قوله : { أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } يجوز أن تكون الناقصة ، وفي خبرها - حينئذ - وجهان :
أحدهما : " أَنَّى " لأنها بمعنى " كيف " أو بمعنى " مِنْ أيْنَ " ؟ ، و " لِي " - على هذا - تبيين .
والثاني : أن الخبر هو الجار والمجرور ، و " كيف " منصوب على الظرف . ويجوز أن تكون التامة ، فيكون الظرف والجار - كلاهما - متعلقين ب " يَكُونُ " ، أي : كيف يحدث لي غلام ؟
ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من " غُلاَمٌ " ؛ لأنه لو تأخر لكان صفةً له .
قوله : { وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ } جملة حالية .
قال أهل المعاني : " كل شيء صادفتَه وبلغتَه فقد صادفكَ وبلغكَ " .
فلهذا جاز أن نقول : بلغتُ الكِبَرَ ، وجاز أن تقول : بلغَنِي الكِبَرُ ، يدل عليه قولُ العربِ : تلقيت الحائط وتلقاني الحائط .
وقيل : لأن الحوادث تطلب الإنسان . وقيل : هو من المقلوب ، كقوله : [ البسيط ]
مِثْلُ الْقَنَافِذِ هَدَّاجُونَ قَدْ بَلَغَتْ *** نَجْرَانَ أوْ بَلَغَتْ سَوْآتِهِمْ هَجرُ{[45]}
فإن قيل : أيجوز بلغني البلد في موضع بلغت البلد ؟
فالجواب : أنه لا يجوز ، والفرق بينهما أن الكِبَر كالشيء الطالب للإنسان ، فهو يأتيه بحدوثه فيه والإنسان أيضاً يأتيه - أيضاً - بمرور السنين عليه ، أما البلد فليس كالطالب للإنسان الذاهب ، فظهر الفرقُ .
قدم في هذه السورة حال نفسه ، وأخَّر حالَ امرأته ، وفي سورة مريم عكس .
فقيل : لأن ضَرْبَ الآيات - في مريم - مطابق لهذا التركيب ؛ لأنه قدَّم وَهْنَ عَظْمِه ، واشتعالَ شيْبه ، وخوفه مواليه ممن ورائه ، وقال : " وَكَانَتِ امْرَأتِي عَاقِراً " فلما أعاد ذِكْرَهما في استفهامه أخر ذِكْر الكِبَر ، ليوافق رؤوس الآي - وهي باب مقصود في الفصاحة - والعطف بالواو لا يقتضي ترتيباً زمانيًّا فلذلك لم يبال بتقديم ولا تأخير .
الغلام : الفَتِيُّ السِّنِّ من الناس - وهو الذي بَقَلَ شَارِبُه - وإطلاقه على الطفل وعلى الكهل مجاز ؛ أما الطفل فللتفاؤل بما يئول إليه ، وأما الكهل ، فباعتبار ما كان عليه .
قالت ليلى الأخيليّة : [ الطويل ]
شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِي بِهَا *** غُلاَمٌ إذَا هَزَّ القَنَاةَ سَقَاهَا{[46]}
وقال بعضهم : ما دام الولد في بطن أمِّه سُمِّي جَنِيناً ، قال تعالى :
{ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } [ النجم : 32 ] سمي بذلك لاجتنانه في الرحم ، فإذا وُلِدَ سُمِّي صَبِيًّا ، فإذا فُطِمَ سمي غُلاماً إلى سبع سنين ، ثم يُسَمَّى يافعاً إلى أن يبلغ عشر سنين ، ثم يُطْلَق عليه حَزَوَّر إلى خمس عشرة سنة ، ثم يصير قمراً إلى خمس وعشرين سنةً ، ثم عنطْنَطاً إلى ثلاثين .
وَبِالْمَخْضِ حَتَّى صَارَ جَعْداً عَنَطْنَطاً *** إذَا قَامَ سَاوَى غَارِبَ الْفَحْلِ غَارِبُهْ{[47]}
ثم حَلْحَلاً إلى أربعين ، ثم كَهْلاً إلى خمسين - وقيل : إلى ستين - ثم شيخاً إلى ثمانين ، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى عند قوله :
{ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً } [ آل عمران : 46 ] ثم هو راغم بعد ذلك .
واشتقاق " الغلام " من الغِلْمَة والاغتلام ، وهو طلب النكاح ، لما كان مسبباً عنه أخذ منه لفظه .
ويقال : اغتلم الفَحْلُ : أي : اشتدت شهوتُه إلى طلب النكاح ، واغتلم البحر ، أي : هاج وتلاطمت أمواجه ، مستعار منه .
وجمعه - في القلة - أغْلِمَةٌ ، وفي الكثرة : غِلْمان ، وقد جمع - شذوذاً - على غِلْمَة ، وهل هذه الصيغة جمع تكسير أو اسم جمع ؟
قال الفراء : " يقال : غلام بيِّن الغلومة والغلومِيَّة والغُلامية ، قال : والعرب تجعل مصدر كل اسم ليس له فعل معروف على هذا المثال فيقولون : عبد بَيِّنُ العبودية والعُبَاديَّة - يعني لم تتكلم العرب من هذا بفعل – " .
قال القرطبي : والغَيْلم : ذكر السلحفاة ، والغَيْلم : موضع .
وهي مصدر كَبِر يَكْبَر كِبَراً أي : طعن في السِّنِّ ، قال : [ الطويل ]
صَغِيرَيْنِ نَرْعَى الْبَهْمَ يَا لَيْتَ أنَّنَا *** إلَى الْيَوْمِ لَمْ نَكْبَرْ وَلَمْ تَكْبَرِ البَهْمُ{[48]}
قال الكلبيُّ : كان زكريا - يوم بُشِّر بالولد - ابن ثنتين وتسعين سنة .
وروى الضحاك - عن ابن عباسٍ - قال : كان ابن عشرين ومائة سنة ، وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنةً {[49]} .
فإن قيل : قوله : { رَبِّ أَنَّى يَكُونُ } خطاب مع الله ، أو مع الملائكة ، وليس جائزاً أن يكون مع الله تعالى ؛ لأن الآية المقدمةَ دلَّت على أن الذين نادَوْه هم الملائكةُ ، وهذا الكلام ، لا بُدَّ أن يكون خطاباً مع ذلك المنادَى لا مع غيره ، وليس جائزاً أن يكون خطاباً مع الملك ؛ لأنه لا يجوز أن يقول الإنسان للملك : يا رب ، فذكر المفسّرون فيه جوابَيْنِ :
أحدهما : أن الملائكة لما نادَوه وبَشَّروه تعجَّب زكريا ، ورجع في إزالة ذلك التعجُّب إلى الله - تعالى - .
الثاني : أنه خطاب مع الملائكة ، والربُّ إشارة إلى المربِّي ، ويجوز وَصْف المخلوقِ به ، فإنه يقال : فلان يربيني ويُحْسِن إليَّ .
فإن قيل : لم قال زكريا - بعدما وعده الله وبشره بالولد - : " أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ " أكان ذلك عنده محال أو شَكًّا في وعد الله وقدرته ؟
أحدها : إن قلنا : معناه من أين ؟ هذا الكلام لم يكن لأجل أنه لو كان لا نُطْفَةَ إلا مِن خَلْق ، ولا خَلْقَ إلا من نطفة ، لزم التسلسل ، ولزم حدوث الحوادث في الأزل - وهو محال - فعلمنا أنه لا بد من الانتهاء إلى مخلوق خلقه الله - تعالى - لا من نطفة ، أو من نطفة خلقها اللهُ - تعالى - لاَ مِنْ إنسان .
[ ثانيها ] : يحتمل أن زكريَّا طلب ذلك من الله - تعالى - فلو كان ذلك محالاً ممتنعاً لَمَا طلبه من الله – تعالى- .
وإذا كان معنى " أنَّى " : كيف ، فحدوث الولد يحتمل وجهين :
أحدهما : أي منع شيخوخته ، وشيخوخة امرأته ، أو يجعله وامرأته شابين ، أو يرزقه الله ولداً من امرأة أخْرَى ، فقوله : { رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } معناه : كيف تعطيني الولد ؟ فسأل عن الكيفية على القسم الأول ، أمّا على القسم الثاني فقال مستفهماً لا شاكاً . قاله الحسنُ والأصمّ .
وثانيهما : أن من كان آيساً من الشيء مستبعِداً لحصوله ووقوعه ، إذا اتفق أن حصل له ذلك المقصود ، فربما صار كالمدهوش من شدة الفرحِ ، ويقول : كيف حصل هذا ؟ ومن أين وقع ؟ كمن يرى إنساناً وَهَبَ أموالاً عظيمة ، يقول : كيف وَهَبَ هذه الأموالَ ؟ ومن أين سَمَحَتْ نفسك بِهبَتِهَا . كذا هنا .
الثالث : أن الملائكة لما بشَّروه بيحيى ، لم يعلم أنه يُرزَق الولد من جهة أنثى ، أو من صُلْبه ، فذكر هذا الكلام ليزول ذلك الاحتمال .
الرابع : أن العبد إذا كان في غاية الاشتياقِ إلى شيء يطلب من السيد ، ثم إن السيد يَعِدُه بأنه سيعطيه ، فعند ذلك يلتذُّ السائلُ بسماعِ ذلك ، فربما أعاد السؤال ؛ ليُعِيدَ ذلك الجواب ، فحينئذ يلتذ بسماع تلك الإجابة مرة أخرى ، فيحتمل أن يكون هذا هو السبب في إعادة هذا الكلام .
الخامس : نقل عن سفيان بن عيينة قال : كان دعاؤه قبل البشارة بستين سنة حتى كان نسي ذلك السؤال وقت البشارةِ ، فلما سمع البشارة - زمان الشيخوخة - استبعد ذلك - على مجرى العادة لا شكًّا في قدرة الله – تعالى- .
السادس : قال عكرمة والسُّدِّيُّ : إنَّ زكريا - عليه السلام - جاءه الشيطان عند سماع البشارة ، فقال يا زكريا إن هذا الصوت من الشيطان - وقد سخر منك - ولو كان من الله لأوحاه إليك كما يوحي إليك في سائر الأمور{[50]} ، فقال زكريا ذلك ؛ دَفْعاً للوسوسة ، ومقصوده من هذا الكلام أن يُرِيَه الله آيةً تدل على أن ذلك الكلامَ من الوَحْيِ والملائكة لا من إلقاء الشيطانِ .
قال القرطبي : لا يجوز أن يشتبه كلام الملائكة بكلام الشياطينِ عند الأنبياء عليهم السلام ؛ إذْ لَوْ جوَّزنا ذلك لارتفع الوثوق عن كل الشرائع .
ويمكن أن يُجاب بأنه لمَّا قامت المعجزات على صدق الوحي في كل ما يتعلق بالدين لا جرم حصل الوثوق هناك بأن الوحي من الله بواسطة الملائكة ، ولا مَدْخَل للشيطان فيه ، أمّا ما يتعلق بمصالح الدنيا أو الولد ، فربما لا يتأكد ذلك بالمعجزات . فلا جرم [ بقي احتمال كون ذلك الكلام من الشيطان ] {[51]} ، فرجع إلى الله - تعالى - في أن يزيل عن خاطره ذلك الاحتمال .
قوله : { وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ } جملة حالية ، إما من الياء في " لِي " فيتعدد الحال - عند مَنْ يراه - وإما من الياء في " بَلَغَنِي " ، والعاقر : مَنْ لا يولد له رجلاً كان أو امرأة ، مشتقاً من العَقْر ، وهو القتل ، كأنهم تخيلوا فيه قتل أولاده ، والفعل - بهذا المعنى - لازم ، وأما عَقَرْتُ - بمعنى " نَحَرْت " فمُتَعَدٍّ .
قال تعالى : { فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ } [ الأعراف : 77 ] .
. . . *** عَقَرْتَ بَعِيرِي يَا امْرَأ الْقَيْسِ فَانْزِلِ{[52]}
وقيل : عاقر - على النسب - أي : ذات عقر ، وهي بمعنى مفعول ، أي : معقورة ، ولذلك لم تلحق تاء التأنيث ، والعَُقْر بفتح العين وضمها - أصل الشيء ، ومنه عقر الدار ، وعقر الحوض ، وفي الحديث : " ما غُزِيَ قَوْمٌ قَطٌّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إلاَّ ذَلُّوا{[53]} " وعقرته ، أي : أصبت عقره ، أي : أصله - نحو رأسته ، أي أصبت رأسه ، والعقر - أيضاً - آخر الولد ، وكذلك بيضة العَقر ، والعقار : الخمر لأنها تعقر العقل - مجازاً - وفي كلامهم رفع فلان عقيرته ، أي : صوته ، وذلك أن رَجَلاً عُقِرَ رجله فرفع صوته ، فاستُعِير ذلك لكلّ من رفع صوته . وقال : وأنشد الفراء : [ الرجز ]
أرْزَامُ بَابٍ عَقُرَتْ أعْوَامَا *** فَعَلَّقَتْ بُنَيَّهَا تَسْمَامَا{[54]}
وقال بعضهم : يقال : عَقُرت المرأةُ تعقُر عَقْراً وعَقَاراً ويقال : عَقُر الرجل وعَقَر وعَقِرَ إذا لم تَحْبَل زوجته ، فجعل الفعل المسند إلى الرجل أوسع من المسند إلى المرأة .
قال الزّجّاج{[55]} : عاقر بمعنى ذات عُقر قال : لأن فَعُلْت أسماء الفاعلين منه على فعيل نحو ظريفة ، وكريمة ، وإنما عاقر على ذات عُقْر ، قلت : وهذا نص في أن الفعل المسند للمرأة لا يقال فيه إلا عَقُرَتْ - بضم القاف ؛ إذْ لَوْ جاز فَتْحها ، أو كسرها لجاء منهما فَاعِل - من غير تأويل على النسب ، ومن ورود عاقر وصفاً للرجل قول عامر بن الطفيل : [ الطويل ]
لَبِئْسَ الْفَتَى إنْ كُنْتُ أعْوَرَ عَاقِراً *** جَبَاناً فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلِّ مَحْضَرِ{[56]}
قال القرطبيُّ : " والعاقر : العظيم من الرمل ، لا يُنْبِت شيئاً ، والعُقْر - أيضاً - مهر المرأة إذا وطئت بِشُبْهَةٍ وبَيْضَةُ الْعُقْر : زعموا أنها بيضة الديك ، لأنه يبيض في عمره بيضةً واحدةً إلى الطول ، وعقر النار - أيضاً - وسطها ومعظمها وعقر الحوض : مُؤخِّره - حيث تقف الإبل إذا وردت " .
قوله : { قَالَ كَذَلِكَ } هذا القائل هو الرب المذكور في قوله : { رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } وقد ذكرنا أنه يحتمل أن يكون هو الله تعالى ، وأن يكون هو جبريل - عليه السلام .
قوله : { كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } في الكاف وجهان :
أحدهما : أنها في محل نصب ، وفيه التخريجان المشهوران :
الأول - وعليه أكثر المعربين - : أنها نعت لمصدر محذوف ، وتقديره يفعل الله ما يشاء من الأفعال العجيبة ، مثل ذاك الفعل ، وهو خلق الولد بين شيخ فَانٍ وعجوز عاقرٍ .
والثاني أنها في محل نصب على الحال من ضمير ذلك المصدرِ ، أي : يفعل الفعل حال كونه مثل ذلك وهو مذهب سيبويه ، وقد تقدم إيضاحه . {[57]}
الثاني - من وجهي الكاف - : أنها في محل رفع خبر مقدَّم ، ولفظ الجلالة مبتدأ مؤخر ، فقدره الزمخشري على نحو هذه الصفة لله ، ويفعل ما يشاء بيان له ، وقدره ابن عطية : " كهذه القدرة المستغربة هي قدرة الله " .
وقدّره أبو حيّان ، فقال : " وذلك على حذف مضاف ، أي : صنع الله الغريب مثل ذلك الصنع ، فيكون { يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } شرحاً للإبهام الذي في اسم الإشارة " .
فالكلام - على الأول - جملة واحدة ، وعلى الثاني جملتان .
وقال ابن عطية : " ويحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى حال زكريا وحال امرأته ، كأنه قال : رَبِّ على أيّ وجه يكون لنا غلام ونحن بحال كذا ؟ فقال لهما : كما أنتما يكون لكما الغلام ، والكلام تام ، على هذا التأويل - في قوله " كذلك " ، وقوله : { اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } جملة مبيِّنة مقررة في النفس وقوع هذا الأمر المستغرب " .
وعلى هذا الذي ذكره يكون " كَذَلِكَ " متعلقاً بمحذوف ، و " اللهُ يَفْعَلُ " جملة منعقدة مع مبتدأ وخبر .