وبعد هذا التعديد لتلك النعم العظيمة ، أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد فى العبادة فقال - تعالى - : { فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب وإلى رَبِّكَ فارغب } .
وأصل الفراغ خول الإِناء مما بداخله من طعام أو غيره ، والمراد به هنا الخلو من الأعمال التى تشغل الإِنسان ، والنصب : التعب والاجتهاد فى تحصيل المطلوب .
أى : فإذا فرغت - أيها الرسول الكريم - من عمل من الأعمال ، فاجتهد فى مزاولة عمل آخر من الأعمال التى تقربك من الله - تعالى - ، كالصلاة ، والتهجد ، وقراءة القرآن الكريم .
واجعل رغبتك فى جميع أعمالك وعباداتك ، من أجل إرضاء ربك ، لا من أجل شيء آخر ، فهو وحده القادر على إبلاغك ما تريد ، وتحقيق آمالك .
فالمقصود بهاتين الآيتين حثه صلى الله عليه وسلم وحث أتباعه فى شخصه على استدامة العمل الصالح ، وعدم الانقطاع عنه ، مع إخلاص النية لله - تعالى - فإن المواظبة على الأعمال الصالحة مع الإخلاص فيها ، تؤدى إلى السعادة التى ليس بعدها سعادة .
ولقد استجاب صلى الله عليه وسلم لهذا الإِرشاد الحكيم ، " فقد قام الليل حتى تورمت قدماه ، وعندما سئل ما كل هذه العبادة ، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك ؟ قال : " أفلا أكون عبدا شكورا " .
وسار أصحابه من بعده على هذا الهدى القويم : فعمروا حياتهم بالباقيات الصالحات من الأعمال ، دون أن يكون للفراغ السيء مكان فى حياتهم ، بل واصلوا الجهاد بالجهاد ، وأعمال البر بمثلها .
ومن أقوال عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - : إنى لأكره لأحدكم أن يكون خاليا ، لا فى عمل دنيا ولا دين " .
وفى رواية أنه قال : " إنى لأنظر إلى الرجل فيعجبني ، فإذا قيل : إنه لا عمل له سقط من عينى " .
نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا جميعا ممن يعمرون أوقاتهم بالأعمال الصالحة ، والخالصة لوجهه الكريم .
تفريع على ما تقرر من التذكير باللطف والعناية ووعده وبتيسير ما هو عسير عليه في طاعته التي أعظمها تبليغ الرسالة دون مَلَل ولا ضجر .
والفراغ : خلو باطن الظرف أو الإِناء لأن شأنه أن يظرف فيه .
وفعل فرغ يفيد أن فاعله كان مملوءاً بشيء ، وفراغ الإِنسان . مجاز في إتمامه ما شأنه أن يعمله .
ولم يذكر هنا متعلق { فرغت } وسياق الكلام يقتضي أنه لازم أعمال يعلمها الرسول صلى الله عليه وسلم كما أن مساق السورة في تيسير مصاعب الدعوة وما يحف بها . فالمعنى إذا أتممت عملاً من مهام الأعمال فأقبل على عمل آخر بحيث يعمر أوقاته كلها بالأعمال العظيمة . ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قفوله من إحدى غزواته : « رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر » فالمقصود بالأمر هو { فانصب } . وأما قوله : { فإذا فرغت } فتمهيد وإفادة لإِيلاءِ العمل بعملٍ آخر في تقرير الدين ونفع الأمة . وهذا من صيغ الدلالة على تعاقب الأعمال . ومثله قول القائل : ما تأتيني من فلان صلة إلا أعقبْتها أخرى .
واختلفت أقوال المفسرين من السلف في تعيين المفروغ منه ، وإنما هو اختلاف في الأمثلة فحذفُ المتعلِق هنا لقصد العموم وهو عموم عرفي لنوع من الأعمال التي دل عليها السياق ليشمل كل متعلق عمله مما هو مهم كما علمت وهو أعلم بتقديم بعض الأعمال على بعض إذا لم يمكن اجتماع كثير منها بقدر الإِمكان كما أقر الله بأداء الصلاة مع الشغل بالجهاد بقوله : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك } إلى قوله : { كتاباً موقوتاً } في سورة النساء ( 102 ، 103 ) .
وهذا الحكم ينسحب على كل عمل ممكن من أعماله الخاصة به مثل قيام الليل والجهاد عند تقوي المسلمين وتدبير أمور الأمة .
وتقديم { فإذا فرغت } على { فانصب } للاهتمام بتعليق العمل بوقت الفراغ من غيره لتتعاقب الأعمال . وهذه الآية من جوامع الكلم القرآنية لما احتوت عليه من كثرة المعاني .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.