{ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ فَأَنّىَ تُؤْفَكُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قُلْ يا محمد هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ يعني من الاَلهة والأوثان مَنْ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ ؟ يقول : من ينشىء خلق شيء من غير أصل ، فيحدث خلقه ابتداء ثم يعيده ، يقول : ثم يفنيه بعد إنشائه ، ثم يعيده كهيئته قبل أن يفنيه ؟ فإنهم لا يقدرون على دعوى ذلك لها . وفي ذلك الحجة القاطعة والدلالة الواضحة على أنهم في دعواهم أنها أرباب وهي لله في العبادة شركاء كاذبون مفترون . فقُلِ لهم حينئذ يا محمد : اللّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ فينشئه من غير شيء ويحدثه من غير أصل ثم يفنيه إذا شاء ، ثُمّ يُعِيدُهُ إذا أراد كهيئته قبل الفناء . فَأَنّي تُؤْفَكُونَ يقول : فأيّ وجه عن قصد السبيل وطريق الرشد تصرفون وتقلبون . كما :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : فَأنّىَ تُؤْفَكونَ قال : أنىَ تصرفون .
وقد بيّنا اختلاف المختلفين في تأويل قوله : أنّىَ تُؤْفَكُونَ والصواب من القول في ذلك عندنا بشواهده في سورة الأنعام .
هذا توقيف أيضاً على قصور الأصنام وعجزها ، وتنبيه على قدرة الله عز وجل ، و «بدء الخلق » يريد به إنشاء الإنسان في أول أمره ، و «إعادته » هي البعث من القبور ، و { تؤفكون } معناه : تصرفون وتحرمون ، تقول العرب : أرض مأفوكة إذا لم يصبها مطر فهي بمعنى الخيبة والتلف ، كما قال { والمؤتفكة أهوى }{[6105]} .
استئناف على طريقة التكرير لقوله قبله { قل من يرزقكم من السماء والأرض } [ يونس : 31 ] . وهذا مقام تقرير وتعديد الاستدلال ، وهو من دواعي التكرير وهو احتجاج عليهم بأن حال آلهتهم على الضد من صفات الله تعالى فبعد أن أقام عليهم الدليل على انفراد الله تعالى بالرزق وخلق الحواس وخلق الأجناس وتدبير جميع الأمور وأنه المستحق للإلهية بسبب ذلك الانفراد بين هنا أن آلهتهم مسلوبة من صفات الكمال وأن الله متصف بها . وإنما لم يعطف لأنه غرض آخر مستقل ، وموقع التكرير يزيده استقلالاً .
والاستفهام إنكار وتقرير بإنكار ذلك إذ ليس المتكلم بطالب للجواب ولا يسعهم إلا الاعتراف بذلك فهو في معنى نفي أن يكون من آلهتهم من يبدأ الخلق ثم يعيده ، فلذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يرتقي معهم في الاستدلال بقوله : { اللّهُ يبدأ الخلق ثم يعيده } فصار مجموع الجملتين قصراً لصفة بَدْء الخلق وإعادته على الله تعالى قصرَ إفراد ، أي دون شركائكم ، أي فالأصنام لا تستحق الإلهية والله منفرد بها .
وذكر إعادة الخلق في الموضعين مع أنهم لا يعترفون بها ضَرب من الإدماج في الحجاج وهو فن بديع .
وإضافة الشركاء إلى ضمير المخاطبين تقدم وجهه آنفاً عند قوله : { مكانكم أنتم وشركاؤكم } [ يونس : 28 ] .
وقوله : { فأنى تؤفكون } كقوله : { فأنى تصرفون } [ يونس : 32 ] . وأفكهُ : قلبه . والمعنى : فإلى أي مكان تقلبون . والقلب مجازي وهو إفساد الرأي . و ( أنى ) هنا استفهام عن مكان مجازي شبهت به الحقائق التي يُحول فيها التفكير . واستعارة المكان إليها مثل إطلاق الموضوع عليها والمجال أيضاً .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قُلْ" يا محمد "هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ "يعني من الآلهة والأوثان "مَنْ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ؟" يقول: من ينشئ خلق شيء من غير أصل، فيحدث خلقه ابتداء ثم يعيده، يقول: ثم يفنيه بعد إنشائه، ثم يعيده كهيئته قبل أن يفنيه؟ فإنهم لا يقدرون على دعوى ذلك لها. وفي ذلك الحجة القاطعة والدلالة الواضحة على أنهم في دعواهم أنها أرباب وهي لله في العبادة شركاء كاذبون مفترون. فقُلِ لهم حينئذ يا محمد: "اللّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ" فينشئه من غير شيء ويحدثه من غير أصل ثم يفنيه إذا شاء، "ثُمّ يُعِيدُهُ" إذا أراد كهيئته قبل الفناء. "فَأَنّي تُؤْفَكُونَ" يقول: فأيّ وجه عن قصد السبيل وطريق الرشد تصرفون وتقلبون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) قال عامة أهل التأويل: (ثم يعيده) البعث بعد الموت؛ أي لا أحد من شركائكم الذين تعبدون يملك بدء الخلق ولا بعثه.
وقال بعضهم قوله (ثم يعيده) لا يحتمل البعث لأنهم كانوا لا يقرون بالبعث، فلا يحتمل الاحتجاج عليهم بذلك.
ولكن قوله: (ثم يعيده) ما سوى البشر لأنهم كانوا إنما ينكرون إعادة البشر. فأما إعادة غيره من الأشياء فلا ينكرونها نحو إعادة الليل والنهار وإعادة الأنزال والنبات ونحو الأشياء التي يشاهدونها؛ أي (ثم يعيده) مثله: الليل ليلا مثله والنهار نهارا مثله؛ وكذلك الخلائق تفنى، ثم يعيدها مثلها فإذا ثبت في غير البشر ثبت في البشر.
ويحتمل الأمرين جميعا عندنا البعث وأشياء مثله لأنه تعليم لهم، ألا ترى أنه قال الله تعالى: (يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ)؟ قيل: تكذبون بتوحيد الله، وقد عرفتم أنه هو بدأ الخلق، ثم يعيده، لا أحد يملك ذلك.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
كَشف قبيحَ ما انطوت عليه عقائدُهم من عبادتهم ما لا يصحُّ منه الخْلقُ والإعادة، وأثبت أن المعبودَ مَنْ منه الخَلْقُ والإعادة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: كيف قيل لهم {هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يبدأ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} وهم غير معترفين بالإعادة؟ قلت: قد وضعت إعادة الخلق لظهور برهانها موضع ما إن دفعه دافع كان مكابراً ردّاً للظاهر البين الذي لا مدخل للشبهة فيه، دلالة على أنهم في إنكارهم لها منكرون أمراً مسلماً معترفاً بصحته عند العقلاء، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} فأمره بأن ينوب عنهم في الجواب، يعني أنه لا يدعهم لجاجهم ومكابرتهم أن ينطقوا بكلمة الحق فكلم عنهم.
اعلم أن هذا هو الحجة الثانية، وتقريرها ما شرح الله تعالى في سائر الآيات من كيفية ابتداء تخليق الإنسان من النطفة والعلقة والمضغة وكيفية إعادته، ومن كيفية ابتداء تخليق السموات والأرض، فلما فصل هذه المقامات، لا جرم اكتفى تعالى بذكرها ههنا على سبيل الإجمال، وههنا سؤالات:
السؤال الأول: ما الفائدة في ذكر هذه الحجة على سبيل السؤال والاستفهام
والجواب: أن الكلام إذا كان ظاهرا جليا ثم ذكر على سبيل الاستفهام وتفويض الجواب إلى المسؤول، كان ذلك أبلغ وأوقع في القلب.
السؤال الثاني: القوم كانوا منكرين الإعادة والحشر والنشر فكيف احتج عليهم بذلك؟
والجواب: أنه تعالى قدم في هذه السورة ذكر ما يدل عليه، وهو وجوب التمييز بين المحسن وبين المسيء وهذه الدلالة ظاهرة قوية لا يتمكن العاقل من دفعها، فلأجل كمال قوتها وظهورها تمسك به سواء ساعد الخصم عليه أو لم يساعد.
السؤال الثالث: لم أمر رسوله بأن يعترف بذلك، والإلزام إنما يحصل لو اعترف الخصم به؟
والجواب: أن الدليل لما كان ظاهرا جليا، فإذا أورد على الخصم في معرض الاستفهام، ثم إنه بنفسه يقول الأمر كذلك، كان هذا تنبيها على أن هذا الكلام بلغ في الوضوح إلى حيث لا حاجة فيه إلى إقرار الخصم به، وأنه سواء أقر أو أنكر، فالأمر متقرر ظاهر.
أما قوله: {فأنى تؤفكون} فالمراد التعجب منهم في الذهاب عن هذا الأمر الواضح الذي دعاهم الهوى والتقليد أو الشبهة الضعيفة إلى مخالفته، لأن الإخبار عن كون الأوثان آلهة كذب وإفك، والاشتغال بعبادتها مع أنها لا تستحق هذه العبادة يشبه الإفك.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قل هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} لم يعطف هذا الأمر ولا ما بعده على ما قبله من تلقين النبي صلى الله عليه وسلم الاحتجاج على المشركين؛ لأن حكم البلاغة فيه الفصل كأمثاله مما يسرد سردا من جنس واحد من المفردات والجمل. أي قل لهم أيها الرسول: هل أحد من شركائكم الذين عبدتموهم مع الله، أو من دون الله، من له هذا الشأن في الكون -وهو بدء الخالق في طور ثم إعادته في طور آخر- سواء كان من الأصنام المنصوبة، أو من الأرواح التي تزعمون أنها حالة فيها، أو من الكواكب السماوية أو غيرها من الأحياء كالجن والملائكة؟ ولما كان هذا السؤال مما لا يجيبون عنه -كما أجابوا عن أسئلة الخطاب الأول لإنكارهم البعث والمعاد، لا لاعتقادهم أن شركاءهم تفعل ذلك- لقن الله رسوله الجواب:
{قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} فأدمج إثبات البعث في توحيد الربوبية؛ لأنه يقتضيه ويستلزمه، فإن الرب القادر على بدء الخلق يكون قادرا على إعادته بالأولى، على أن الذي ينكرونه هو إعادته تعالى للأحياء الحيوانية دون ما دونها من الأحياء النباتية، فهم يشاهدون بدء خلق النبات في الأرض عندما يصيبها ماء المطر في فصل الشتاء وموته بجفافها في فصل الصيف والخريف ثم إعادته بمثل ما بدأه به مرة بعد أخرى، ويقرون بأن الله هو الذي يفعل هذا البدء والإعادة، لأنهم يشاهدون كلا منهما، فهم أسرى الحس والعيان، ثم ينكرون قدرته على إعادة خلق الناس، لأنهم لم يشاهدوا أحدا منهم حيا بعد موته، وقد فقدوا العلم ببرهان القياس، وإننا لا نزال نرى أمثالا لهم في جاهليتهم ممن تعلموا المنطق وطرق الاستدلال، وعرفوا ما لم يكونوا يعرفون من سلطان الأرواح في عالم الأجسام، وقد أمر الله رسوله أن يرشدهم إلى جهلهم بأنفسهم، وينبههم للتفكير في أمرهم بقوله: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي فكيف تصرفون عن ذلك، وهو من دواعي الفطرة وخاصة العقل في التفكير، للعلم بالحقائق والبحث عن المصير؟
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم عودة إلى مظاهر قدرة الله، وهل للشركاء فيها من نصيب.
(قل: هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده؟ قل: الله يبدأ الخلق ثم يعيده. فأنى تؤفكون؟ قل: هل من شركائكم من يهدي إلى الحق؟ قل: الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى؟ فما لكم؟ كيف تحكمون؟)..
وهذه الأمور المسؤول عنها -من إعادة الخلق وهدايتهم إلى الحق- ليست من بدائه مشاهداتهم ولا من مسلمات اعتقاداتهم كالأولى. ولكنه يوجه إليهم فيها السؤال ارتكانا على مسلماتهم الأولى، فهي من مقتضياتها بشيء من التفكر والتدبر. ثم لا يطلب إليهم الجواب، إنما يقرره لهم اعتمادا على وضوح النتائج بعد تسليمهم بالمقدمات.
(قل: هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده؟)..
وهم مسلمون بأن الله هو الذي يبدأ الخلق غير مسلمين بإعادته، ولا بالبعث والنشور والحساب والجزاء.. ولكن حكمة الخالق المدبر لا تكمل بمجرد بدء الخلق؛ ثم انتهاء حياة المخلوقين في هذه الأرض، ولم يبلغوا الكمال المقدر لهم، ولم يلقوا جزاء إحسانهم وإساءتهم، وسيرهم على النهج أو انحرافهم عنه. إنها رحلة ناقصة لا تليق بخالق مدبر حكيم. وإن الحياة الآخرة لضرورة من ضرورات الاعتقاد في حكمة الخالق وتدبيره وعدله ورحمته. ولا بد من تقرير هذه الحقيقة لهم وهم الذين يعتقدون بأن الله هو الخالق، وهم الذين يسلمون كذلك بأنه يخرج الحي من الميت. والحياة الأخرى قريبة الشبه بإخراج الحي من الميت الذي يسلمون به:
(قل: الله يبدأ الخلق ثم يعيده)..