القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَآ أُوتِيتُم مّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وما أُعطيتم أيها الناس من شيء من الأموال والأولاد ، فإنما هو متاع تتمتعون به في هذه الحياة الدنيا ، وهو من زينتها التي يترين به فيها ، لا يغنى عنكم عند الله شيئا ، ولا ينفعكم شيء منه في معادكم ، وما عند الله لأهل طاعته وولايته خير مما أوتيتموه أنتم في هذه الدنيا من متاعها وزينتها وأبقى ، يقول : وأبقى لأهله ، لأنه دائم لا نفاد له . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
20981حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، في قوله وَما عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ وأبْقَى قال : خير ثوابا ، وأبقى عندنا أفَلاَ تَعْقِلُونَ يقول تعالى ذكره : أفلا عقول لكم أيها القوم تتدبرون بها فتعرفون بها الخير من الشرّ ، وتختارون لأنفسكم خير المنزلتين على شرّهما ، وتؤثرون الدائم الذي لا نفاد له من النعيم ، على الفاني الذي لا بقاء له .
ثم خاطب تعالى قريشاً محقراً لما كانوا يفخرون به من مال وبنين وغير ذلك من قوة لم تكن عند محمد صلى الله عليه وسلم ولا عند من آمن به فأخبر تعالى قريشاً أن ذلك متاع الدنيا الفاني وأن الآخرة وما فيها من النعم التي أعدها الله لهؤلاء المؤمنين { خير وأبقى } ، ثم وبخهم بقوله تعالى : { أفلا تعقلون } ، وقرأ الجمهور «أفلا يعقلون » بالياء ، وقرأ أبو عمرو وحده بالتاء من فوق ، وروي عنه بالياء ، كذا قال أبو علي في الحجة ، وذلك خلاف ما حكى أبو حاتم والناس ، فإن نافعاً يقرأ بالتاء من فوق وهي قراءة الأعرج والحسن وعيسى{[9160]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما أوتيتم من شيء} يقول: وما أعطيتم من خير، يعني به كفار مكة {فمتاع الحياة الدنيا وزينتها} يقول: تمتعون في أيام حياتكم، فمتاع الحياة الدنيا وزينتها إلى فناء {وما عند الله} من الثواب {خير وأبقى} يعني: أفضل وأدوم لأهله مما أعطيتم في الدنيا، {أفلا تعقلون} أن الباقي خير من الفاني الذاهب.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وما أُعطيتم أيها الناس من شيء من الأموال والأولاد، فإنما هو متاع تتمتعون به في هذه الحياة الدنيا، وهو من زينتها التي يتزين به فيها، لا يغني عنكم عند الله شيئا، ولا ينفعكم شيء منه في معادكم، وما عند الله لأهل طاعته وولايته خير مما أوتيتموه أنتم في هذه الدنيا من متاعها وزينتها "وأبقى"، يقول: وأبقى لأهله، لأنه دائم لا نفاد له...
"أفَلاَ تَعْقِلُونَ "يقول تعالى ذكره: أفلا عقول لكم أيها القوم تتدبرون بها فتعرفون بها الخير من الشرّ، وتختارون لأنفسكم خير المنزلتين على شرّهما، وتؤثرون الدائم الذي لا نفاد له من النعيم، على الفاني الذي لا بقاء له.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
إنهم كانوا يتفاخرون بما أوتوا من السعة ومتاع الدنيا، وأهل الزهد والتقوى آثروا الباقي الموعود في الآخرة على متاع الدنيا وزينتها.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم خاطب تعالى قريشاً محقراً لما كانوا يفخرون به من مال وبنين وغير ذلك من قوة لم تكن عند محمد صلى الله عليه وسلم ولا عند من آمن به فأخبر تعالى قريشاً أن ذلك متاع الدنيا الفاني وأن الآخرة وما فيها من النعم التي أعدها الله لهؤلاء المؤمنين {خير وأبقى}.
اعلم أن هذا هو الجواب الثالث: عن تلك الشبهة، لأن حاصل شبهتهم أن قالوا تركنا الدين لئلا تفوتنا الدنيا فبين تعالى أن ذلك خطأ عظيم لأن ما عند الله خير وأبقى، أما أنه خير فلوجهين أحدهما: أن المنافع هناك أعظم، وثانيهما: أنها خالصة عن الشوائب ومنافع الدنيا مشوبة بالمضار فيها أكثر، وأما أنها أبقى فلأنها دائمة غير منقطعة ومنافع الدنيا منقطعة ومتى قوبل المتناهي بغير المتناهي كان عدما فكيف ونصيب كل أحد بالقياس إلى منافع الدنيا كلها كالذرة بالقياس إلى البحر، فظهر من هذا أن منافع الدنيا لا نسبة لها إلى منافع الآخرة البتة فكان من الجهل العظيم ترك منافع الآخرة لاستبقاء منافع الدنيا ولما نبه سبحانه على ذلك قال: {أفلا تعقلون} يعني أن من لا يرجح منافع الآخرة على منافع الدنيا كأنه يكون خارجا عن حد العقل.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما اعتلوا في الوقوف عن الإيمان بخوف التخطف، فذكرهم نعمته عليهم بإقامة أسباب الأمن وإدرار الرزق، وعرفهم أنه هو وحده الذي تخشى سطواته، ويتقي أخذه لمن خالفه وبطشاته، وكان خوفهم من عواقب المتابعة إما على أنفسهم وإما على ما بأيديهم من المتاع، علم من ذلك كله قطعاً أن التقدير بما سبب التخويف من عواقب الظلم بمثل مصارع الأولين: فأنفسكم في خطر من خوف الهلاك من القادر عليكم كقدرته على من قبلكم بسبب التوقف عن المتابعة أشد من خطر الخوف من التخطف بسبب المتابعة، أو يكون التقدير: فما خفتم منه التخطف غير ضائركم، وكفكم عن المتابعة لأجله غير مخلدكم، فما إهلاككم على الله بأي وجه كان -بعزيز، فعطف على هذا الذي أرشد السياق إلى تقديره قوله: {وما أوتيتم} أي من أي مؤت كان {من شيء} أي من هذه الأشياء التي بأيدكم وغيرها {فمتاع} أي فهو متاع {الحياة الدنيا} وليس يعود نفعه إلى غيرها، فهو إلى نفاد وإن طال زمن التمتع به {وزينتها} أي وهو زينة الحياة الدنيا التي هي كلها- فضلاً عن زينتها -إلى فناء، فليست هي ولا شيء منها بأزلي ولا أبدي {وما عند الله} أي الملك الأعلى مما تثمره لكم المتابعة من الثواب الذي وعدكموه في الدار الآخرة التي دل عليها دلالة واضحة إطباقكم على وصف هذه بالدنيا، ومن أصدق وعداً منه {خير} على تقدير مشاركة ما في الدنيا له في الخيرية في ظنكم، لأن الذي عنده أكثر وأطيب وأظهر، وأحسن وأشهى، وأبهج وأزهى، {و} هو مع ذلك كله {أبقى} لأنه وإن شارك متاع الدنيا في أنه لم يكن أزلياً فهو أبدي.
فلما بان أنه لا يقدم على خطر المخالفة المذكور خوفاً من خطر المتابعة الموصوف عاقل، توجه الإنكار عليهم في قوله تعالى: {أفلا تعقلون}.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذا حض من الله لعباده على الزهد في الدنيا وعدم الاغترار بها، وعلى الرغبة في الأخرى، وجعلها مقصود العبد ومطلوبه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهذا هو التقويم الأخير لا لما يخشون فوته من الأمن والأرض والمتاع وحده؛ ولا لما يمن به الله عليهم من التمكين والثمار والأمان وحده؛ ولا لما وهبه الله للقرى ثم أهلكها بالتبطر فيه وحده. إنما هو التقويم الأخير لكل ما في هذه الحياة الدنيا حتى لو ساغ وحتى لو كمل، وحتى لو دام، فلم يعقبه الهلاك والدمار. إنه كله (متاع الحياة الدنيا وزينتها).
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وبعدما بينت الآيات السابقة عاقبة السوء التي تؤدي إليها الأثرة والأنانية والبطر، التفت كتاب الله إلى أولئك المنهمكين في جمع الحطام من الحلال والحرام، الذين تملكتهم شهوة الطمع والشره، ففقدوا راحتهم وأنسهم ونسوا الله فأنساهم أنفسهم، مُلوِّحا لهم بالتخفيف من حدة التعب والنصب، والتعفف والاعتدال في الطلب، مذكرا إياهم بالمصير المحتوم، في انتظار اليوم المعلوم، الذي يجب له الاستعداد، والتزود بخير الزاد، وذلك ما يقتضيه قوله تعالى في هذا الخطاب، الذي لا يتذوق معناه إلا أولو الألباب: {وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون}.