المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{ثُمَّ تَوَلَّيۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَۖ فَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَكُنتُم مِّنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (64)

64- ثم إنكم أعرضتم بعد ذلك كله ، ولولا فضل الله عليكم ورحمته وتأخيره العذاب عنكم لكنتم من الضالين الهالكين .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ثُمَّ تَوَلَّيۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَۖ فَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَكُنتُم مِّنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (64)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ ثُمّ تَوَلّيْتُمْ مّن بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُم مّنَ الْخَاسِرِينَ }

قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ثُمّ تَوَلّيْتُمْ ثم أعرضتم . وإنما هو «تفعّلتم » من قولهم : ولاني فلان دبره : إذا استدبر عنه وخلفه خلف ظهره ، ثم يستعمل ذلك في كل تارك طاعة أمر بها عزّ وجل ومعرض بوجهه ، يقال : قد تولى فلان عن طاعة فلان ، وتولى عن مواصلته . ومنه قول الله جل ثناؤه : فَلَمّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بخِلُوا بِهِ وَتَوَلّوْا وَهُمْ مُعْرِضُون يعني بذلك : خالفوا ما كانوا وعدوا الله من قولهم : لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصّدّقَنّ وَلَنَكُونَنّ مِنَ الصّالِحِينَ ونبذوا ذلك وراء ظهورهم ، ومن شأن العرب استعارة الكلمة ووضعها مكان نظيرها ، كما قال أبو ذؤيب الهذلي :

فَلَيْسَ كَعَهْدِ الدّارِ يا أُمّ مالِكٍ **** ولَكِنْ أحاطَتْ بالرّقابِ السّلاسِلُ

وَعادَ الفَتَى كالكَهْلِ لَيْسَ بقائِلٍ *** سِوَى الحَقّ شَيْئا واسْتَرَاح العَواذِلُ

يعني بقوله : «أحاطت بالرقاب السلاسل » أن الإسلام صار في منعه إيانا ما كنا نأتيه في الجاهلية مما حرّمه الله علينا في الإسلام بمنزلة السلاسل المحيطة برقابنا التي تحول بين من كانت في رقبته مع الغلّ الذي في يده وبين ما حاول أن يتناوله . ونظائر ذلك في كلام العرب أكثر من أن تحصى ، فكذلك قوله : ثُمّ تَوليْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلك يعني بذلك أنكم تركتم العمل بما أخذنا ميثاقكم وعهودكم على العمل به بجدّ واجتهاد بعد إعطائكم ربكم المواثيق على العمل به والقيام بما أمركم به في كتابكم فنبذتموه وراء ظهوركم . وكنى بقوله جلّ ذكره : «ذلك » عن جميع ما قبله في الآية المتقدمة ، أعني قوله : وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَكُمْ ورفَعْنا فَوْقَكُمُ الطّور .

القول في تأويل قوله تعالى : فَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ .

قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ذكره : فَلَوْلاَ فَضْل اللّهِ عَلَيْكُمْ : فلولا أن الله تفضل عليكم بالتوبة بعد نكثكم الميثاق الذي واثقتموه ، إذ رفع فوقكم الطور ، بأنكم تجتهدون في طاعته ، وأداء فرائضه ، والقيام بما أمركم به ، والانتهاء عما نهاكم عنه في الكتاب الذي آتاكم ، فأنعم عليكم بالإسلام ورحمته التي رحمكم بها ، وتجاوز عنكم خطيئتكم التي ركبتموها بمراجعتكم طاعة ربكم ، لكنتم من الخاسرين . وهذا وإن كان خطابا لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنما هو خبر عن أسلافهم ، فأخرج الخبر مخرج المخبر عنهم على نحو ما قد بينا فيما مضى من أن القبيلة من العرب تخاطب القبيلة عند الفخار أو غيره بما مضى من فعل أسلاف المخاطب بأسلاف المخاطب ، فتضيف فعل أسلاف المخاطب إلى نفسها ، فتقول : فعلنا بكم ، وفعلنا بكم . وقد ذكرنا بعض الشواهد في ذلك من شعرهم فيما مضى .

وقد زعم بعضهم أن الخطاب في هذه الاَيات إنما أخرج بإضافة الفعل إلى المخاطبين به والفعل لغيرهم لأن المخاطبين بذلك كانوا يتولون من كان فعل ذلك من أوائل بني إسرائيل ، فصيرهم الله منهم من أجل ولايتهم لهم .

وقال بعضهم : إنما قيل ذلك كذلك ، لأن سامعيه كانوا عالمين ، وإن كان الخطاب خرج خطابا للأحياء من بني إسرائيل وأهل الكتاب إذ المعنى في ذلك إنما هو خبر عما قصّ الله من أنباء أسلافهم ، فاستغنى بعلم السامعين بذلك عن ذكر أسلافهم بأعيانهم . ومثّل ذلك بقول الشاعر :

إذَا ما انْتَسَبْنا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ ولَمْ تَجِدِي مِنْ أنْ تُقِرّي بِهِ بُدّا

فقال : «إذا ما انتسبنا » ، و«إذا » تقتضي من الفعل مستقبلاً . ثم قال : «لم تلدني لئيمة » ، فأخبر عن ماض من الفعل ، وذلك أن الولادة قد مضت وتقدمت . وإنما فعل ذلك عند المحتجّ به لأن السامع قد فهم معناه ، فجعل ما ذكرنا من خطاب الله أهل الكتاب الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم بإضافة أفعال أسلافهم إليهم نظير ذلك . والأول الذي قلنا هو المستفيض من كلام العرب وخطابها . وكان أبو العالية يقول في قوله : فَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فيما ذكر لنا نحو القول الذي قلناه .

حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو النضر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : فَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ قال : فضل الله : الإسلام ، ورحمته : القرآن .

وحدثت عن عمار ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بمثله .

القول في تأويل قوله تعالى : لَكُنْتُمْ مِنَ الخاسِرِينَ .

قال أبو جعفر : فَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ إياكم بانقاذه إياكم بالتوبة عليكم من خطيئتكم وجرمكم ، لكنتم الباخسين أنفسكم حظوظها دائما ، الهالكين بما اجترمتم من نقض ميثاقكم وخلافكم أمره وطاعته . وقد تقدم بياننا قبل بالشواهد عن معنى الخسار بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ثُمَّ تَوَلَّيۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَۖ فَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَكُنتُم مِّنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (64)

ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 64 )

وقوله تعالى : { ثم توليتم من بعد ذلك } الآية . تولّى تفعّل ، وأصله الإعراض والإدبار عن الشيء بالجسم ، ثم استعمل في الإعراض عن الأمور والأديان والمعتقدات اتساعاً ومجازاً ، و { فضل الله } رفع بالابتداء ، والخبر مضمر عند سيبويه لا يجوز إظهاره للاستغناء عنه ، تقديره فلولا فضل الله عليكم تدارككم ، { ورحمته } عطف على فضل ، قال قتادة : فضل الله الإسلام ، ورحمته القرآن . قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا على أن المخاطب بقوله : { عليكم } لفظاً ومعنى من كان في مدة محمد صلى الله عليه وسلم ، والجمهور على أن المراد بالمعنى من سلف( {[734]} ) ، و { لكنتم } جواب { لولا } ، { ومن الخاسرين } خبر «كان » . والخسران النقصان ، وتوليهم من بعد ذلك ، إما بالمعاصي ، فكان فضل الله بالتوبة والإمهال إليها ، وإما أن يكون توليهم بالكفر فكان فضل الله بأن لم يعاجلهم بالإهلاك ليكون من ذريتهم من يؤمن ، أو يكون المراد من لحق محمداً صلى الله عليه وسلم ، وقد قال ذلك قوم ، وعليه يتجه قول قتادة : إن الفضل الإسلام ، والرحمة القرآن ، ويتجه أيضاً أن يراد بالفضل والرحمة إدراكهم مدة محمد صلى الله عليه وسلم .


[734]:- ويأتي له أن قوما قالوا: إن المراد من حضر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا القول يصح ما قاله قتادة بن دعامة السدوسي البصري رحمه الله.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{ثُمَّ تَوَلَّيۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَۖ فَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَكُنتُم مِّنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (64)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

"ثُمّ تَوَلّيْتُمْ": ثم أعرضتم. وإنما هو «تفعّلتم» من قولهم: ولاني فلان دبره: إذا استدبر عنه وخلفه خلف ظهره، ثم يستعمل ذلك في كل تارك طاعة أمر بها عزّ وجل ومعرض بوجهه، يقال: قد تولى فلان عن طاعة فلان، وتولى عن مواصلته. ومنه قول الله جل ثناؤه: "فَلَمّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بخِلُوا بِهِ وَتَوَلّوْا وَهُمْ مُعْرِضُون "يعني بذلك: خالفوا ما كانوا وعدوا الله من قولهم: "لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصّدّقَنّ وَلَنَكُونَنّ مِنَ الصّالِحِينَ "ونبذوا ذلك وراء ظهورهم، ومن شأن العرب استعارة الكلمة ووضعها مكان نظيرها... فكذلك قوله: "ثُمّ تَوليْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلك" يعني بذلك أنكم تركتم العمل بما أخذنا ميثاقكم وعهودكم على العمل به بجدّ واجتهاد بعد إعطائكم ربكم المواثيق على العمل به والقيام بما أمركم به في كتابكم فنبذتموه وراء ظهوركم. وكنى بقوله جلّ ذكره: «ذلك» عن جميع ما قبله في الآية المتقدمة، أعني قوله: "وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَكُمْ ورفَعْنا فَوْقَكُمُ الطّور".

" فَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ": فلولا أن الله تفضل عليكم بالتوبة بعد نكثكم الميثاق الذي واثقتموه، إذ رفع فوقكم الطور، بأنكم تجتهدون في طاعته، وأداء فرائضه، والقيام بما أمركم به، والانتهاء عما نهاكم عنه في الكتاب الذي آتاكم، فأنعم عليكم بالإسلام ورحمته التي رحمكم بها، وتجاوز عنكم خطيئتكم التي ركبتموها بمراجعتكم طاعة ربكم، لكنتم من الخاسرين. وهذا وإن كان خطابا لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنما هو خبر عن أسلافهم، فأخرج الخبر مخرج المخبر عنهم على نحو ما قد بينا فيما مضى من أن القبيلة من العرب تخاطب القبيلة عند الفخار أو غيره بما مضى من فعل أسلاف المخاطب بأسلاف المخاطب، فتضيف فعل أسلاف المخاطب إلى نفسها، فتقول: فعلنا بكم، وفعلنا بكم. وقد ذكرنا بعض الشواهد في ذلك من شعرهم فيما مضى.

وقد زعم بعضهم أن الخطاب في هذه الآيات إنما أخرج بإضافة الفعل إلى المخاطبين به والفعل لغيرهم لأن المخاطبين بذلك كانوا يتولون من كان فعل ذلك من أوائل بني إسرائيل، فصيرهم الله منهم من أجل ولايتهم لهم.

وقال بعضهم: إنما قيل ذلك كذلك، لأن سامعيه كانوا عالمين، وإن كان الخطاب خرج خطابا للأحياء من بني إسرائيل وأهل الكتاب إذ المعنى في ذلك إنما هو خبر عما قصّ الله من أنباء أسلافهم، فاستغنى بعلم السامعين بذلك عن ذكر أسلافهم بأعيانهم... وإنما فعل ذلك عند المحتجّ به لأن السامع قد فهم معناه، فجعل ما ذكرنا من خطاب الله أهل الكتاب الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم بإضافة أفعال أسلافهم إليهم نظير ذلك. والأول الذي قلنا هو المستفيض من كلام العرب وخطابها... عن أبي العالية: "فَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ" قال: فضل الله: الإسلام، ورحمته: القرآن.

" لَكُنْتُمْ مِنَ الخاسِرِينَ": فَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ إياكم بإنقاذه إياكم بالتوبة عليكم من خطيئتكم وجرمكم، لكنتم الباخسين أنفسكم حظوظها دائما، الهالكين بما اجترمتم من نقض ميثاقكم وخلافكم أمره وطاعته.

الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :

{فَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} بتأخير العذاب عنكم. {لَكُنْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ} لصرتم من المغلوبين بالعقوبة وذهاب الدّنيا والآخرة.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

ولولا حكمه بإمهاله، وحِلْمُه بأفضاله لعَاجَلكُم بالعقوبة، وأحلَّ عليكم عظيمَ المصيبة ولخَسِرَتْ صفقتُكم بالكُلِّيَة...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ} بتوفيقكم للتوبة لخسرتم...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وقوله تعالى: {ثم توليتم من بعد ذلك} الآية. تولّى تفعّل، وأصله الإعراض والإدبار عن الشيء بالجسم، ثم استعمل في الإعراض عن الأمور والأديان والمعتقدات اتساعاً ومجازاً..

قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا على أن المخاطب بقوله: {عليكم} لفظاً ومعنى من كان في مدة محمد صلى الله عليه وسلم، والجمهور على أن المراد بالمعنى من سلف...

والخسران النقصان، وتوليهم من بعد ذلك، إما بالمعاصي، فكان فضل الله

بالتوبة والإمهال إليها،

وإما أن يكون توليهم بالكفر فكان فضل الله بأن لم يعاجلهم بالإهلاك ليكون من ذريتهم من يؤمن،أو يكون المراد من لحق محمداً صلى الله عليه وسلم، وقد قال ذلك قوم، وعليه يتجه قول قتادة: إن الفضل الإسلام، والرحمة القرآن، ويتجه أيضاً أن يراد بالفضل والرحمة إدراكهم مدة محمد صلى الله عليه وسلم.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

وبعد أن ذكر لهم تلك الآية، وما اتصل بها من الهداية، ذكرهم بما كان منهم من التولي عن الطاعة والإعراض عن القبول، ثم امتنّ عليهم بما عاملهم به من الفضل والرحمة، والصفح عما يستحقونه منا المؤاخذة والعقوبة، فقال: {ثم توليتم من بعد ذلك} أي ثم أعرضتم وانصرفتم عن الطاعة من بعد أخذ الميثاق ومشاهدة الآيات التي تؤثر في القلوب، وتستكين له النفوس {فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين} أي إنكم بتوليكم استحققتم العقاب، ولكن حال دون نزوله بكم فضل الله عليكم ورحمته بكم، ولولا ذلك لخسرتم سعادة الدنيا وهو التمكن في الأرض المقدسة التي تفيض لبنا وعسلا، ثم خسرتم سعادة الآخرة وهي خير ثوابا وخير أملا. فمن فضله وإحسانه أن وفقكم للعمل بالميثاق بعد ذلك.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

ولكن كان هذا الميثاق الذي وثقه الله تعالى بأمر حسي، لأنهم لا يعتبرون إلا بالمحسوسات، مؤديا إلى أن يتقوه سبحانه بل إنهم تلقوا أمرا موثقا ذلك التوثيق مؤكدا ذلك التوكيد، ولكنهم كعادتهم في استهانتهم بأمر الله ونهيه نسوه وتولوا عنه معرضين؛ ولذلك قال تعالى: {ثم توليتم من بعد ذلك} التولي هو الإعراض، وأصله الإدبار وأن يجعل جسمه موليا وجه من يطالبه بقول أو عمل، والمعنى أنهم أعرضوا إعراضا شديدا واضحا، كمن يعرض عن القول بتولية جسمه، واتجاهه في اتجاه غير اتجاه من يواجهه بالقول، معنى ذلك أنهم جعلوا الله وميثاقه وراءهم، ودبر آذانهم.

والتعبير هنا ب "ثم "التي تدل على التراخي، للإشارة إلى البعد عن الميثاق وموجبه، وعملهم المناقض لأمر الله تعالى، والإشارة فيها بالبعيد في قوله تعالى: {ثم توليتم من بعد ذلك} لبيان بعد عملهم عن الميثاق الذي أمرهم سبحانه وتعالى أن يأخذوه بقوة، وأن يذكروه دائما وأن يكون في وعيهم في كل أحوالهم.

وإن ذلك التولي كان بالإعراض عما جاء في التوراة أو الألواح العشرة التي أخذوها بقوة، وطولبوا بذكرها ليمكنهم أن يعملوا بها، وقد قال القفال الشاشي بعض ما تولوا به عن التوراة فقال: وإنهم بعد قبول التوراة، ورفع الطور تولوا عن التوراة بأمور كثيرة فحرفوا كلمها عن مواضعه، وتركوا العمل بها، وقتلوا الأنبياء، بعد أن كفروا بهم وعصوا أمرهم ومنه ما عمله أوائلهم، ومنه ما فعله متأخروهم، ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم لأعاجيب البلاء يخالفون موسى ويعترضون عليه ويلقونه بكل أذى، ويجاهرون بالمعاصي في معسكرهم ذلك، حتى لقد خسف ببعضهم وأحرقت النار بعضهم، وعوقبوا بالطاعون، ثم نقل متأخروهم ما لا خفاء فيه حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس، وكفروا بالمسيح وهموا بقتله.

هذه كلمات صورت توليهم عن الحق، واستدباره في عامة أمورهم، وكان منهم في عهد موسى وهو يكلمهم عن الله، ويتولى تربيتهم وبث روح الإيمان في قلوبهم التي قست وكانوا صورة واضحة للناس الذين تغلب عليهم شهوتهم.

ولقد قال تعالى: {فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين} الفاء فاء الإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر، أي إذا كان ذلك كله منكم بعد ذلك التوثيق لأمر الله تعالى ونهيه، وأمركم أن تأخذوه فإنه كان ينزل بكم الخسران المبين والعذاب المهين، ولكن لولا فضل الله عليكم ورحمته.. و"لولا" هنا هي التي يقال فيها إنها حرف امتناع وجود أي حرف امتناع جواب لوجود الشرط. والمعنى أنكم كنتم تستحقون بذلك عذاب الهون، ولولا فضل الله أي إرادته أن يزيد خيره عليكم تمكينا لكم من فعل الخير لإمهالكم لكنتم من الخاسرين، ولقد قال الراغب في تفسيره: الخاسر المطلق هو الذي خسر أعظم ما يقتنى، وهو نعيم الأبد.

فالخاسرون: هم الذين خسروا أنفسهم، بأن أوقعوها في الهلكة والعذاب.

وإن النص القرآني يفيد أن الله بفضله ورحمته أعطاهم مهلة ليتداركوا أمرهم، ولم يكتبهم من الخاسرين.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

الميثاق المقصود من الميثاق في الآية الكريمة هو نفس ما جاء في الآية 40 من هذه السّورة وما سيأتي في الآيتين 83 و 84 أيضاً. مواد هذا الميثاق عبارة عن: توحيد الله، والإِحسان إلى الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين، والقول الصالح، وإقامة الصلاة، وأداء الزكاة، واجتناب سفك الدماء. هذه المواد وردت في التّوراة كذلك.

[و] من الآية 12 لسورة المائدة يتضح أيضاً أن الله أخذ ميثاق بني إسرائيل أن يؤمنوا بجميع الأنبياء ويساندوهم، وأن ينفقوا في سبيل الله. وفي هذه الآية ضمان للقوم بدخول الجنّة إن عملوا بهذا الميثاق...

[و] لا مانع من إرغام الأفراد المعاندين المتمردين على الرضوخ للحق بالقوّة. [متى كان مؤقتا] هدفه كسر أنفتهم وعنادهم وغرورهم، ومن ثم دفعهم للفكر الصحيح، كي يؤدوا واجباتهم بعد ذلك عن إرادة واختيار. على أي حال، هذا الميثاق يرتبط بالمسائل العملية، لا بالجانب الاعتقادي، فالمعتقدات لا يمكن تغييرها بالإِكراه...

خاطب الله سبحانه بني إسرائيل فقال: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقوَّة) وعن هذه الآية سئل الإِمام جعفر بن محمّد الصّادق (عليه السلام) عن المقصود من القوّة في هذه الآية: «أَبِقُوَّة بالأبدان أَمْ بِقُوَّة فِي الْقُلُوبِ»؟ قَالَ: «بِهِمَا جَميعاً». وهذا الأمر الإِلهي يتجه إلى كل أتباع الأديان الإِلهية في كل زمان ومكان، ويطلب منهم أن يتجهزوا بالقوى المادية والقوى المعنوية معاً، لصيانة خط التوحيد وإقامة حاكمية الله في الأرض.