يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يترك التزمل ، وهو : التغطي في الليل ، وينهض إلى القيام لربه عز وجل ، كما قال تعالى : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ السجدة : 16 ] وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ممتثلا ما أمره الله تعالى به من قيام الليل ، وقد كان واجبًا عليه وحده ، كما قال تعالى : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } [ الإسراء : 79 ] وهاهنا بين له مقدار ما يقوم ، فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا } ء
قال ابن عباس ، والضحاك ، والسدي : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } يعني : يا أيها النائم . وقال قتادة : المزمل في ثيابه ، وقال إبراهيم النخعي : نزلت وهو متزمل بقطيفة .
وقال شبيب بن بِشر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } قال : يا محمد ، زُمّلتَ القرآن .
واختلف الناس في هذا الأمر بقيام الليل كيف كان ؟ فقال جمهور أهل العلم : هو أمر على جهة الندب مذ كان لم يفرض قط ، ويؤيد هذا : الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة في رمضان خلف حصير احتجره فصلى وصلى بصلاته ناس ثم كثروا من الليلة القابلة ثم غص المسجد بهم في الثالثة أو الرابعة فلم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فحصبوا بابه فخرج مغضباً وقال : «إني إنما تركت الخروج لأني خفت أن يفرض عليكم » . وقيل إنه لم يكلمهم إلا بعد الصبح{[11387]} . وقال آخرون : كان فرضاً في وقت نزول هذه الآية . واختلف هؤلاء فقال بعضهم : كان فرضاً على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، وبقي كذلك حتى توفي عليه السلام ، وقيل : بل نسخ عنه ولم يمت إلا والقيام تطوع ، وقال بعضهم : كان فرضاً على الجميع ودام الأمر على ما قال سعيد بن جبير عشر سنين ، وقالت عائشة وابن عباس دام عاماً ، وروي عنها أيضاً ثمانية أشهر ثم رحمهم الله تعالى . فنزلت : { إن ربك يعلم أنك تقوم } [ المزمل : 20 ] فخفف عنهم . وقال قتادة بقي عاماً أو عامين . وقرأ أبو السمال «قمُ الليل » بضم الميم لاجتماع الساكنين ، والكسر في كلام العرب أكثر كما قرأ الناس .
وفعل { قم } مُنزل منزلة اللازم فلا يحتاج إلى تقدير متعلق لأن القيام مراد به الصلاة ، فهذا قيام مغاير للقيام المأمور به في سورة المدثر بقوله { قم فأنذر } [ المدثر : 2 ] فإن ذلك بمعنى الشروع كما يأتي هنالك .
و { الليل } : زمن الظلمة من بعد العشاء إلى الفجر . وانتصب { الليل } على الظرفية فاقتضى الأمر بالصلاة في جميع وقت الليل ، ويعلم استثناء أوقات قضاء الضرورات من إغفاء بالنوم ونحوه من ضرورات الإِنسان .
وقيام الليل لقب في اصطلاح القرآن والسنة للصلاة فيه ما عدا صلاتي المغرب والعشاء ورواتبهما .
وأمْر الرسول بقيام الليل أمْر إيجاب وهو خاص به لأن الخطاب موجه إليه وحده مثل السور التي سبقت نزولَ هذه السورة ، وأما قيام الليل للمسلمين فهم اقتدوا فيه بالرسول صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في قوله تعالى : { إن ربك يعلم أنك تقوم } إلى قوله : { وطائفة من الذين معك } [ المزمل : 20 ] الآيات قال الجمهور وذلك قبل أن تفرض الصلوات الخمس في أوقات النهار والليل ولعل حكمة هذا القيام الذي فرض على الرسول صلى الله عليه وسلم في صدر رسالته هو أن تزداد به سريرته زكاء يقوي استعداده لتلقي الوحي حتى لا يحرجه الوحي كما ضغطه عند نزوله كما ورد في حديث البخاري : " فغطني حتى بلغ مني الجَهد " ثم قال : { اقرأ باسم ربّك } [ العلق : 1 ] الحديث ، ويدل لهذه الحكمة قوله تعالى عقبه : { إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً } [ المزمل : 5 ] .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء قبيل بعثته بإلهام من الله تعالى ، فالذي ألهمه ذلك قبل أن يوحي إليه يجدر بأن يأمره به بعد أن أوحى إليه فلا يبقى فترة من الزمن غير متعبد لعبادة ، ولهذا نرجح أن قيام الليل فرض عليه قبل فرض الصلوات الخمس عليه وعلى الأمة .
وقد استمر وجوب قيام الليل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فرض الصلوات الخمس تعظيماً لشأنه بكثرة الإِقبال على مناجاة ربه في وقت فراغه من تبليغ الوحي وتدبير شؤون المسلمين وهو وقت الليل كما يدل عليه قوله تعالى : { ومن الليل فتهجّد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً } ، أي زيادة قرب لك وقد تقدم في سورة [ الإسراء : 79 ] . فكان هذا حكماً خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكره الفقهاء في باب خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن واجباً على غيره ولم تفرض على المسلمين صلاة قبل الصلوات الخمس . وإنما كان المسلمون يقتدون بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرّهم على ذلك فكانوا يرونه لِزاماً عليهم ، وقد أثنى الله عليهم بذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى : { تتجافى جنوبُهم عن المضاجع } [ السجدة : 16 ] ، وسيأتي ذلك عند قوله تعالى : { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل } [ المزمل : 20 ] الآية ، قالت عائشة : « إن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام النبي وأصحابه » ، على أنه لا خلاف في رفع فرض القيام عن المسلمين . وتقرر أنه مندوب فيه . واختلف في استمرار وجوبه على النبي صلى الله عليه وسلم ولا طائل وراء الاستدلال على ذلك أو عدمه .
وقوله : { إلاّ قليلاً } استثناء من { الليل } أي إلاّ قليلاً منه ، فلم يتعلق إيجاب القيام عليه بأوقات الليل كلها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: قم الليل يا محمد كله إلا قليلاً منه،
"أو انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أوْ زِدْ عَلَيْهِ": أو زد عليه، خَيّره الله تعالى ذكره حين فرض عليه قيام الليل بين هذه المنازل أيّ ذلك شاء فعل. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه -فيما ذُكر- يقومون الليل، نحو قيامهم في شهر رمضان حتى خفف ذلك عنهم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يا مَنْ جعلنا الليل ليسكن فيه كلُّ الناس.. قُمْ أنت؛ فليسكنْ الكلُّ.. ولْتَقُمْ.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قم} أي في خدمتنا بحمل أعباء نبوتنا والازدمال بالاجتهاد في الاحتمال، واترك التزمل فإنه مناف للقيام.
ولما كان الاجتهاد في الخدمة دالاًّ على غاية المحبة، وكانت النية خيراً من العمل، وكان الإنسان مجبولاً على الضعف، وكان سبحانه لطيفاً بهذه الأمة تشريفاً لإمامها صلى الله عليه وسلم، رضى منا سبحانه بصدق التوجه إلى العمل وجعل أجورنا أكثر من أعمالنا، فجعل إحياء البعض إحياء للكل، فأطلق اسم الكل وأراد البعض فقال: {الليل} أي الذي هو وقت الخلوة والخفية والستر، فصل لنا في كل ليلة من هذا الجنس وقف بين يدينا بالمناجاة والأنس بما أنزلنا عليك من كلامنا فإنا نريد إظهارك وإعلاء قدرك في البر والبحر والسر والجهر، وقيام الليل في الشرع معناه الصلاة فلذا لم يقيده، وهي جامعة لأنواع الأعمال الظاهرة والباطنة، وهي عمادها، فذكرها دال على ما عداها.
ولما كان للبدن حظ في الراحة قال مستثنياً من الليل: {إلا قليلاً} أي من كل ليلة، ونودي هذا النداء لأنه صلى الله عليه وسلم " لما جاءه الوحي بغار حراء رجع إلى خديجة زوجته رضي الله تعالى عنها يرجف فؤاده فقال: " زملوني زملوني"...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(يا أيها المزمل. قم الليل إلا قليلا. نصفه أو انقص منه قليلا، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا. إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا. إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا. إن لك في النهار سبحا طويلا، واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا. رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا)..
(يا أيها المزمل.. قم..).. إنها دعوة السماء، وصوت الكبير المتعال.. قم.. قم للأمر العظيم الذي ينتظرك، والعبء الثقيل المهيأ لك. قم للجهد والنصب والكد والتعب. قم فقد مضى وقت النوم والراحة.. قم فتهيأ لهذا الأمر واستعد..
وإنها لكلمة عظيمة رهيبة تنتزعه [صلى الله عليه وسلم] من دفء الفراش، في البيت الهادئ والحضن الدافئ. لتدفع به في الخضم، بين الزعازع والأنواء، وبين الشد والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء.
إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحا، ولكنه يعيش صغيرا ويموت صغيرا. فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير.. فماله والنوم؟ وماله والراحة؟ وماله والفراش الدافئ، والعيش الهادئ؟ والمتاع المريح؟! ولقد عرف رسول الله [صلى الله عليه وسلم] حقيقة الأمر وقدره، فقال لخديجة -رضي الله عنها- وهي تدعوه أن يطمئن وينام: " مضى عهد النوم يا خديجة "! أجل مضى عهد النوم وما عاد منذ اليوم إلا السهر والتعب والجهاد الطويل الشاق!
(يا أيها المزمل. قم الليل إلا قليلا. نصفه أو انقص منه قليلا. أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا)..
إنه الإعداد للمهمة الكبرى بوسائل الإعداد الإلهية المضمونة.. قيام الليل. أكثره أكثر من نصف الليل ودون ثلثيه. وأقله ثلث الليل.. قيامه للصلاة وترتيل القرآن. وهو مد الصوت به وتجويده. بلا تغن ولا تطر ولا تخلع في التنغيم.
وقد صح عن وتر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بالليل أنه لم يتجاوز إحدى عشرة ركعة. ولكنه كان يقضي في هذه الركعات ثلثي الليل إلا قليلا، يرتل فيه القرآن ترتيلا.
روى الإمام أحمد في مسنده قال: حدثنا يحيى بن سعيد -هو ابن أبي عروبة- عن قتادة، عن زرارة ابن أوفى، عن سعيد بن هشام.. أنه أتى ابن عباس فسأله عن الوتر فقال: ألا أنبئك بأعلم أهل الأرض بوتر رسول الله [صلى الله عليه وسلم]؟ قال: نعم. قال: ائت عائشة فسلها، ثم ارجع إلي فأخبرني بردها عليك... ثم يقول سعيد بن هشام: قلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قالت: فإن خلق رسول الله [صلى الله عليه وسلم] كان القرآن. فهممت أن أقوم، ثم بدا لي قيام رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قلت: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن قيام رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قالت: ألست تقرأ هذه السورة: (يا أيها المزمل)؟ قلت: بلى. قالت: فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة؛ فقام رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم. وأمسك الله ختامها في السماء اثني عشر شهرا. ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوعا من بعد فريضة.. فهممت أن أقوم، ثم بدا لي وتر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فقلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن وتر رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قالت: كنا نعد له سواكه وطهوره، فيبعثه الله كما شاء أن يبعثه من الليل، فيتسوك، ثم يتوضأ، ثم يصلي ثمان ركعات لا يجلس فيهن، إلا عند الثامنة، فيجلس ويذكر ربه تعالى ويدعو، ثم ينهض وما يسلم، ثم يقوم ليصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله وحده، ثم يدعوه، ثم يسلم تسليما يسمعنا. ثم يصلي ركعتين وهو جالس بعدما يسلم، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني، فلما أسن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وأخذ اللحم أوتر بسبع ثم صلى ركعتين وهو جالس بعدما يسلم، فتلك تسع يا بني. وكان رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها. وكان إذا شغله عن قيام الليل نوم أو وجع أو مرض صلى من نهار اثنتي عشرة ركعة. ولا أعلم نبي الله [صلى الله عليه وسلم] قرأ القرآن كله في ليلة حتى أصبح، ولا صام شهرا كاملا غير رمضان... "
وكان هذا الإعداد للقول الثقيل الذي سينزله الله عليه..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وفعل {قم} مُنزل منزلة اللازم فلا يحتاج إلى تقدير متعلق لأن القيام مراد به الصلاة، فهذا قيام مغاير للقيام المأمور به في سورة المدثر بقوله {قم فأنذر} [المدثر: 2] فإن ذلك بمعنى الشروع كما يأتي هنالك. و {الليل}: زمن الظلمة من بعد العشاء إلى الفجر، وقيام الليل لقب في اصطلاح القرآن والسنة للصلاة فيه ما عدا صلاتي المغرب والعشاء ورواتبهما.