الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَقَدۡ بَلَغَنِيَ ٱلۡكِبَرُ وَٱمۡرَأَتِي عَاقِرٞۖ قَالَ كَذَٰلِكَ ٱللَّهُ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ} (40)

قوله تعالى : { أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } : يجوز أن تكون الناقصة ، وفي خبرها حينئذ وجهان :

أحدهما : " أنَّى " لأنها بمعنى كيف ، أو بمعنى مِنْ أين : و " لي " على هذا تبيينٌ .

والثاني : أنَّ الخبرَ الجار و " كيف " منصوبٌ على الظرف .

ويجوزُ أَنْ تكونَ التامَّة فيكونُ الظرفُ والجار كلاهما متعلِّقَيْنِ ب " يكون " لأنه تام ، أي : كيف يحدث لي غلام ، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حال من " غلام " لأنه لو تأخَّر لكان صفةً له .

وقوله : { وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ } جملةُ حاليةٌ ، وفي موضع آخرَ { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ } [ مريم : 8 ] لأنَّ ما بَلَغَكَ فقد بَلَغْتَه . وقيل : لأنَّ الحوادثَ تَطْلُب الإِنسانَ . وقيل : هو من المَقْلوب كقوله :

مثلُ القنافِذِ هَدَّاجون قد بَلَغَتْ *** نجرانُ أو بُلِّغَتْ سَوْءاتِهِمْ هَجَرُ

ولا حاجةَ إليه .

وقدَّم في هذه السورة حالَ نفسه ، وأخَّر حالَ امرأته ، وفي مريم عَكَس ، فقيل : صدرُ الآيات في مريم مطابِقٌ لهذا التركيبِ لأنه قَدَّمَ وَهْنَ عظمِه واشتعالَ شَيْبِه وخِيفَةَ مواليهِ من ورائه ، وقال : { وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً } فلمَّا أعَاد ذِكْرهما في استفهامٍ آخر ذَكَر الكِبَر ليوافِق " عِتِيَّاً " رؤوسَ الآي ، وهو باب مقصود في الفصاحة ، والعطفُ بالواو لا يقتضي ترتيباً زمانياً ، فلذلك لم يُبالَ بتقديم ولا تأخير .

والغلامُ : الفتيُّ السنِّ من الناسِ وهو الذي . . . شاربُه ، وإطلاقُه على الطفلِ وعلى الكهلِ مجاز ، أمَّا الطفلُ فللتفاؤل بما يَؤُول إليه ، وأمَّا الكهلُ فباعتبارِ ما كانَ عليه . قالت ليلى الأخيلية :

شَفاها من الداءِ العُضالِ الذي بها *** غلامٌ إذا هَزَّ القناةَ شَفاها

وقال بعضُهم : ما دام الولدُ في بطن أمه سُمِّي " جنيناً " . قال تعالى :

{ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ } [ النجم : 32 ] ، سُمِّي بذلك لاجتنانِه في الرَّحمِ ، فإذا وُلِد سُمِّي " صبياً " فإذا فُطِمَ سُمِّي " غُلاماً " إلى سبع سنين ، ثم سُمِّي يافعاً إلى أن يَبْلُغَ عشر سنين ، ثم يُطْلق عليه " حزَوَّر " إلى خمس عشرة ، ثم يصير " قُمُدّاً " إلى خمسٍ وعشرين سنة ، ثم ، " عَنَطْنَطَا " إلى ثلاثين قال :

وبالجَعْدِ حتى صارَ جَعْداً عَنَطْنَطاً *** إذا قامَ ساوى غاربَ الفحلِ غارِبُهْ

ثم " حُمُلا " إلى أربعين ثم " كَهْلاً " إلى خمسين ، ثم " شيخاً " إلى ثمانين ثم " هَمٌّ " بعد ذلك .

واشتقاق الغُلام من الغُلْمة والاغتِلام ، وهو طَلَبُ النكاح ، لَمَّا كان مسبَّباً عنه أُخِذَ منه لفظُه ، ويقال : " اغتَلَم الفحلُ " أي : اشتدَّتْ شهوتُه إلى طَلَبِ النكاح ، واغتلَم البحر أي : هاجَ وتلاطَمَتْ أمواجه مستعار منه ، وقياسُه في القلةِ أَغْلِمة ، وفي الكثرة : غِلْمان ، وقد جُمع على غِلْمَة شذوذاً ، وهل هذه الصيغةُ جمعُ تكسير أم اسم جمع ؟ قال الفراء : " يقال غلامٌ بيِّنُ الغُلومَة والغُلومِيَّة والغُلامِيَّة " قال : " والعربُ تجعلُ مصدرَ كلِّ اسمٍ ليسَ له فعلٌ معروفٌ على هذا المثالِ ، فيقولون : عَبْدٌ بَيِّنُ العُبودة والعُبودِيَّة والعُبادِيَّة " يعني لم تتكلم العرب من هذا بِفِعْلٍ .

والكِبَرُ : مصدرُ كَبِرَ يكبَر كِبَراً أي : طَعَن في السن ، قال :

صغيرَيْنِ نَرْعَى البَهْمَ يا ليتَ أَنَّنا *** إلى اليومِ لم نَكْبَرْ ولم تَكْبَر البَهْمُ

قوله : { وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ } جملةٌ حاليةٌ : إمَّا من الياء في " لي " فتعدَّدُ الحالُ عند مَنْ يراه ، وإمَّا من الياءِ في " بلغَنَي " . والعاقر : مَنْ لا يُولد له رجلاً كان أو امرأةً ، مشتقاً من العَقْر وهو القتل ، كأنهم تخيَّلوا فيه قَتْل أولادِه ، والفعل بهذا المعنى لازمٌ ، وأمَّا عَقَرْتُ بمعنى نَحَرْتُ فمتعدٍّ ، قال تعالى :

{ فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ } [ الأعراف : 77 ] ، وقال :

1268 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** عَقَرْتَ بعيري يا امرأ القيسِ فانْزِلِ

وقيل : " عاقِر " على النسب أي : ذاتُ عُقْر ، وهي بمعنى مَفْعول أي : معقورة ، ولذلك لم تُلْحَقْ تاءَ التأنيث .

والعُقر العَقْر بضم العين وفتحها : أصلُ الشيء ، ومنه : عُقْر الدار وعُقْر الحوض ، وفي الحديث : " ما غُزِي قومٌ قط في عُقر دارِهم إلا ذُلُّوا " وعَقَرْتُه : أَصَبْتُ عُقْره أي : أصلَه نحو : رَأَسْته أي : أصبتُ رأسَه ، والعُقْر أيضاً : آخر الولد ، وكذلك بيضةُ العُقْر ، والعُقار : الخمرُ لأنها تَعْقِر العقلَ مجازاً وفي كلامهم : " رَفَعَ فلانٌ عقيرَتَه " أي : صوته ، وذلك أنَّ رجلا عَقَر رجله فرفعَ صوتَه فاستُعير ذلك لكلِّ من رفَع صوَته . وقال بعضُهم :

" يُقال : عَقُرَتْ المرأةَ تَعْقُر عَقْراً وعقارةً " أنشد الفراء :

أرزامُ بابٍ عَقُرَتْ أَعْواما *** فَعَلَّقَتْ بُنَيَّها تَسْماما

ويقال : عَقَر الرجل وعَقُر وعَقِر إذا لم تَحْبَلْ زوجته فَجَعلوا الفعلَ المسندَ إلى الرجل أوسعَ من المسندِ إلى المرأة ، قال الزجاج : " عاقِر " : بمعنى ذات عُقْر ، قال : " لأنَّ فَعُلْتُ أسماءُ الفاعلين منه على فَعيلة نحو : طريفة وكريمة ، وإنما " عاقر " على ذات عُقْر " قلت : وهذا نصٌّ في أن الفعلَ المسند للمرأةِ لا يُقال فيه إلا عَقُرت بضم القاف إذا لو جازَ فتحُها أو كسرُها لجاز منها " فاعِل " من غير تأويلٍ على النسب . ومن ورودِ

" عاقر " وصفاً للرجل قولُ عامر بن الطفيل :

لَبِئْسَ الفتى إنْ كنُت أعوَر عاقِراً *** جَباناً فما عُذْري لدى كلِّ مَحْضَرِ

قوله : { كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } في الكافِ وجهان :

أحدهما : أنها في محلِّ نصب وفيه التخريجان المشهوران ، أحدُهما وعليه أكثرُ المعربين أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ تقديرُه : يفعلُ الله ما يشاء من الأفعالِ العجيبة مثلَ ذلك الفعلِ ، وهو خَلْقُ الولدِ بين شيخٍ فانٍ وعجوزٍ عاقِرٍ .

والثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من ضميرِ ذلك المصدر أي : يفعلُ الفعلَ حالَ كونه مِثلَ ذلك ، وهو مذهبُ سيبويه وقد تقدَّم إيضاحُه .

والثاني : من وجهي الكاف أنَّها في محلِّ رفعٍ على أنها خبر مقدم ، والجلالةُ مبتدأٌ مؤخرٌ ، فقدَّره الزمخشري " على نحوِ هذه الصفة اللهُ " ، ويفعل ما يشاء بيانٌ له ، وقدَّره ابن عطية : كهذه القدرة المستغرَبة هي قدرة الله ، وقدَّره الشيخ فقال : " وذلك على حَذْفِ مضافٍ أي : صُنْعُ اللهِ الغريبُ مثلُ ذلك الصنعِ ، فيكون " يفعل ما يشاء " شرحاً للإِبهامِ الذي في اسم الإِشارة " فالكلامُ على الأول جملةٌ واحدةٌ وعلى الثاني جملتان .

وقال ابن عطية : " ويُحتمل أن تكونَ الإِشارةُ بذلك إلى حال زكريا وحالِ امرأته ، كأنه قال : ربِّ على أيّ وجه يكونُ لنا غلامٌ ونحن بحالِ كذا ؟ فقال له : كما أنتما يكون لكما الغلامُ ، والكلامُ تامٌّ على هذا التأويلِ في قوله : " كذلك " وقولُه : { اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } جملةٌ مبينة مقرِّرةٌ في النفس وقوعَ هذ الأمر المستغرب " انتهى . وعلى هذا الذي ذكرَه يكون " كذلك " متعلقاً بمحذوف ، و " الله يفعل " جملةٌ منعقدةٌ من مبتدأ وخبرٍ .