9- قل - أيها الرسول - لهؤلاء المشركين : عجباً لكم ، تكفرون بالله الذي خلق الأرض في يومين ، وأنتم - مع هذا - تجعلون له شركاء متساوين معه ، ذلك الخالق للأرض مالك العوالم كلها ومربيهم{[200]} .
ثم أمر الله - تعالى - صلى الله عليه وسلم - أن يوبخ هؤلاء المشركين على إصرارهم على كفرهم ، مع أن مظاهر قدرة الله - تعالى - الماثلة أمام أعينهم تدعوهم إلى الإِيمان ، فقال - تعالى - :
{ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ . . . } .
قال الإِمام الرازى ما ملخصه : اعلم أنه - تعالى - لما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس : { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ . . . } أردفه بما يدل على أنه لا يجوز إثبات الشركة بينه - تعالى - وبين هذه الأصنام فى الإِلهية والمعبودية ، وذلك بأن بين كمال قدرته وحكمته فى خلق السموت والأرض فى مدة قليلة . . والاستفهام فى قوله { أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ . . . } بمعنى الإِنكار ، وهو لإِنكار شيئين : الكفر بالله . . وجعل الأنداد له .
والمعنى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المشركين على سبيل الإِنكار لأفعالهم : أئنكم لتكفرون بالله - تعالى - الذى خلق الأرض فى يومين .
قال الآلوسى : وإن واللام فى قوله { أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ } لتأكيد الإِنكار . . وعلق - سبحانه - كفرهم بالاسم الموصول لتفخيم شأنه - تعالى - واستعظام كفرهم به .
واليوم فى المشهور عبارة عن زمان كون الشمس فوق الأفق ، وأريد منه ها هنا الوقت مطلقا ، لأنه لا يتصور ذلك قبل خلق السماء والكواكب والأرض نفسها ، ثم إن ذلك الوقت يحتمل أن يكون بمقدار اليوم المعروف ، ويحتمل أن يكون أقل منه أو أكثر ، والأقل أنسب بالمقام .
قال سعيد بن جبير - رضى الله عنه - إن الله - تعالى - قادر على أن يخلق هذا الكون كله فى لحظة ، ولكنه خلق السموات والأرض فى ستة أيام ، ليعلم خلقه التثبت والتأنى فى الأمور .
وقوله : { وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً } معطوف على قوله { تكفرون } وداخل معه فى حكم الإِنكار .
والأنداد : جمع ند وهو مثل الشئ يضاده وينافره ويتباعد عنه . وأصله من ند البعير إذا نفر وذهب على وجهه شاردا .
أى : وتجعلون له امثالا ونظراء تعبدونها من دونه ، وتسمونها - زورا وكذبا - آلهة ، وجمع - سبحانه - الأنداد باعتبار واقعهم ، لأنهم كانوا يعبدون آلهة شتى ، فمنهم من عبد الأصنام ، ومنهم من عبد الملائكة ، ومنهم من عبد الكواكب .
واسم الإِشارة فى قوله { ذَلِكَ رَبُّ العالمين } يعود إلى الموصول باعتبار اتصافه بما فى حيز الصلة .
أى : ذلك الموصوف بتلك القدرة الباهرة ، رب العالمين جميعا ، وخالق جميع المخلوقات ، والمتولى لتربيتها دون سواه .
هذا إنكار من الله على المشركين الذين عبدوا معه غيره ، وهو الخالق لكل شيء ، القاهر لكل شيء ، المقدر لكل شيء ، فقال : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا } أي : نظراء وأمثالا تعبدونها{[25630]} معه { ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ } أي : الخالق للأشياء هو رب العالمين كلهم .
وهذا المكان فيه تفصيل لقوله تعالى : { خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } [ الأعراف : 54 ] ، ففصل هاهنا ما يختص بالأرض مما اختص بالسماء ، فذكر أنه خلق الأرض أولا لأنها كالأساس ، والأصل أن يُبْدَأَ بالأساس ، ثم بعده بالسقف ، كما قال : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ } الآية [ البقرة : 29 ] ، .
فأما قوله : { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ } [ النازعات : 27 - 33 ] ففي هذه الآية أن دَحْيَ الأرض كان بعد خلق السماء{[25631]} ، فالدَّحْيُ هو مفسر بقوله : { أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا } ، وكان هذا بعد خلق السماء ، فأما خلق الأرض فقبل خلق السماء بالنص ، وبهذا أجاب ابن عباس فيما ذكره البخاري عند تفسير هذه الآية من صحيحه ، فإنه قال :
وقال المنهال ، عن سعيد بن جبير قال : قال رجل لابن عباس : إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ قال : { فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] ، { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ } [ الصافات : 27 ] ، { وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } [ النساء : 42 ] ، { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ، فقد كتموا في هذه الآية ؟ وقال : { أَمِ السَّمَاءُ {[25632]} بَنَاهَا } إلى قوله : { دَحَاهَا } [ النازعات : 27 - 30 ] ، فذكر خلق السماء قبل [ خلق ]{[25633]} الأرض ثم قال : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } إلى قوله : { طَائِعِينَ } فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء ؟ وقال : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [ النساء : 96 ] ، { عَزِيزًا حَكِيمًا } [ النساء : 56 ] ، { سَمِيعًا بَصِيرًا } [ النساء : 58 ] ، فكأنه كان ثم مضى .
قال - يعني ابن عباس - : { فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } في النفخة الأولى ، ثم ينفخ في الصور ، { فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } [ الزمر : 68 ] ، فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون ، ثم في النفخة الأخرى { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ }
وأما قوله : { مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } { وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } ، فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فقال المشركون : تعالوا نقول : " لم نكن مشركين " ، فيختم على أفواههم ، فتنطق أيديهم ، فعند ذلك يعرف {[25634]} أن الله لا يكتم حديثا ، وعنده { يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا } الآية [ الحجر : 2 ] .
وخلق الأرض في يومين ، ثم خلق السماء ، ثم استوى إلى السماء ، فسواهن في يومين آخرين ، ثم دَحَى الأرض ، ودَحْيُها : أن أخرج منها الماء والمرعى ، وخلق الجبال والجماد والآكام وما بينهما في يومين آخرين ، فذلك قوله : { دَحَاهَا } وقوله { خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } فَخُلِقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام ، وخلقت السماوات في يومين .
{ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } [ النساء : 96 ] ، سمى نفسه بذلك ، وذلك قوله ، أي : لم يزل كذلك ؛ فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد ، فلا يختلفن عليك القرآن ، فإن كلا من عند الله عز وجل .
قال البخاري : حدثنيه يوسف بن عدي ، حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن زيد بن أبي أُنَيْسَة {[25635]} ، عن المنهال - هو ابن عمرو - بالحديث{[25636]} .
فقوله : { خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ } يعني : يوم الأحد ويوم الاثنين .
وقد تقدم القول غير مرة في نظير قوله : { أئنكم } .
واختلف رواة الحديث في اليوم الذي ابتدأ الله تعالى فيه خلق الأرض ، فروي عن ابن عباس وغيره : أن أول يوم هو الأحد ، وأن الله تعالى خلق فيه وفي الاثنين : الأرض ، ثم خلق الجبال ونحوها يوم الثلاثاء . قال ابن عباس فمن هنا قيل : هو يوم ثقيل . ثم خلق الشجر والثمار والأنهار يوم الأربعاء ، ومن هنا قيل : هو يوم راحة وتفكر في هذه التي خلقت فيه . ثم خلق السماوات وما فيها يوم الخميس ويوم الجمعة ، وفي آخر ساعة من يوم الجمعة : خلق آدم . وقال السدي : وسمي يوم الجمعة لاجتماع المخلوقات فيه وتكاملها ، فهذه رواية فيها أحاديث مشهورة . ولما لم يخلق تعالى في يوم السبت شيئاً امتنع فيه بنو إسرائيل عن الشغل . ووقع في كتاب مسلم بن الحجاج : أن أول يوم خلق الله فيه التربة يوم السبت ، ثم رتب المخلوقات على ستة أيام ، وجعل الجمعة عارياً من المخلوقات على ستة أيام إلا من آدم وحده . والظاهر من القصص في طينة آدم أن الجمعة التي خلق فيها آدم قد تقدمتها أيام وجمع كثيرة ، وأن هذه الأيام التي خلق الله فيها هذه المخلوقات هي أول الأيام ، لأن بإيجاد الأرض والسماء والشمس وجد اليوم ، وقد يحتمل أن يجعل تعالى قوله : { يومين } على التقدير ، وإن لم تكن الشمس خلقت بعد ، وكأن تفصيل الوقت يعطي أنها الأحد ويوم الاثنين كما ذكر . والأنداد : الأشباه والأمثال ، وهذه إشارة إلى كل ما عبد من الملائكة والأصنام وغير ذلك . قال السدي : أكفاء من الرجال تطيعونهم .