البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ثُمَّ تَوَلَّيۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَۖ فَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ لَكُنتُم مِّنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ} (64)

التولي : الإعراض بعد الإقبال .

لولا : للتحضيض بمنزلة هلا ، فيليها الفعل ظاهراً أو مضمراً ، وحرف امتناع لوجود فيكون لها جواب ، ويجيء بعدها اسم مرفوع بها عند الفراء ، وبفعل محذوف عند الكسائي ، وبالابتداء عند البصريين ، والخبر محذوف عند جمهورهم ، وعند بعضهم فيه تفصيل ذكرناه في ( منهج السالك ) من تأليفنا ، وليست جملة الجواب الخبر ، خلافاً لأبي الحسين بن الطراوة ، وإن وقع بعدها مضمر فيكون ضمير رفع مبتدأ عند البصريين ، ويجوز أن يقع بعدها ضمير الجرّ فتقول : لولاني ولولاك ولولاه ، إلى آخرها ، وهو في موضع جر بلولا عند سيبويه ، وفي موضع رفع عند الأخفش ، استعير ضمير الجر للرفع ، كما استعاروا ضمير الرفع للجر في قولهم : ما أنا كانت ، ولا أنت كانا .

والترجيح بين المذهبين مذكور في النحو .

ومن ذهب إلى أن لولا نافية ، وجعل من ذلك { فلولا كانت قرية آمنت } ، فبعيد قوله عن الصواب .

{ ثم توليتم من بعد ذلك } : أي أعرضتم عن الميثاق والعمل بما فيه ، وأصل التولي : أن يكون بالجسم ، ثم استعمل في الإعراض عن الأمور والأديان والمعتقدات ، اتساعاً ومجازاً .

ودخول ثم مشعر بالمهلة ، ومن تشعر بابتداء الغاية .

لكن بين الجملتين كلام محذوف ، التقدير ، والله أعلم : فأخذتم ما آتيناكم ، وذكرتم ما فيه ، وعملتم بمقتضاه .

فلا بدّ من ارتكاب مجاز في مدلول من ، وأنه لسرعة التولي منهم واجتماعهم عليه ، كأنه ما تخلل بين ما أمروا به وبين التولي شيء .

وقد علم أنهم بعدما قبلوا التوراة ، تولوا عنها بأمور ، فحرّفوها ، وتركوا العمل بها ، وقتلوا الأنبياء ، وكفروا بالله ، وعصوا أمره .

ومن ذلك ما اختص به بعضهم ، وما عمله أوائلهم ، وما عمله أواخرهم .

ولم يزالوا في التيه ، مع مشاهدتهم الأعاجيب ، يخالفون موسى ، ويظاهرون بالمعاصي في عسكرهم ، حتى خسف ببعضهم ، وأحرقت النار بعضهم ، وعوقبوا بالطاعون ، وكل هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرأون بها ، ثم فعل ساحروهمم ما لا خفاء به ، حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس ، وكفروا بالمسيح وهموا بقتله ، والقرآن ، وإن لم يكن فيه بيان ما تولوا به عن التوراة .

فالجملة معروفة ، وذلك إخبار من الله عن أسلافهم .

فغير عجيب إنكارهم ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وحالهم في كتابه ما ذكر .

والإشارة بذلك في قوله : { من بعد ذلك } إلى قبول ما أوتوه ، أو إلى أخذ الميثاق والوفاء به ، ورفع الجبل ، أو خروج موسى من بينهم ، أو الإيمان ، أقوال .

{ فلولا فضل الله عليكم ورحمته } ، الفضل : الإسلام ، والرحمة : القرآن ، قاله أبو العالية .

أو الفضل : قبول التوبة ، والرحمة : العفو عن الزلة ، أو الفضل : التوفيق للتوبة ، والرحمة : القبول .

أو الفضل والرحمة ، فأخبر الله عنهم .

أو الفضل والرحمة : بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإدراكهم لمدته .

وعلى هذا القول يكون من تلوين الخطاب ، إذ صار هذا عائداً على الحاضرين .

والأقوال قبله تدل على أن المخاطب به من سلف ، لأنه جاء في سياق قصتهم .

وفضل الله على مذهب البصريين مرفوع على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره : موجود ، وما يشبهه مما يليق بالموضع .

وعليكم : متعلق بفضل ، أو معمول له ، فلا يكون في موضع الخبر .

والتقدير : { فولا فضل الله عليكم ورحمته } موجودان ، { لكنتم } : جواب لولا .

والأكثر أنه إذا كان مثبتاً تدخله اللام ، ولم يجىء في القرآن مثبتاً إلا باللام ، إلا فيما زعم بعضهم أن قوله تعالى : { وهم بها } جواب : لولا قدم فإنه لا لام معه .

وقد جاء في كلام العرب بغير لام ، وبعض النحويين يخص ذلك بالشعر ، قال الشاعر :

لولا الحياء ولولا الدين عبتكما***

ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري

وقد جاء في كلامهم بعد اللام ، قد ، قال الشاعر :

لولا الأمير ولولا حق طاعته***

لقد شربت دماً أحلى من العسل

وقد جاء في كلامهم أيضاً حذف اللام وإبقاء قد نحو : لولا زيد قد أكرمتك .

{ من الخاسرين } : تقدّم أن الخسران : هو النقصان ، ومعناه من الهالكين في الدنيا والأخرى .

ويحتمل أن يكون كان هنا بمعنى : صار .

قال القشيري : أخذ سبحانه ميثاق المكلفين ، ولكنّ قوماً أجابوه طوعاً ، لأنه تعرّف إليهم ، فوحدوه ، وقوماً أجابوه كرهاً ، لأنه ستر عليهم ، فجحدوه .

ولا حجة أقوى من عيان ما رفع فوقهم من الطور ، ولكن عدموا نور البصيرة ، فلم ينفعهم عيان البصر .

قال تعالى : { ثم توليتم } ، أي رجعتم إلى العصيان ، بعد مشاهدتكم الإيمان بالعيان ، ولولا حكمه بإمهاله ، وحكمه بإفضاله ، لعاجلكم بالعقوبة ، ولحلّ بكم عظيم المصيبة .

وقال بعض أهل اللطائف : كانت نفوس بني إسرائيل ، من ظلمات عصيانها ، تخبط في عشواء حالكة الجلباب ، وتخطر ، من غلوائها وعلوّها ، في حلتي كبر وإعجاب .

فلما أمروا بأخذ التوراة ، ورأوا ما فيها من أثقال التكاليف ، ثارت نفوسهم الآبية ، فرفع الله عليهم الجبل ، فوجدوه أثقل مما كلفوه ، فهان عليهم حمل التوراة مع ما فيها من التكليف والنصب ، إذ ذاك أهون من الهلاك ، قال الشاعر :

إلى الله يدعى بالبراهين من أبى***

فإن لم يجب نادته بيض الصوارم