ما يشاء).. كذلك! فالأمر مألوف مكرور معاد حين يرد إلى مشيئة الله وفعله الذي يتم دائما على هذا النحو؛ ولكن الناس لا يتفكرون في الطريقة، ولا يتدبرون الصنعة، ولا يستحضرون الحقيقة!... كذلك. بهذا اليسر. وبهذه الطلاقة. يفعل الله ما يشاء.. فماذا في أن يهب لزكريا غلاما وقد بلغه الكبر وامرأته عاقر؟ إنما هذه مألوفات البشر التي يقررون قواعدهم عليها، ويتخذون منها قانونا! فأما بالقياس إلى الله، فلا مألوف ولا غريب.. كل شيء مرده إلى توجه المشيئة، والمشيئة مطلقة من كل القيود!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {أنى يكون لي غلام} استفهام مراد منه التعجّب، قَصَد منه تعرُّف إمكان الولد، لأنّه لما سأل الولد فقد تهيّأ لحصول ذلك فلا يكون قوله أنّى يكون لي غلام إلاّ تطلباً لمعرفة كيفية ذلك على وجه يحقّق له البشارة، وليس من الشك في صدق الوعد، وهو كقول إبراهيم: {ليطمئنّ قلبي} [البقرة: 260]، فأجيب بأنّ الممكنات داخلة تحت قدرة الله تعالى وإنْ عز وقوعها في العادة...
والعاقر المرأة التي لا تلد عَقَرَت رحمَها أي قطعته...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{كذلك الله يفعل ما يشاء}: أي مثل ذلك الذي رأيته من ان يكون لك وأنت شيخ وامرأتك عاقر، يفعل الله تعالى ما يشاء، أي أن الله سبحانه يفعل بمشيئته واختياره غير مقيد بالأسباب والمسببات والعادات وأحوال الناس؛ لأنه سبحانه وتعالى خالق الناس، وخالق الأسباب، وخالق مجاري العادات التي تجري بينهم. فالإجابة لا تتضمن فقط إزالة تعجب زكريا عليه السلام بل تتضمن مع ذلك تقرير قضية عامة، وهو أن الله يفعل ما يفعل باختياره وإرادته غير مقيد بأي قيد غنه سبحانه فعال لما يريد...
ولماذا كان ذلك الخارق، وما يجيء بعده؟ الجواب عن ذلك: أن هذا لأن بني إسرائيل كانوا لا يؤمنون إلا بالجسد، إذ كانوا يفسرون كل شيء تفسيرا ماديا، وقد سادت عندهم الفلسفة المادية، وكثر بينهم القول بأن الأشياء تنشأ عن العقل الأول نشأة المسبب عن السبب أو المعلول عن علته، فكان لابد من صادع يقرع حسهم بحادث من هذا الصنف الذي تتخلف فيه فلسفتهم، فيوجد المسبب من غير سبب فيدل هذا على أن المنشئ فاعله مختار يفعل ما يريد، وهو اللطيف الخبير؛ ولذا قال سبحانه: {كذلك الله يفعل ما يشاء}...
إن زكريا -وهو الطالب- يصيبه التعجب من الاستجابة فيتساءل. كيف يكون ذلك؟ والحق يورد ذلك ليعلمنا أن النفس البشرية دائما تكون في دائرات التلوين، وليست في دائرات التمكين، وذلك ليعطي الله لخلقه الذين لا يهتدون إلى الصراط المستقيم الأسوة في أنه إذا ما حدث له ابتلاء، فعليه الرجوع إلى الله، فيقول زكريا: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ}... وبعد ذلك يأتي القول الفصل: {قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} إنها طلاقة القدرة التي فوق الأسباب لأنها خالقة الأسباب...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هنا يتبادر إلى الذهن سؤال يقول: إذا كان «الحصر» هو العزوف عن الزواج، فهل هذا مَحمَدة يمتاز بها الإنسان، بحيث يوصف بها يحيى؟ في الجواب نقول: ليس هناك ما يدلّ على أنّ «الحصر» المذكور في الآية يقصد به العزوف عن الزواج،... فالحديث المنقول بهذا الخصوص ليس موثوقاً به من حيث أسانيده. فلا يُستبعد أن يكون المعنى هو العزوف عن الشهوات والأهواء وحبّ الدنيا، وفي صفات الزاهدين.
ثانياً: من المحتمل أن يكون يحيى مثل عيسى، قد عاش في ظروف خاصّة اضطرّته إلى الترحال من أجل تبليغ رسالته، فاضطرّ إلى حياة العزوبة. وهذا لا يمكن أن يكون قانوناً عامّاً للناس. فإذا مدحه الله لهذه الصفة، فذلك لأنّه تحت ضغط ظروفه عزف عن الزواج، ولكنّه استطاع في الوقت نفسه أن يحصن نفسه من الزلل، وأن يحافظ على طهارته من التلوّث. إنّ قانون الزواج قانون فطري، فلا يمكن في أيّ دين أن يشرع قانون ضدّه. وعليه فالعزوبة ليست صفة محمودة، لا في الإسلام ولا في الأديان الأخرى...