البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَقَدۡ بَلَغَنِيَ ٱلۡكِبَرُ وَٱمۡرَأَتِي عَاقِرٞۖ قَالَ كَذَٰلِكَ ٱللَّهُ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ} (40)

الغلام : الشاب من الناس ، وهو الذي طرّ شاربه ، ويطلق على الطفل على سبيل التفاؤل ، وعلى الكهل ومنه قول ليلى الأخيلية :

شفاها من الداء العضال الذي بها *** غلام إذا هز القناة سقاها

تسمية بما كان عليه قبل الكهولة ، وهو من الغلمة والاغتلام ، وذلك شدة طلب النكاح .

ويقال : اغتلم الفحل : هاج من شدة شهوة الضراب ، واغتلم البحر : هاج وتلاطمت أمواجه ، وجمعه على ، غلمة ، شاذ وقياسه في القلة : أغلمة ، وجمع في الكثرة على : غلمان ، وهو قياسه : الكبر ، مصدر : كبر يكبر من السن قال :

صغيرين نرعى البهم يا ليت إننا *** إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهمُ

العاقر : من لا يولد له من رجل أو امرأة ، وفعله لازم ، والعاقر اسم فاعل من عقر أي : قتل ، وهو متعد .

{ قال رب أنَّى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر } كان قد تقدّم سؤاله به : { رب هب لي من لدنك ذرية طيبة } فلا شك في إمكانية ذلك ، وجوازه : وإذا كان ذلك ممكناً وبشرته به الملائكة ، فما وجه هذا الاستفهام ؟ .

وأجيب بوجوه : .

أحدهما : أنه سؤال عن الكيفية ، والمعنى : أيولد لي على سن الشيخوخة وكون امرأتي عاقراً ؟ أي بلغت سن من لا تلد ، وكان قد بلغ تسعاً وتسعين سنة ، وامرأته بلغت ثمانياً وتسعين سنة وقال ابن عباس : كان يوم بشر ابن عشرين ومائة سنة وقال الكلبي : ابن اثنتين وتسعين سنة .

أم أُعاد أنا وامرأتي إلى سن الشبيبة وهيئة من يولد له ؟ فأجيب : بأنه يولد له على هذه الحال .

قال معناه : الحسن ، والأصم .

الثاني : أنه لما بشر بالولد استعلم : أيكون ذلك الولد من صلبه نفسه أم من بنيه ؟ .

الثالث : أنه كان نسي السؤال ، وكان بين السؤال والتبشير أربعون سنة ونقل عن سفيان أنه كان بينهما ستون سنة .

الرابع : أن هذا الاستعلام هو على سبيل الاستعظام لقدرة الله تعالى ، يحدث ذلك عند معاينة الآيات وهو يرجع معناه إلى ما قاله بعضهم : إن ذلك من شدّة الفرح ، لكونه كالمدهوش عند حصول ما كان مستعبداً له عادة .

الخامس : إنما سأل لأنه كان عاجزاً عن الجماع لكبر سنه ، فسأل ربه : هل يقويه على الجماع وامرأته على القبول على حال الكبر ؟

السادس : سأل هل يرزق الولد من امرأته العاقر أم من غيرها .

السابع : أنه لما بشر بالولد أتاه الشيطان ليكدر عليه نعمة ربه ، فقال له : هل تدري من ناداك ؟ قال : ملائكة ربي ! قال له : بل ذلك الشيطان ، ولو كان هذا من عند ربك لأخفاه لك كما أخفيت نداءك ، فخالطت قلبه وسوسة ، فقال : { أنى يكون لي غلام } ليبين الله له من الوحي ، قاله عكرمة ، والسدي .

قال القاضي : لو اشتبه على الرسل كلام الملك بكلام الشيطان لم يبق الوثوق بجميع الشرائع .

وأجيب : بأن ما قاله لا يلزم لاحتمال أن تقوم المعجزة على الوحي بما بتعلق بالدين ، وأما ما يتعلق بمصالح الدنيا فربما لا يؤكد بالمعجزة ، فيبقى الاحتمال ، فيطلب زواله .

وقال الزمخشري : استبعاد من حيث العادة .

كما قالت مريم . انتهى .

وعلى ما قاله : لو كان استبعاداً لما سأله بقوله : { هب لي من لدنك ذرية طيبة } لأنه لا يسأل إلاَّ ما كان ممكناً لا سيما الأنبياء ، لأن خرق العادة في حقهم كثير الوقوع .

و : يكون ، يجوز أن تكون تامّة وفاعلها غلام ، أي : أنَّي يحدث لي غلام ؟ ويجوز أن تكون ناقصة ، ولا يتعين إذ ذاك تقديم الخبر على الأسم ، لأنه قيل : دخول كان مصحح لجواز الابتداء بالنكرة ، إذ تقدّم أداة الإستفهام مسوغ لجواز الابتداء بالنكرة ، والجملتان بعد كل منهما حال ، والعامل فيهما : يكون ، إن كانت تامة ، أو العامل في : لي ، إن كانت ناقصة .

وقيل : { وامرأتي عاقر } حال من المفعول في : بلغني ، والعامل بلغني ، وكانت الجملة الأولى فعلية لأن الكبر يتجدّد شيئاً فشيئاً ، فلم يكن وصفاً لازماً ، وكانت الثانية اسمية والخبر : عاقر ، لأنه كونها عاقراً أمر لازم لها لم يكن وصفاً طارئاً عليها ، فناسب لذلك أن تكون الأولى جملة فعلية ، وناسب أن تكون الثانية جملة اسمية ، ومعنى : بلغني الكبر ، أثر فيّ : وحقيقة البلوغ في الإجرام ، وهو أن ينتقل البالغ إلى المبلوغ إليه .

وأسند البلوغ إلى الكبر توسعاً في الكلام ، كأن الكبر طالب له ، لأن الحوادث طارئة على الإنسان ، فكأنهما طالبة له وهو المطلوب ، وقيل : هو من المقلوب ، كما جاء : { وقد بلغت من الكبر عتياً } وكما قال :

مثل القنافذ هدّاجون قد بلغت ***

نجران أو بلغت سوآتهم هجر

وقال الراغب : إذا بلغت الكبر فقد بلغك الكبر . انتهى .

وهنا قدّم حال نفسه وأخر حال امرأته ، وفي مريم عكس ، فقال الماتريدي : لا تراعى الألفاظ في الحكاية إنما تراعى المعاني المدرجة في الألفاظ .

وقال غيره : صدر الآيات في مريم مطابق لهذا الترتيب هنا ، لأنه قدم : أنه وهن العظم منه ،

{ واشتعل الرأس شيباً } وقال : { وإني خفت الموالي من ورائي ، وكانت امرأتي عاقراً } ، فلما أعاد ذكرها في الاستعلام أخر ذكر الكبر ليوافق عتياً روؤس الآي ، وهو باب مقصود في الفصاحة يترجح إذا لم يخل بالمعنى ، والعطف هنا بالواو ، فليس التقديم والتأخير مشعراً بتقدم زمان ، وإنما هذا من باب تقديم المناسب في فصاحة الكلام .

{ قال كذلك الله يفعل ما يشاء } الكاف : للتشبيه ، وذلك : إشارة إلى الفعل ، أي : مثل ذلك الفعل ، وهو تكوّن الولد بين الفاني والعاقر ، يفعل الله ما يشاء من الأفعال الغريبة فيكون إخباراً من الله أنه يفعل الأشياء التي تتعلق بها مشيئته فعلاً ، مثل ذلك الفعل لا يعجزه شيء ، بل سبب إيجاده هو تعلق الإرادة : سواء كان من الأفعال الجارية على العادة أم من التي لا تجري على العادة ؟ وإذا كان تعالى يوجد الأشياء من العدم الصرف بلا مادة ولا سبب ، فكيف بالأشياء التي لها مادة وسبب وإن كان ذلك على خلاف العادة ؟ وتكون الكاف على هذا الوجه في موضع نصب على أنها صفة لمصدر محذوف ، أي : فعلاً مثل ذلك الفعل ، أو على انها في موضع الحال من ضمير المصدر المحذوف : من يفعل ، وذلك على مذهب سيبويه ، وقد تقدّم لنا مثل هذا ، ويحتمل أن يكون كذلك الله مبتدأ وخبراً ، وذلك على حذف مضاف ، أي صنع الله الغريب مثل ذلك الصنع ، ويكون { يفعل ما يشاء } شرحاً للإبهام الذي في اسم الإشارة ، وقدره الزمخشري على نحو هذه الصفة : الله ، قال : { ويفعل ما يشاء } بيان له ، أي يفعل ما يشاء من الأفاعيل الخارقة للعادات . انتهى .

وقال ابن عطية : أي : كهذه القدرة المسغربة هي قدرة الله . انتهى .

وعلى هذا الاحتمال ، تكون الكاف في موضع رفع ، لأن الجار والمجرور في موضع خبر المبتدأ والكلام جملتان ، وعلى التفسير الأول الكلام جملة واحدة .

قال ابن عطية وغيره : واللفظ لابن عطية : ويحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى حال زكريا وحال امرأته ، كأنه قال : رب على أي وجه يكون لنا غلام ونحن بحال كذا ؟ فقال له : كما أنتما يكون لكما الغلام .

والكلام تام على هذا التأويل .

في قوله : كذلك وقوله : الله يفعل ما يشاء .

جملة مبينة مقررة في النفس وقوع هذا الأمر المستغرب .

انتهى كلامه .

فيكون : كذلك ، متعلقاً بمحذوف وشرح الراغب المعنى فقال : يهب لك الولد وأنت بحالتك .

والظاهر من هذه الأقوال الثلاثة هو الأول .

/خ41