المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{لَا يَزَالُ بُنۡيَٰنُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوۡاْ رِيبَةٗ فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَّآ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (110)

110- وسيظل هذا البناء الذي بناه المنافقون مصدر اضطراب وخوف في قلوبهم لا ينتهي حتى تتقطع قلوبهم بالندم والتوبة أو بالموت ، واللَّه عليم بكل شيء ، حكيم في أفعاله وجزائه .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لَا يَزَالُ بُنۡيَٰنُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوۡاْ رِيبَةٗ فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَّآ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (110)

القول في تأويل قوله تعالى : { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاّ أَن تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .

يقول تعالى ذكره : لا يزال بنيان هؤلاء الذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا رِيَبةً يقول : لا يزال مسجدهم الذي بنوه ريبة في قلوبهم ، يعني شكّا ونفاقا في قلوبهم ، يحسبون أنهم كانوا في بنائه محسنين . إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ يعني إلا أن تتصدّع قلوبهم فيموتوا ، والله عليم بما عليه هؤلاء المنافقون الذين بنوا مسجد الضرار من شكهم في دينهم وما قصدوا في بنائهموه وأرادوه وما إليه صائر أمرهم في الاَخرة وفي الحياة ما عاشوا ، وبغير ذلك من أمرهم وأمر غيرهم ، حكيم في تدبيره إياهم وتدبير جميع خلقه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لا يَزَالُ بُنْيانُهُمُ الّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ يعني شكّا إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ يعني الموت .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ قال : شكّا في قلوبهم ، إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ إلى أن يموتوا .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الّذِي بَنَوْا رِيبَةً في قُلُوبِهِمْ إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ يقول : حتى يموتوا .

حدثني مطر بن محمد الضبي ، قال : حدثنا أبو قتيبة ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن مجاهد ، في قوله : إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ قال : إلا أن يموتوا .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ قال : يموتوا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ قال : يموتوا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

قال : حدثنا سويد ، قال : حدثنا ابن المبارك ، عن معمر ، عن قتادة والحسن : لا يَزَالُ بُنْيانُهُمْ الّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ قالا شكّا في قلوبهم .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا إسحاق الرازي ، قال : حدثنا أبو سنان ، عن حبيب : لا يَزَالُ بُنْيانُهُمُ الّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ قال : غيظا في قلوبهم .

قال : حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ قال : يموتوا .

قال : حدثنا إسحاق الرازي ، عن أبي سنان ، عن حبيب : إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ : إلا أن يموتوا .

قال : حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن السديّ : رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ قال : كفر . قلت : أكفر مجمّع ابن جارية ؟ قال : لا ، ولكنها حزازة .

حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن السدي : لا يَزَالُ بُنْيانُهُمُ الّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ قال : حزازة في قلوبهم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لا يَزَالُ بُنْيانُهُمُ الّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ لا يزال ريبةً في قلوبهم راضين بما صنعوا ، كما حبب العجل في قلوب أصحاب موسى . وقرأ : وأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ العِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قال : حبه . إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ قال : لا يزال ذلك في قلوبهم حتى يموتوا يعني المنافقين .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا قيس ، عن السديّ ، عن إبراهيم : رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ قال : شكّا . قال : قلت يا أبا عمران تقول هذا وقد قرأت القرآن ؟ قال : إنما هي حزازة .

واختلفت القرّاء في قراءة قوله : إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ فقرأ ذلك بعض قرّاء الحجاز والمدينة والبصرة والكوفة : «إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ » بضمّ التاء من «تقطع » ، على أنه لم يسمّ فاعله ، وبمعنى : إلا أن يقطع الله قلوبهم . وقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة والكوفة : إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ بفتح التاء من تقطّع على أن الفعل للقلوب . بمعنى : إلا أن تنقطع قلوبهم ، ثم حذفت إحدى التاءين . وذكر أن الحسن كان يقرأ : «إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ » بمعنى : حتى تتقطع قلوبهم . وذكر أنها في قراءة عبد الله : «وَلَوْ قُطّعَتْ قُلُوبهُمْ » وعلى الاعتبار بذلك قرأ من ذلك : «إلاّ أنْ تُقَطّعَ » بضم التاء .

والقول عندي في ذلك أن الفتح في التاء والضم متقاربا المعنى ، لأن القلوب لا تتقطع إذا تقطعت إلا بتقطيع الله إياها ، ولا يقطعها الله إلا وهي متقطعة . وهما قراءتان معروفتان قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرّاء ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب في قراءته . وأما قراءة من قرأ ذلك : «إلى أن تُقْطّعَ » ، فقراءة لمصاحف المسلمين مخالفة ، ولا أرى القراءة بخلاف ما في مصاحفهم جائزة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَا يَزَالُ بُنۡيَٰنُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوۡاْ رِيبَةٗ فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَّآ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (110)

الضمير في { بنيانهم } عائد على المنافقين البانين للمسجد ومن شاركهم في غرضهم ، وقوله { الذي بنوا } تأكيد وتصريح بأمر المسجد ورفع للإشكال ، و «الريبة » الشك ، وقد يسمى ريبة فساد المعتقد واضطرابه والاعتراض في الشيء والتحفظ فيه والحزازة من أجله وإن لم يكن شكاً ، فقد يرتاب من لا يشك ، ولكنها في معتاد اللغة تجري مع الشك ، ومعنى «الريبة » في هذه الآية أمر يعم الغيظ والحنق ويعم اعتقاد صواب فعلهم ونحو هذا مما يؤدي كله إلى الريبة في الإسلام ، فمقصد الكلام لا يزال هذا البنيان الذي هدم لهم يبقى في قلوبهم حزازة وأثر سوء ، وبالشك فسر ابن عباس الريبة هنا ، وفسرها السدي بالكفر ، وقيل له أفكفر مجمع بن جارية ؟ قال : لا ولكنها حزازة .

قال القاضي أبو محمد : ومجمع رحمه الله قد أقسم لعمر أنه ما علم باطن القوم ولا قصد سوءاً ، والآية إنما عنت من أبطن سوءاً فليس مجمع منهم ، ويحتمل أن يكون المعنى لا يزالون مريبين بسبب بنائهم الذي اتضح فيه نفاقهم ، وجملة هذا أن الريبة في الآية تعم معاني كثيرة يأخذ كل منافق منها بحسب قدره من النفاق ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي «إلا أن تُقطع قلوبهم » بضم التاء وبناء الفعل للمفعول ، وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم بخلاف عن «إلا أن تَقطع » بفتح التاء على أنها فاعلة ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن ومجاهد وقتادة ويعقوب : «إلى أن تقطع » على معنى إلى أن يموتوا ، وقرأ بعضهم : «إلى أن تقطع » وقرأ أبو حيوة «إلا أن يُقطِع » بالياء مضمومة وكسر الطاء ونصب «القلوبَ » أي بالقتل ، وأما على القراءة الأولى فقيل بالموت قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم ، وقيل ، بالتوبة وليس هذا بالظاهر إلا أن يتأول : أو يتوبوا توبة نصوحاً يكون معها من الندم والحسرة على الذنب ما يقطع القلوب هماً وفكرة ، وفي مصحف ابن مسعود «ولو قطعت قلوبهم » ، وكذلك قرأها أصحابه وحكاها أبو عمرو «وان قطَعت » بتخفيف الطاء ، وفي مصحف أبيّ «حتى الممات » وفيه «حتى تقطع » .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{لَا يَزَالُ بُنۡيَٰنُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوۡاْ رِيبَةٗ فِي قُلُوبِهِمۡ إِلَّآ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (110)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

فقال الله: {لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم}، يعني حسرة وحزازة في قلوبهم؛ لأنهم ندموا على بنائه، {إلا أن تقطع قلوبهم} يعني حتى الممات، {والله عليم حكيم}...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: لا يزال بنيان هؤلاء الذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا "رِيَبةً "يقول: لا يزال مسجدهم الذي بنوه ريبة في قلوبهم، يعني شكّا ونفاقا في قلوبهم، يحسبون أنهم كانوا في بنائه محسنين. "إلاّ أنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُمْ" يعني إلا أن تتصدّع قلوبهم فيموتوا، "والله عليم" بما عليه هؤلاء المنافقون الذين بنوا مسجد الضرار من شكهم في دينهم وما قصدوا في بنائهموه وأرادوه وما إليه صائر أمرهم في الآخرة وفي الحياة ما عاشوا، وبغير ذلك من أمرهم وأمر غيرهم، "حكيم" في تدبيره إياهم وتدبير جميع خلقه...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

..."ريبة": حسرة وندامة فهو على وجهين: يحتمل أنهم تابوا وندموا على ما صنعوا، ويحتمل: حسرة وندامة لما افتضحوا بما صنعوا.

وأصل الريبة التهمة، يقال: فلان مريب إذا كانت به تهمة.

وقوله تعالى: (إلا أن تقطع قلوبهم) هذا أيضا على وجهين: أحدهما: على التمثيل: أن الخوف والحزن إذا بلغ غايته يقال: فلان منقطع القلب. والثاني: على الوعيد كقوله: (فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه)...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{رِيبَةً} شكاً في الدين ونفاقاً، وكان القوم منافقين، وإنما حملهم على بناء ذلك المسجد كفرهم ونفاقهم كما قال عزّ وجلّ: {ضِرَارًا وَكُفْرًا} [التوبة: 107] فلما هدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ازدادوا -لما غاظهم من ذلك وعظم عليهم -تصميماً على النفاق ومقتاً للإسلام، فمعنى قوله: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذى بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} لا يزال هدمه سبب شكّ، ونفاق زائد على شكّهم ونفاقهم لا يزول وسمه عن قلوبهم ولا يضمحلّ أثره {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} قِطعاً وتفرّق أجزاء، فحينئذٍ يسلون عنه. وأمّا ما دامت سالمة مجتمعة فالريبة باقية فيها متمكنة، فيجوز أن يكون ذكر التقطيع تصويراً لحال زوال الريبة عنها. ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم أو في القبور أو في النار...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

... و «الريبة» الشك، وقد يسمى ريبة فساد المعتقد واضطرابه والاعتراض في الشيء والتحفظ فيه والحزازة من أجله وإن لم يكن شكاً، فقد يرتاب من لا يشك، ولكنها في معتاد اللغة تجري مع الشك، ومعنى «الريبة» في هذه الآية أمر يعم الغيظ والحنق ويعم اعتقاد صواب فعلهم ونحو هذا مما يؤدي كله إلى الريبة في الإسلام...وجملة هذا أن الريبة في الآية تعم معاني كثيرة يأخذ كل منافق منها بحسب قدره من النفاق...

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

ثم قال تعالى: {لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم} والمعنى: أن بناء ذلك البنيان صار سببا لحصول الريبة في قلوبهم، فجعل نفس ذلك البنيان ريبة لكونه سببا للريبة. وفي كونه سببا للريبة وجوه:

الأول: أن المنافقين عظم فرحهم ببناء مسجد الضرار، فلما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتخريبه ثقل ذلك عليهم وازداد بغضهم له وازداد ارتيابهم في نبوته. الثاني: أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما أمر بتخريب ذلك المسجد ظنوا أنه إنما أمر بتخريبه لأجل الحسد، فارتفع أمانهم عنه وعظم خوفهم منه في كل الأوقات، وصاروا مرتابين في أنه هل يتركهم على ما هم فيه أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم؟ الثالث: أنهم اعتقدوا أنهم كانوا محسنين في بناء ذلك المسجد، فلما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بتخريبه بقوا شاكين مرتابين في أنه لأي سبب أمر بتخريبه؟ الرابع: بقوا شاكين مرتابين في أن الله تعالى هل يغفر تلك المعصية؟ أعني سعيهم في بناء ذلك المسجد. والصحيح هو الوجه الأول...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} الريبة: اسم من الريب، وهو ما تضطرب فيه النفس، ويتردد الوهم ويسوء الظن، فيكون صاحبه منه في شك وحيرة إن لم يكن مثاره الشك. قال قوم صالح عليه السلام له، منكرين دعوته إياهم إلى عبادة الله وحده: {وإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود:62]، ولهذا الاستعمال أمثال في التنزيل، وهو صريح في أن الشك مثار للريب وموقع فيه لا أنه عينه، وقد يفسر به باعتبار لزومه له وإيقاعه فيه...

والظاهر أن ارتيابهم فيه كان منذ بنوه على أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدمه فهدم، وذلك أنهم لسوء نيتهم في بنائه كانوا يخافون أن يطلع الله رسوله على مقاصدهم السوءى فيه، وكان ذلك شأن سائر إخوانهم كما تقدم في قوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم} [التوبة: 64] وذكرنا في تفسيرها قوله تعالى: {يحسبون كل صحية عليهم} [المنافقون: 4] (ج 10) وأجدر بهم أن يكونوا بعد هدمه أشد ارتيابا، وأكثر اضطرابا، بما يحذرون من عقابهم في الدنيا كما أنذرتهم هذه السورة مرارا، وأن يستمر ذلك ملازما لهم.

{إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} قرأ ابن عامر وحفص عن نافع وحمزة (تقطع) بفتح التاء وتشديد الطاء من التقطع، وقرأ الباقون بضم التاء من التقطيع، أي إلا أن تقطع الريبة قلوبهم أفلاذا، فتتقطع بها وتكون جذاذا، وقرأ يعقوب (إلى) بدل (إلا) وفسر ذلك بالموت والهلاك، وبالحسرة والندم المقتضي للتوبة...

{واللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فحكم في أمرهم وبين من حالهم ما اقتضته الحكمة والعلم المحيط بكل شيء.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

لقد انهار الجرف المنهار، انهار ببناء الضرار الذي أقيم عليه، انهار به في نار جهنم وبئس القرار! ولكن ركام البناء بقي في قلوب بُناته، بقي فيها (ريبة) وشكا وقلقا وحيرة، وسيبقى كذلك لا يدع تلك القلوب تطمئن أو تثبت أو تستقر، إلا أن تتقطع وتسقط هي الأخرى من الصدور! وإن صورة البناء المنهار لهي صورة الريبة والقلق وعدم الاستقرار.. تلك صورة مادية وهذه صورة شعورية.. وهما تتقابلان في اللوحة الفنية العجيبة التي يرسمها التعبير القرآني الفريد. وتتقابلان في الواقع البشري المتكرر في كل زمان. فما يزال صاحب الكيد الخادع مزعزع العقيدة، حائر الوجدان، لا يطمئن ولا يستقر، وهو من انكشاف ستره في قلق دائم، وريبة لا طمأنينة معها ولا استقرار. وهذا هو الإعجاز الذي يرسم الواقع النفسي بريشة الجمال الفني، في مثل هذا التناسق؛ بمثل هذا اليسر في التعبير والتصوير على السواء.. وتبقي وراء ذلك كله حكمة المنهج القرآني في كشف مسجد الضرار وأهله؛ وفي تصنيف المجتمع إلى تلك المستويات الإيمانية الواضحة؛ وفي كشف الطريق للحركة الإسلامية، ورسم طبيعة المجال الذي تتحرك فيه من كل جوانبه.. لقد كان القرآن الكريم يعمل في قيادة المجتمع المسلم، وفي توجيهه، وفي توعيته، وفي إعداده لمهمته الضخمة.. ولن يفهم هذا القرآن إلا وهو يدرس في مجاله الحركي الهائل؛ ولن يفهمه إلا أناس يتحركون به مثل هذه الحركة الضخمة في مثل هذا المجال...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

جملة: {لا يزال بنيانهم} يجوز أن تكون مستأنفة لتعدَاد مساوي مسجد الضرار بذكر سوءِ عواقبه بعد أن ذكرَ سوء الباعثِ عليه وبعد أن ذكر سوء وقعه في الإسلام بأن نهى الله رسوله عن الصلاة فيه وأمرَه بهدمه، لأنه لما نهاه عن الصلاة فيه فقد صار المسلمون كلهم منهيين عن الصلاة فيه، فسلب عنه حكم المساجد، ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدمه. ويرجح هذا الوجه أنه لم يؤت بضمير المسجد أو البنيان بل جيء باسمه الظاهر.

وقوله: {إلا أن تقطع قلوبهم} استثناء تهكمي. وهو من قبيل تأكيد الشيء بما يشبه ضده كقوله تعالى: {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سَم الخياط} [الأعراف: 40]، أي يبقى ريبة أبداً إلا أن تقطع قلوبهم منهم وما هي بمُقطعة. وجملة: {والله عليم حكيم} تذييل مناسب لهذا الجعل العجيب والإحكام الرشيق. وهو أن يكون ذلك البناء سببَ حسرة عليهم في الدنيا والآخرة.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

وبين سبحانه من بعد ذلك أنهم في ريب من أمر بنائهم، وأشد ما يصاب به المنافق أنه في ريب مستمر.فقال تعالى: {لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم}.

البنيان هو الذي بنوه والذي بعث من الكفر، ومضارة أهل الإيمان، وتفريق بينهم، وإرصاد لمن حارب الله ورسوله، هذا البنيان من ريبهم الذي كانوا يترددون فيه دائما ويتنقلون في أجوائه المختلفة بعث عليهم ريبهم في دينهم، وزادهم البناء ببواعثه ريبا، ولما هدمه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأحقره وحقر مكانه، حتى جعله كناسة تلقى فيه الجيف والقمائم، زادهم ذلك حقدا وحسدا، وريبا ونفاقا؛ لأن هذا النفاق يولد من الحسد والحقد، فلما ازدادت أسبابه ازدادوا ريبة، ولذا قال تعالى: {لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم} لا تزول إلا أن تقطع قلوبهم، أي لا يزول إلا إذا زالت قلوبهم، وتقطعت أجزاء، فما دامت قلوبهم المركسة في النفاق الغائر فيها، والتي أربدت به، ولازمتها ملازمة الحسك للصوف، وهذا النص الكريم تصوير لاستقرار النفاق في القلب، وتزايده بتزايد المغريات له، والأعمال المنافقة تقوي النفاق وتدعمه، آنا بعد آن، والريبة هو الريب في كل شيء يفكرون فيه، وقد يقال: كيف توصف عقيدتهم وحالهم بالريب، وهم يعتقدون الكفر، ويظهرون غيره، ونقول: إن المنافق لا يؤمن بشيء ولا يعتقد شيئا، وهو غير مؤمن بالله والرسول ويظهر الإيمان بهما، ولذا كان منافقا، ولكنه ليست له عقيدة تحل محل الإيمان بالله ورسوله، ولذا هو في حال ريبة مستمرة تمكث في قلبه وتستقر به، ولا تزول إلا أن تقطع قلوبهم إربا إربا...

وإن هذا البناء الذي بنوه كان يحرك ضغنهم طول حياة الرسول، ومن بعده في عهد أبي بكر وعمر، وكان الناس يتذكرونه، فيصخون أسماعهم صخا شديدا بذكره...

وختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: {والله عليم حكيم}، أي يعلم كل شيء ما خفى وما ظهر، ما أسرته القلوب، وما جهرت به الألسنة، وحكيم يضع الأمور في موضعها، ويقدر فيكمل تقديره، وقد أتى بالجملة السامية مؤكدة بالتصدير بلفظ الجلالة، وكونها جملة اسمية، وبالصيغ الدالة على كمال الوصف بالعلم والحكمة.

بعد أن بين أوصاف المنافقين، وأحوالهم وأعمالهم وأقوالهم ابتدأ بذكر المؤمنين.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ} على أساس من الاهتزاز في الفكر والموقف {رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} يثير الشك ويقود إلى التزلزل، فيطبع كل مشاعرها ونبضاتها بطابعه، حتى يتحوّل إلى ما يشبه الخصوصيات الذاتية التي لا تزول إلا أن تزول الذات نفسها، فتبقى ما بقيت الذات {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} وتتلاشى وتموت، فيتلاشى الشك بزوال قاعدته وموضعه {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} في ما يمنح من رضوانه، وفي ما يمنع من غفرانه...

وتلك هي القصة التي يريد الله للإنسان أن يعيشها في كل مواقفه في الحياة، لينطلق الموقف من القاعدة الثابتة في العقيدة والشعور والإرادة، ليتحرك الفرع الأخضر من الجذور الضاربة في أعماق الأرض المتحركة بالخصب والحياة، فلا حركة إلا من فكرة، ولا فكرة إلا من قاعدة. وكلما اقترب الإنسان من الله، كلما كانت حساباته دقيقةً في كل شيء، لأنه الأساس في كل خيرٍ وحقّ وثبات، ولا فرق في ذلك بين حالةٍ فكريةٍ أو سياسيّةٍ أو اجتماعية أو غير ذلك مما تعارف الناس أن يدفعوا حياتهم نحوه...

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

1 ـ درس كبير:

إنّ قصّة مسجد الضرار درس لكل المسلمين من جميع الجهات، فإنّ قول الله سبحانه وعمل النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوضحان تماماً بأنّ المسلمين يجب أن لا يكونوا سطحيين في الرؤية مطلقاً، وأن لا يكتفوا بالنظر إِلى الجوانب التي تصطبغ بصبغة الحق، ويغفلون عن الأهداف الأصلية المراد تحقيقها، والمستترة بهذا الظاهر البراق.

المسلم هو الذي يعرف المنافق وأساليب النفاق في كل زمان، وفي كل مكان، وبأي لباس تلبس، وبأي صورة يظهر بها، حتى ولو كانت صورة الدين والمذهب، أو لباس مناصرة الحق والقرآن والمساجد.

إنّ الاستفادة من مذهب ضد مذهب آخر ليس شيئاً جديداً، بل هو طريق الاستعمار وأُسلوبه على الدوام، فإنّ وسيلة الجبارين والمنافقين وأُسلوبهم في العمل هو الوقوف على رغبة الناس في مسألة ما، واستغلال تلك الرغبة في سبيل إغفالهم وبالتالي استعمارهم، ويستعينون بقدرات مذهب ما في ضرب وهدم مذهب آخر إن استدعى الأمر ذلك.

وأساساً فإنّ جعل الأنبياء المزورين والمذاهب الباطلة، هو تحوير الميول المذهبية للناس عن هذا الطريق وصبّها في القنوات التي يريدونها ويديرونها.

ومن البديهي أنّ محاربة الإِسلام بصورة علنية في محيط كمحيط المدينة، وذلك في عصر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومع ذلك النفوذ الخارق للإِسلام والقرآن، أمر غير ممكن، بل يجب إلباس الكفر لباس الدين، وتغليف الباطل بغلاف الحق لجذب البسطاء والسذج من الناس.

إلاّ أنّ المسلم الحقيقي ليس سطحياً إِلى تلك الدرجة بحيث يخدع بهذه الظواهر، بل إنّه يدقق في العوامل والأيادي التي وضعت هذه البرامج، ويحقق القرائن الأُخرى التي لها علاقة بالبرامج وماهيتها، وبذلك سيرى الصورة الباطنية للأفراد المختبئة خلف الصورة الظاهرية.

المسلم ليس بذلك الفرد الذي يقبل كل دعوة تصدر من أي فم بمجرّد موافقتها الظاهرية للحق، ويلبي تلك الدعوة.

المسلم ليس ذلك الشخص الذي يصافح كل يد تمد إِليه، ويؤيد ويدعم كل حركة يشاهدها بمجرّد رفعها شعاراً دينياً، أو يتعهد بالانضمام تحت أي لواء يرفع باسم المذاهب والدين، أو ينجذب إِلى كل بناء يشيد باسم الدين.

المسلم يجب أن يكون حذراً، واعياً، واقعياً، بعيد النظر، ومن أهل التحليل والتحقيق في كل المسائل الاجتماعية.

المسلم يعرف المتمردين العصاة في لباس الملائكة والوداعة، ويميز الذئاب المتلبسة بلباس الحراس والرعاة، ويُعد نفسه لمحاربة الأعداء الظاهرين بصورة الأصدقاء.

هناك قاعدة أساسية في الإِسلام، وهي أنّه يجب معرفة النيات قبل كل شيء، وأنّ قيمة كل عمل ترتبط بنيّته، لا بظاهره، فبالرغم من أنّ النية أمر باطني، إلاّ أن أحداً لا يمكنه إضمار نيّته دون أن يظهر أثرها على جوانب عمله وفلتاته، حتى ولو كان ماهراً ومقتدراً في اخفائها.

ومن هذا سيتّضح الجواب عن هذا السؤال، وهو: لماذا أصدر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمراً بحرق المسجد الذي هو بيت الله، ويأمر بهدم المسجد الذي لا يجوز شرعاً إِخراج حصاة واحدة من حصاه، ويجعل المكان الذي يجب تطهيره فوراً إِذا ما تنجس محلا لجمع الفضلات والقاذورات!!

وجواب كل هذه الأسئلة موضوع واحد، وهو أنّ مسجد الضرار لم يكن مسجداً بل معبداً للأصنام... لم يكن مكاناً مقدساً، بل مقراً للفرقة والنفاق... لم يكن بيت الله، بل بيت الشيطان... ولا يمكن أن تبدل الأسماء والعناوين والأقنعة من واقع الأشياء شيئاً مطلقاً.

كان هذا هو الدرس الكبير الذي أعطته قصّة مسجد الضرار لكل المسلمين، وفي كل الأزمنة والأعصار.

وتتّضح من هذا البحث ـ أيضاً ـ أهمية الوحدة بين صفوف المسلمين من وجهة نظر الإسلام، والتي تبلغ حداً بحيث إِذا كان بناء مسجد جنب مسجد يؤدي إِلى التفرقة والاختلاف بين صفوف المسلمين فلا قدسية لذلك المسجد إطلاقاً.

ـ النفي لا يكفي لوحده!

الدرس الثّاني الذي يمكن أخذه من هذه الآيات، هو أنّ الله سبحانه وتعالى أمر نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الآيات أن لا يصلي في مسجد الضرار، بل يصلي في المسجد التي وضعت قواعده وأُسسه على أساس التقوى.

إِنّ النفي والإِثبات يتجلى في الإِسلام من شعاره الأصلي (لا إِله إلاّ الله) إِلى أُموره الصغيرة والكبيرة الأُخرى، يبيّن هذه الحقيقة، وهي ضرورة وجود الإثبات إِلى جانب النفي دائماً على أرض الواقع العملي، فإنّا إِذا نهينا الناس عن الذهاب إِلى مراكز الفساد، فيجب أن نبني ونوفر لهم بالمقابل المراكز النقية الصالحة لإشباع روح الحياة الجماعية في الفرد وإرضائها... إِذا منعنا وسائل اللهو المنحرفة، فيجب توفير وسائل لهو سالمة وهادفة... إِذا حاربنا الثقافة الاستعمارية، فيجب أن نهيئ الثقافة الصحيحة والمراكز السليمة والمدارس الصالحة للتربية والتعليم... إِذا شجبنا الانحلال الخلقي والسقوط الاجتماعي، فيجب أن نوفر وسائل الزواج البسيطة ونضعها تحت تصرف الشباب.

الأشخاص الذين صبّوا كل اهتماماتهم في جانب النفي، دون الاهتمام بالجانب الإِيجابي والإِثباتي، عليهم أن يتيقنوا بأن نفيهم لوحده لا يثمر شيئاً، لأنّ سنّة الحياة أن تشبع كل الغرائز والأحاسيس عن الطريق الصحيح، ولأنّ قانون الإِسلام المسلّم به أن كل (لا) يجب أن تصحبها (إلا) ليتولد منها التوحيد الذي يهب الحياة.

وهذا هو الدرس الذي نساه الكثير من المسلمين مع الأسف رغم تقصيرهم هذا يشكون من عدم تقدم وتطور البرامج الإسلامية! هذا في الوقت الذي لا ينحصر برنامج الإسلام بالنفي كما يتخيل هؤلاء، فإنهم إذا قرنوا النفي بالإِثبات فإنّ تقدمهم سيكون حتمياً.

ـ شرطان أساسيان

الدرس القيم الثّالث الذي يمكن استنباطه من الآيات محل البحث هو أن المقر والمركز النشط والإِيجابي دينياً واجتماعيا، هو الذي يتشكل من عنصرين.

الأوّل: أن يكون الأساس الذي يستند إِليه، والهدف الذي يطمح إِلى تحقيقه، طاهرين من البداية: (أسس على التقوى من أول يوم).

الثّاني: أن يكون رواد هذا المركز وحماته أناساً طاهرين ومخلصين ومؤمنين: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا).

إِنّ فقدان أحد هذين الركنين الأساسيين يعني انهيار البناء وعدم وصوله إِلى الهدف المنشود.