الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٞ وَقَدۡ بَلَغَنِيَ ٱلۡكِبَرُ وَٱمۡرَأَتِي عَاقِرٞۖ قَالَ كَذَٰلِكَ ٱللَّهُ يَفۡعَلُ مَا يَشَآءُ} (40)

فلما نادت الملائكة زكريا بالبشارة { قَالَ رَبِّ } : يا سيدي قاله لجبرائيل ( عليه السلام ) ، وهذا هو قول الكلبي وأكثر المفسرين .

وقال الحسن بن الفضل : إنّما قال زكريا لله يا رب لا لجبرائيل .

{ أَنَّى يَكُونُ } : من أين يكون ، { لِي غُلاَمٌ } : ابن . { وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ } : قال أبو حمزة والفرّاء والمورّخ بن المفضّل : هذا من المقلوب : أي قد بلغت الكبر كما يقال : بلغني الجهد : أي إني في جهد ، ويقول هذا القول لا يقطعني أي لا يبلغ [ بي ] ما أريد [ أن ] يقطعه ، وأنشد المفضل :

كانت فريضةٌ ما زعمت *** كما كانت الزناء فريضة الرجم

وقيل معناه : وقد نالني الكبر وأدركني وأخذ مني وأضعفني .

قال الكلبي : كان يوم بُشر بالولد ابن اثنين وتسيعن سنة ، وقيل : ابن تسع وتسعون سنة ، فذلك قوله : { وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ } : أي عقيم لا تلد ، يقال : رجل عاقر وامرأة عاقر ، وقد عُقر بضم القاف ، يعقر عقراً وعقارة ، وقيل : تكلم حتى أُعقِر بكسر القاف يعقر عقراً إذا أبقى فلم يقدر على الكلام .

وقال عامر بن الطفيل :

ولبئس الفتى إن كنت أعورُ عاقراً *** جباناً فما عذري لدى كل محضر

وإنما حذف الهاء ؛ لاختصاص الأُناث بهذه ، وقال به تارة الخليل .

وقال سيبويه : للنسبة أي ذات عقر ، كما يقال : امرأة مرضع أي ذات ولد رضيع وكل ( . . . ) امرأتي عنى عاقر ، وشخص عاقر .

وقال عبيد : عاقر مثل ذات رحم ، أو خانم مثل من [ ينحب ] .

{ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } : فإن قيل : لم تنكر زكريا ذلك وسأل الآية بعدما بشرته به الملائكة أكان ذلك [ شكّ في صدقهم [ أم أنّ ] ذلك منه استنكاراً لقدرة ربّه ] ؟ وهذا لا يجوز أن يوصف به أهلُ الإيمان فكيف الأنبياء ( عليهم السلام ) ؟ قيل : إن الجواب عنه ما روى عكرمة والسدي : إن زكريا لما سمع نداء الملائكة جاءه الشيطان ، فقال : يا زكريا إن الصوت الذي سمعته ليس من اللَّه ، إنما هو من الشيطان يسخر بك ، ولو كان من اللَّه لأوحاه إليك خفياً ، كما ( ناداك ) خفياً وكما يوحى إليك في سائر الأمور ، فقال ذلك دفعاً للوسوسة .

والجواب الثاني : إنه لم يشك في الولد وإنما شك في كيفيته والوجه الذي يكون منه الولد فقال : { أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } : أي فكيف يكون لي ولد ؟ أتجعلني وامرأتي شابين ؟ أم ترزقنا ولداً على كبرنا ؟ أم ترزقني من امرأتي أو غيرها من النساء ؟ قال ذلك مستفهماً لا منكراً ، وهذا قول الحسن وابن كيسان .