ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ألوانا من نعمه على عباده ، وكلها تدل على وحدانيته وكمال قدرته فقال - تعالى - : { وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ } .
أى : وهو - سبحانه - الذى ينزل المطر على عباده ، من بعد أن انتظروه فترة طويلة حتى ظهرت على ملامحهم علامات اليأس ، وبدأت على وجوههم أمارات القنوط .
وقوله - تعالى - : { وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ } معطوف على { يُنَزِّلُ } . أى : ينزل الأمطار بعد يأس الناس من نزولها ، وينشر رحمته عليهم عن طريق ما ينتج عن هذه الأمطار من خيرات وبركات وأرزاق .
{ وَهُوَ } - سبحانه - { الولي } أى : الذى يتولى عباده برحمته وإحسانه { الحميد } أى : المحمود على فعله ، حيث أنزل على عباده الغيث بعد أن ينسوا منه ، والمتأمل فى هذه الآية الكريمة يراها تصور جانبا من فضل الله على عباده بطريقة محسوسة ، فالتعبير بالغيب يشعر بالغوث والنجدة بعد أن فقد الناس الأمل فى ذلك ، والتعبير بالقنوط .
يشعر بأن آثار الضيق قد ظهرت على وجوههم ، والتعبير بقوله - تعالى - { وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ } ، يشعر بانتشار الرجاء والفرح والانشراح على الوجوه بعد أن حل بها القنوط .
والتعبير بقوله - تعالى - : { وَهُوَ الولي الحميد } يشعر بقرب الله - تعالى - من عباده ، وبوجوب شركه على ما أعطى بعد المنع ، وعلى ما فرج بعد الضيق .
{ وهو الذي ينزل الغيث } المطر الذي يغيثهم من الجدب ولذلك خص بالنافع ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم " ينزل " بالتشديد . { من بعد ما قنطوا } أيسوا منه ، وقرئ بكسر النون . { وينشر رحمته } في كل شيء من السهل والجبل والنبات والحيوان . { وهو الولي } الذي يتولى عباده بإحسانه ونشر رحمته . { الحميد } المستحق للحمد على ذلك .
عطف على جملة { ولكن ينزل بقدر ما يشاء } [ الشورى : 27 ] فإن الغيث سبب رزق عظيم وهو ما ينزله الله بقدر هوَ أعلم به ، وفيه تذكير بهذه النعمة العظيمة على الناس التي منها معظم رزقهم الحقيقي لهم ولأنعامهم . وخصها بالذكر دون غيرها من النعم الدنيوية لأنها نعمة لا يختلف الناس فيها لأنها أصل دوام الحياة بإيجاد الغذاء الصالح للناس والدواب ، وبهذا يظهر وقع قوله : { ومن آياته خَلق السموات والأرض وما بث فيهما من دابة } [ الشورى : 29 ] عقب قوله هنا { وهو الذي ينزل الغيث } .
واختيار المضارع في { ينزل } لإفادة تكرر التنزيل وتجديده . والتعبير بالماضي في قوله : { من بعد ما قنطوا } للإشارة إلى حصول القنوط وتقرره بمضي زمان عليه .
والغيث : المطر الآتي بعد الجفاف ، سمي غيْثاً بالمصدر لأن به غيث الناس المضطرين ، وتقدم عنه قوله { فيه يغاث الناس } في سورة يوسف ( 49 ) .
والقنوط : اليأس ، وتقدم عند قوله تعالى : { فلا تكن من القانطين } في سورة الحجر ( 55 ) . والمراد : من بعدما قنطوا من الغيث بانقطاع إمارات الغيث المعتادة وضيق الوقت عن الزرع .
وصيغة القصر في قوله : { وهو الذي ينزل الغيث } تفيد قصر القلب لأن في السامعين مشركين يظنون نزول الغيث من تصرف الكواكب وفيهم المسلمون الغافلون ، نزلوا منزلة من يظن نزول الغيث مَنُوطاً بالأسباب المعتادة لنزول الغيث لأنهم كانوا في الجاهلية يعتقدون أن المطر من تصرف أنواء الكواكب .
وفي حديث زيد بن خالد الجُهني قال : « خطبنا رسول الله على إثْر سماء كانت من الليل فقال : أتدرون ماذا قال ربكم ؟ قال ، قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال : مُطرنا بنَوْء كذا ونَوْء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب » . فهذا القصر بالنسبة للمشركين قصر قلب أصْلي وهو بالنسبة للمسلمين قصر قلب تنزيلي .
والنشر : ضد الطَّيّ ، وتقدم عند قوله تعالى : { يلقاه منشوراً } في سورة الإسراء ( 13 ) . واستعير هنا للتوسيع والامتداد . والرحمةُ هنا : رحمته بالماء ، وقيل : بالشمس بعد المطر . وضمير { من بعد ما قنطوا } عائد إلى { عباده من قوله : { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } [ الشورى : 25 ] .
وقد قيل : إن الآية نزلت بسبب رفع القحط عن قريش بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم بهم بذلك بعد أن دام عليهم القحط سبع سنين أكلوا فيها الجِيَف والعِظامَ وهو المشار إليه بقوله في سورة الدخان ( 15 ) { إنَّا كاشِفُوا العذاب قليلاً إنكم عائدون } في « الصحيح » عن عبد الله بن مسعود " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا قريشاً كذّبوه واستعصوا عليه فقال : اللهم أعنّي عليهم بسبع كسبع يوسف . فأتاه أبو سفيان فقال : يا محمد إن قومك قد هلكوا فادعُ الله أن يكشف عنهم فدعا . ثم قال : تعودون بعد " .
وقد كان هذا في المدينة ويؤيده ما روي أن هذه الآية نزلت في استسقاء النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله الأعرابي وهو في خطبة الجمعة . وفي رواية أن الذي كلمه هو كعب بن مرة وفي بعض الروايات في « الصحيح » أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اللهم عليك بقريش اللهم اشدُدْ وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف . وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وأبو جعفر { ينزِّل } بفتح النون وتشديد الزاي . وقرأه الباقون بسكون النون وتخفيف الزاي .
وذكر صفتي { الولي الحميد } دون غيرهما لمناسبتهما للإغاثة لأن الوليَّ يحسن إلى مواليه والحميد يعطي ما يُحمد عليه . ووصف حميد فعيل بمعنى مفعول . وذكر المهدوي تفسير { ينشر رحمته } بطلوع الشمس بعد المطر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.